"ايه اللي أنت بتعمله ده أنت اتجننت؟!" صرخت بوجهه عندما جذب ذراعها في عنف ثم صفع باب السيارة ودفع بجسدها بصلابة ليرتطم بالسيارة واقترب منها ناظراً لها ثم صاح بوجهها
"أنتي عيلة صغيرة على كل اللي عملتيه ده النهاردة؟ ايه طفلة؟ مش عارفة تميزي بين الالتزام والأفورة والصح والغلط؟! ومش نبهتك إنك متاخديش قرار من غير ما ترجعيلي؟ ايه بقا اللي جاب سيرة إننا فجأة كده ننزل مواقع.. لو مش عاجبك اسلوبي اتفضلي امشي، إنما تتعديني وت**ري كلامي اللي نبهتك عليه من أول دقيقة ليكي في الشركة.. ايه بتستعبطي يا زينة ولا ايه مش فاهمك؟!" صرخ بوجهها بنبرته الرجولية التي قد استمع لها جميع من بالمنزل وشعر بدر الدين بالقلق الشديد عندما رآه بتلك الحالة من شرفة غرفته
"يا اهطل يا ابن الغبي.. ايه اللي أنت بتهببه ده بس" تمتم ثم توجه مسرعاً للأسفل حتى ينقذ الموقف
"يا سلام!! لا يا سليم اعرف إنك بتكلم واحدة زيها زيك في الشركة، لما أنت اللي مش عاجبك أسلوبي أنت المفروض اللي تغير من أسلوبك، وبعدين ايه الـ Over اللي عملته؟! وايه اللي ملتزمتش بيه؟! أنت راكب دماغك كده ليه وبتتحكم في كل اللي حواليك بالطريقة الزفت دي.. لو هما شوية هُبل ومستحملينك يبقا يكون في علمك أنا مش هاقبل طريقتك دي واياك تمد ايدك عليا بالطريقة دي تاني.. أنا بحذرك، احترم نفسك يا سليم! فاهم ولا لأ؟!" صرخت هي الأخرى بوجهه ليسحق هو أسنانه غضباً بينما كلمتها الأخيرة تركته مندهشاً رافعاً احدى حاجباه في تمرد
"احترم نفسي عشان جريتك من دراعك برا العربية.. وهو شهاب بيه لما كان ساندك ده كان اسمه ايه؟! ولما هو فضل سايب ايده عليكي كان اسمه ايه؟ مقولتيلوش يحترم نفسه ليه ولا عاجبك اوي وداخل دماغك عشان كده سيبتيه يعمل اللي هو عايزه؟ عشان كده رايحة تهزري معاه قدامي ومسخسخة على روحك من الضحك اوي واحنا بناكل وكل شوية تمسكي في دراعه قال ايه يا عيني هتقعي.. لما تحترمي نفسك أنتي الأول ابقي تعالي اتكلمي على الاحترام"
"لا أنا محترمة غصب عن عينك .. وبعدين أنت مالك ما أهزر مع اللي أهزر معاه براحتي"
"مالي إني ابن خالك يا هانم وعيب اللي أنتي عملتـ.."
"وهو ابن عمي ومفرقش عنك حاجة" هنا قاطعته لتنفجر حمرة الغضب بوجهه مجددا
"بقا أنا يا زينة بتقارنيني بواحد حيوان زي ده"
"ماله يعني.. أنت أحسن منه في ايه؟! ليه شايف نفسك أحسن من الكل؟ وبعدين بطل بقا تكبير للمواضيع ومتتعاملش معايا تاني احسنلك غير في اطار الشغل ده لو كملت معاك أساساً.. فاهمني ولا أعيد كلامي تاني؟؟"
"جرا ايه يا ولاد صوتكوا سمعته كل الفلل اللي حوالينا" هنا تدخل بدر الدين الذي حاول أن يُبعد سليم من أمامها
"سيبني يا بابا"، "سيبني يا خالو" صاحا في نفس الوقت ليرفع بدر الدين حاجباه في دهشة
"بصي يا زينة، وكويس إن بابا حاضر وسامع كلامنا، لو ماتعدلتيش واتعاملتي بإحترام ونفذتي كل اللي بقول عليه في الشغل أنا هيكون ليا تصرف تاني.. اعتبري إن النهاردة كان درس ليكي وده أول وآخر تحذير!! ياريت متنسيش الكلام ده وتفهميه كويس وتفهمي إن عشان كان أول يوم ليكي النهاردة أنا مردتش اهزئك قدام الناس!" صاح بها وأنفاسه التي تثاقل غضباً تتابعت في سرعة جنونية دفعت ص*ره أسفل قميصه الرسمي ليعلو ويهبط بطريقة غريبة لم يرها بدرىالدين أبداً على ابنه من قبل.
"بص أنت يا سليم، انا معدولة وبتعامل بإحترام ومش أنا اللي هتقبل باللي يقولها اعملي ومتعمليش.. واعتبر بردو ده أول وآخر تحذير ليك.. مش أنا اللي هتتعامل بالإسلوب ده.. ويكون في علمك لو بس فكرت تهزئني قدام حد أنا مش هاسكت وهارد الكلمة بمليون!! وعشان ده كان أول يوم تجربني في الشغل وتعرف إسلوبي هعديها بمزاجي.." صرخت هي الأخرى بوجهه ثم رمقته بنظرة غاضبة بينما كانت زرقاوتاها الغاضبتان قاربت ذرف الدموع "بعد اذنك يا خالو" استأذنت من بدر الدين لتوجه ظهرها لها وتغادرهما على الفور!
"خد ياض يا اهطل تعالى هنا" أقترب بدر الدين من سليم محاوطاً عنقه بذراعه ليجذبه نحوه
"بابا مش وقت هزار الله يخليك" صاح سليم بضيق واضح وعقدة حاجبان جلية
"يا غبي.. حد يعمل في البسكوتة دي كده؟! ما براحة يا عم الشرس مش كده!" أخبره بدر الدين وهو لا يزال يقربه منه بينما حاول سليم الإفلات منه ولكن لم يدعه والده
"بص متجبليش سيرتها الساعادي لحسن أطلع أولع فيها" تحدث بأنفاس متثاقلة وغيظ واضح
"جرا ايه ياض هتتنرفز على ابوك كمان ولا ايه؟! ولا فاكرني مبقتش قادر عليك يعني؟!" حاول بدر الدين تصنع الجدية بينما سودواتاه المازحتان وشفتاه اللاتي لانتا في ابتسامة لم تدعا سليم إلا بزفرة حانقة "اهدى يا وحش وقولي ايه اللي حصل خلاك كده؟" ترك بدر الدين عنقه ثم دفعه بخفة من ذراعه لأقرب أريكة بحديقة منزله "تعالى تعالى فهمني واحكيلي براحة كده"
"يا بابا مش ممكن، عِند في كل حاجة، بتصغرني قدام الكلب اللي اسمه شهاب الدمنهوري ده، وبتضحك وبتهزر معاه ولا كأنهم متربيين مع بعض، وتروح الموقع من غيري وتسيبني وتروح معاه، وأصلاً أخدت القرار ده فجأة، وقال ايه نروح نتغدا معاه.. أنا مش فاهم ليه بتعمل كده، بس ورحمة أمي لو ما لمت نفسها لا هيكون ليا تصرف تاني معاها خالص!" أخبره بين أنفاسه الغاضبة المغتاظة من أفعالها جالساً مباعداً بين ساقاه متكئاً بأحدى يداه على فخذه شارداً في الفراغ وهو يتذكر كل أفعالها اليوم ليزداد سخطه تجاهها
"غيران يعني ومحموق اوي!!" أومأ بدر الدين في تفهم ماططاً شفتاه ليلتفت له الآخر بعينتين اتسعتا دهشة واحتدمتا حنقاً
"غيران ايه يا بابا بقولك عـ.."
"لما تيجي تعمل حركاتك دي تروح تعملها على زينة مش عليا، أنا بابا يالا.." قاطعه ثم وكزه على ذراعه ليتابع
"كل الهري اللي أنت قولته ده بتتكلم عن طريقتها مع شهاب ومتغاظ إنك معرفتش تكلفتها قدامه.. ومن غير ما تقول أنا فاهم إنك بتفصل كويس بين الشغل وأي حاجة تانية، علشان كده مستحملتش واتضايقت واتجننت كده لما الموضوع جه من ناحية زينة.. اهدي يا سليم! زينة عمرك ما تعرف ت**بها بالأسلوب ده أبداً" زفر سليم ثم التفت لينظر بالفراغ أمامه مرة أخرى
"أنا زهقت بجد.. زينة رجعت واحدة تانية، شوية هادية وشوية مجنونة، ساعات احس إننا بنقرب وفي أغلب الوقت بشوفها بتبعد عني، تصرفاتها مبقتش اقدر اعرفها، بقت غريبة اوي أكتر من الأول حتى.. يعني زمان كنت شايفها مختلفة عن كل البنات وذكية وهادية وعاقلة.. إنما دلوقتي مبقتش عارفها خالص زي ما تكون واحدة بقابلها من اول وجديد وعمري ما عرفتها قبل كده! وكله كوم والكلب اللي اسمه شهاب ده كوم.. فيه حاجة مش مريحاني من ساعة ما شوفته" لانت نبرته وهو يتحدث لأبيه وفاضت بالآسى والحزن
"استنى بس.. بالنسبة لزينة أنت فِكرك هي عارفة نفسها؟ ولا مبسوطة باللي هي فيه؟ زينة نفسها مش عارفة هي عايزة ايه! تعرف امبارح لما أقنعتها بالهدوء وبراحة إنها تشتغل في الشركة زي ما هديل عايزة، البنت قِبلت الكلام عشان اسلوبي معاها كان هادي وحنين، لكن هي أصلاً مش عارفة هي عايزة ده بجد ولا لأ.. كلامها كله بيقول إنها معندهاش خطط مثلاً إنها تشتغل أو تعمل حاجة معينة، مهزوزة ومترددة في كل حاجة ما عدا حاجتين هي متأكدة أوي منهم، إن محدش يفرض عليها حاجة، وإنها تبعد عن كل اللي هنا بأي طريقة!" تن*د بدر الدين ثم استدعى انتباه سليم ليُكمل كلامه له
"بص يا سليم، مش هاقولك تكون حنين امتى ولا تكون شديد وتقيل معاها امتى، إنما زينة عشان ت**بها لا تفرض عليها حاجة ولا تحسسها إنها مُجبرة تكون معاك! وامسك أعصابك شوية يا اخي!" تفقده سليم بعينتين امتلئتا حيرة وتردد وقد لان غضبه وحنقه اللاذعان، ولكن جملة والده الأخيرة حولت تلك النظرة لنظرة مستفسرة سائلة
"مش دي اللي تطلع عليها غيرتك بالمنظر ده.. ويوم ما تعمل حاجة تخليك تغير عاملها ببرود وهدوء ويوم ما تيجي تقولك مالك ابقا اتعصب يا عم بس مش كده.. البت بسكوتة هتت**ر في ايدك يا ابو قُصة أنت"
"قُصة!!!" كرر كلمته في تعجب ليتلمس جبينه وقد وجد بعض الخصلات بالفعل قد تناثرت على جبينه
"روح يا عم احلق ولا حطلك شوية Gel.. أقولك، قوم كده استحمى واهدى وخش اتعشى من أكل امك الفظيع ده.. واعمل حسابك إننا محتاجين نرجع الـ Gym تاني.. أكلها ده هيبوظلنا كل حاجة"
"لا معلش يا بدر.. أنت اللي بتعجز مش أنا وشكلك هتملى قريب"
"اعجز مين ياض.. تحب أقوم أجيبك على الأرض دلوقتي" جذب عنقه مرة ثانية بذراعه اللتي لا زالت قوية ويده الأخرى تحولت لقبضة صلبة تعبث برأسه فوق شعره
"خلاص يا عم undertaker خلاص.. سيبني بقا"
"قوم يالا اتعشا ونام واعمل حسابك إننا رايحين النادي بكرة الصبح.. يالا على ما أشوف المجنونة التانية! تصبح على خير"
"وأنت من أهله"
*******دلفت تلك الغرفة التي أعتادت أن تمكث بها في منزل بدر الدين وقد استشاطت غضباً من كل ما حدث معها اليوم وأسلوب سليم اللاذع معها، تحكماته اللانهائية، ماذا فعلت هي ليعاملها بتلك الطريقة؟! تلك الأيام الماضية قد قاربت على تصديق أن أسرة بدر الدين بأكملها هي الأقرب لها من بين جميع أفراد تلك العائلة، ولكن ما فعله سليم اليوم قد تعدى حدود استيعابها وأصبح غير مقبول بالنسبة لها.
لربما هي اقتنعت قليلاً بكلام خالها الذي اقنعها به ليلة أمس، لربما ظنت أن العمل بالشركة قد يضمن لها ولو لمحة من ذلك المستقبل الذي تتخيله وتتصوره لنفسها ولكنها أدركت بعد كل ما حدث اليوم أنها ابتعدت بُعداً تاماً عن كل ما تمنته وخططت له في حياتها!
نهضت بطريقة هيستيرية لتجمع كل ما يمكنها أن تحتاجه بدلاً من الذهاب لمنزل العائلة الذي يمكث به أخواتها ووالدتها، هي حتى لا تكترث لما ستأخذه أو حتى ستبتاع الأغراض التي ستحتاجها عند عودتها لألمانيا، ستتحمل أي شيئاً كان ولكنها لن تكمل عملاً أم حياةً مع تلك العائلة.
أغرورقت زرقاوتاها بالدموع كلما عصفت على ذاكرتها بعضاً من تلك الجمل الكريهة التي طالما وجهتها لها هديل والدتها وكل أمر كان يخص حياتها، من هواية لدراسة لسفر وحتى لطريقة تربيتها لها وتمييز أخواتها جميعاً عنها وهي لا تدري لماذا ينظر لها الجميع وكأنها عالة عليهم أو كأنها غريبة الأطوار فهي حقاً لم تبالغ في شيء من قبل..
"بردو الزفت التشيللو دي.. مش قولتلك مليون مرة سيبيها من ايدك واتفضلي شوفي مذاكرتك.. هاتيها بقا كده.."
"بس يا ماما النهاردة الخميس و.."
"من غير بس.. اياكي أعرف إنك روحتي من ورايا تستقوي بسيف ولا بدر ولا جدتك عشان تجيبي واحدة جديدة" صرخت والدتها محذرة ثم أخذت تهشم الآلة على الأرضية "وادي اهى عشان ترتاحي خالص.. اما تبقي تخلصي دراستك واللي وراكي ابقي روحي بقا شوفي المزيكا بتاعتك"
تذكرت ذلك اليوم العصيب الذي صممت هديل فيه على ت**ير تلك الآلة لأشلاء وهي لم تستطع سوى البكاء، فسيف والدها لم يكن متواجداً بالمنزل من أجل العمل، لم تعرف وقتها لماذا هي عليها أن تتخصص بالقسم العلمي حتى تدرس مواد لا تحبها حتى تكن مهندسة يوماً ما.. لماذا هي دوناً عن بقية أخواتها من تقسو عليها والدتها بتلك الطريقة؟!
فها هو إياد التحق بكلية التجارة باللغة الإنجليزية، وهذا عاصم قد التحق بكلية الإعلام، وأروى منذ أن عرفتها وهي مصممة على الإلتحاق بكلية إدارة الأعمال، وآسر بالرغم من سوء مستواه الدراسي لا تعامله بنفس الطريقة، لماذا إذن هي؟!
انهمرت الدموع على وجنتيها وهي تتذكر مدى تحكم هديل عندما ودت زينة أن تدرس بالخارج وبالرغم من أنها لم تكلفها أموالاً لحصولها على منحة مدفوعة ولكن كالعادة رفضت رفضاً قاطعاً أن تدرس زينة بالخارج حتى انتشلت هي نفسها تلك الفكرة من رأسها تماماً ولكن لولا وجود سيف وبدر الدين لاهما بجانبها لما كانت تركتها هديل وشأنها..
تلك الأيام كانت الأصعب عليها، كانت تعاني بها من كثرة النوبات المتتالية التي لم تفارقها ولو لليلة واحدة، تلك الليالي تأكدت أنها تكره صوت والدتها وقراراتها وتحكماتها وأرائها وكل ما يتعلق بها لتبدأ دموعها في تكوين غمامتان أمام زرقاوتيها وبدأت نبرتها في النحيب بصوت هامس..
"ماما يا بابا مصممة مسافرش، هي ليه بتعمل كده فيا، أنا جبت مجموع كويس وجيالي منحة، هي عايزة ايه مني تاني بس، ليه مش موافقة؟"
"معلش يا زنزون اهدي.. أكيد هي مش عايزاكي تبعدي عنها وتبقي جنبها وخايفة علـ.."
"لا يا بابا أرجوك، ماما عمرها ما خافت عليا ولا فرق معاها أنا بعمل ايه ما دام على مزاجها عمرها ما هتقولي لأ.. لو سمحت متحاولش تقنعني بالكلام بتاعك ده، أنا زهقت منها، زهقت من انها رافضة كل حاجة في حياتي بعملها، اشمعنى أنا؟ أنا ذنبي ايه؟! إنك مدلعني شوية عشان أنا الصغيرة؟ أنا مش عايزة دلع، أنا عايزة الناس تسيبني في حالي، ألبس بإختياري وأدرس بإختياري وأعمل ولو لمرة حاجة نفسي فيها.. حرام بقا يا بابا، حرام اللي هي بتعمله فيا ده، أنا مبقتش مستحملة، ليه كده بس.." قاطعته ثم اجهشت بالبكاء بصوت عالٍ بنهاية حديثها وصاحب دموعها صراخ هستيري ولم يتوقف وقتها إلا عند إحضار الطبيب..
عادت من تلك الذكرى المفجعة لأرض الواقع لتشعر بإنعصار خلف قفصها الص*ري وهي تتحرك بهيسترية بالغرفة لا تدري أتجمع أشياءها أم لا.. هي لا تدري ما تريده، لقد وقعت في حفرة ما تفصلها عن الواقع ولا تشعر بها سوى بالآلام التي تنغرس بص*رها وكما أن عقلها لم يعد يساعدها أبداً بتذكره لتلك المواقف..
"ايه يا حبيبتي بتعيطي ليه بس؟!" تحدثت نجوى سائلة لحفيدتها التي قاربت عامها السابع للتو
"ماما مش عايزاني البس الهدوم اللي بحبها ولبستني اللبس ده.."
"طيب متعيطيش وأنا هاجبلك كل اللبس اللي انتي عايزاه" أحتضنتها كي تكف عن البكاء
"لا هي قالتلي متقوليش لحد، وزعقتلي جامد، وقالتلي ده مش لبس عيد ولبسي وحش وجابتلي لبس من عند أروى"
"مين قالك إن حد هايعرف حاجة.. بصي روحي لخالو بدر وقوليله إنك عايزة تروحي تقعدي عنده وأنا هاجيلك هناك وكل يوم هاننزل نشتري اللي احنا عايزينه.. أتفاقنا؟!" ابتسمت لها نجوى لتومأ الصغيرة بالقبول ثم ازاحت نجوى دموعها بعيداً "يالا روحي بس اقعدي جنب بابا وماما وبعدها بشوية روحي لخالو بدر"
"حاضر يا تيتا"
لا تدري من أين آتت تلك الذكري السيئة برأسها، فهذه كانت أول مرة تعترض هديل على ملابسها الملونة بطريقة غريبة ولكنها لم تكن الأخيرة، حتى ملابسها وما ترتديه تتحكم به، إلي متى ستظل معترضة ومتحكمة في حياتها هكذا؟!
"مامي أنا زهقت زينة كل شوية بتعيط وعايزة بابا" تحدثت أروى بإنزعاج
"سكتيها ولا شوفيلها صرفة أنا مش فاضية وبشتغل.. يالا انتوا الاتنين من هنا وأنتي أختها الكبيرة واتحملي المسئولية ومش عايزة حد فيكوا يقرب من هنا طول ما أنا بشتغل" أخبرتها هديل بإنزعاج لتذهب اروى متوجهة نحو عاصم وهمست شيئاً ما بأذنه ثم عادت أروى بإتجاه زينة
"زنزون اطلعي في اوضتك وبابا جاي خلاص" ابتسمت لها بسماجة لتتوقف زينة عن البكاء فوراً
"بجد" صاحت زينة في فرحة طفولية لتومأ أروى لها فاندفعت تلك الصغيرة على الدرج الداخلي للمنزل حتى تنتظر والدها الذي ظنت أنه سيأتي قريباً مثلما أخبرتها أختها وما إن دلفت حتى استمعت لصوت المفتاح بالباب يُعلن عن إغلاقه من الخارج، بينما سمعت همس كلاً من أروى وعاصم خلف باب الغرفة لتُكمل صراخها وحدها لوقت طويل ولم يجيبها أحد ولم يفتح لها الباب سوى خالتها شاهندة التي عادت في وقت متأخر.
لا تعرف لماذا تتذكر كل تلك الذكريات الكريهة الآن، لقد حاولت انتشالها من رأسها مرات لا نهائية وقد ظنت بالفعل أنها قد نستها تماماً ولكن يبدو أنها كانت تخدع نفسها، فتلك التفاصيل الصغيرة لا زالت تتذكرها وتنتعش برأسها من حين للآخر ولن تتركها أبداً ولكن الآن قد تشتت عندما سمعت طرقات على باب غرفتها..
"سيبوني لوحدي.. أنا هامشي من هنا ومش هاكمل شغل في الشركة دي" صرخت بهيستيرية ولم تتبين حتى من الطارق ولكن تصاعد قلق بدر الدين الذي تعجب من نبرتها التي عرف أنها قد تأثرت بفعل البكاء واندفع داخل الغرفة دون مقدمات لتقع عيناه على حقيبة سفر قد أُلقيت بها بعض الملابس وأغراض أخرى بعشوائية تامة.
"زينة اهدي يا حبيـ.."
"لا يا خالو مش هاهدى" قاطعته صارخة وهي لا زالت تبكي "أنت كل مرة تفضل تقنعني، كل مرة تفضل تهدي فيا، بس لغاية امتى هافضل اجري عليك عشان اقولك الحقني؟ بابا مات خلاص، فاهم يعني ايه؟ يعني مش هينقلك حاجة يوم ما ماما تضايقني تاني، محدش هيقولك حاجة غيري، وهافضل أنا الصغيرة التافهة الغريبة النكدية اللي بتروح تستنجد من وراها بالناس.. لا أنا مش هاعمل كده، أنا مش هافضل صغيرة ومش هاسمع كلام حد تاني.. حرام عليكو بقا، ليه؟ ليه هي عايزة دايماً تتحكم في كل حاجة؟ ليه مش من حقي أختار وأكون إنسانة؟ ليه سليم عاملني كده؟ وليه أنت عايزني أفضل موجودة، كلكوا عيشتو من غيري خمس سنين.. انسوني بقا وسيبوني في حالي.. أنا تعبت من كـ..." شهقاتها المتلاحقة وبكاءها الهيستيري الذي بالكاد استطاع بدر الدين تبين بعض الكلمات من خلاله لم يتركها إلا متحكماً بأنفاسها المتوالية في سرعة شديدة انتهت على اثرها بالصراخ المتلاحق وما أن سمع كلاً من سليم ونورسين وسيدرا صوتها الصارخ حتى اندفع الجميع نحو غرفتها!
"بابي فيه ايه؟!" صاحت سيدرا في اندهاش ثم اندفعت نورسين للداخل لتحاول معانقة زينة التي لا زالت تصرخ بطريقة غريبة ولكن كلتا يداها تشنجتا بطريقة غريبة أمامها وكأنها تمنع أي احد من الإقتراب نحوها أمّا سليم الذي قد تمزق قلبه لملامحها التي يتذكرها جيداً كلما عانت قبلاً من تلك النوبات حتى اندفع للخارج مسرعاً ليحدث الطبيب.
"نورسين.. خدي سيدرا وأخرجي برا" تحدث بدر الدين آمراً بلهجة محذرة لتومأ نورسين التي فشلت للتو في تهدئة زينة وبدأ كل ما من وجهها ويدها وعنقها في التحول للون الأزرق
"يالا يا حبيبتي.. هي هتكون كويسة.. تعالي معايا" همست نورسين لإبنتها لتومأ سيدرا لها في تفهم ولكن لا زالت ملامحها متجهمة ومستفسرة عما يحدث لزينة فهي لم تراها من قبل بتلك الهيئة، هي فقط تتذكر أنها كانت مريضة بتلك النوبات ولكنها لا تتذكر ما كان يحدث لها بكل التفاصيل فلقد كان ذلك منذ سنوات.
لم يحدث له من قبل أن يغضب تجاه نفسه بتلك الطريقة فقط لسماع صوتها الصارخ وهو يظن بداخله أن كل ما هي به الآن من تلك الهيستيريا هو السبب به، لم يقصد أن يؤثر غضبه عليها بتلك الطريقة، لو كان فقط يعرف ما قد يحدث لها إن غضب عليها بتلك الطريقة لما كان فعلها أبداً.
أنهى مكالمته مع الطبيب ثم توجه بوجه احتقنت به الدماء لغرفة زينة أخذاً خطوات واسعة وهو بداخله مستعد لفعل أي شيء حتى تتوقف عن تلك الحالة التي يظن أنه هو السبب بها.
دلف الغرفة في انفعال ليلتفت بدر الدين إليه ولا زالت زينة على حالتها تلك بين البكاء الشديد الهيستيري الذي يتسلله الصراخ ويداها المتشنجتان يمثلان عازلاً أمامها وكأنها تحصن نفسها من الجميع!
"سلـ.."
"بابا سيبني مع زينة" قاطعه بجدية ليتعجب بدر الدين
"بس لـ.."
"ارجوك يا بابا سيبني وأنا هاتصرف معاها" صاح مجدداً مقاطعاً أبيه ولكن بداخله كان يتمزق قلبه لرؤية ملامحها وجسدها الذي تشرب بالزرقة وسماع صوتها الباكي الذي دفع كل قطرة دماء بعروقه للإنتفاض غضباً.
تريث بدر الدين لبرهة ولأول مرة يواجه ذلك رد الفعل من سليم، بالرغم من قربهما الشديد وعلاقتهما التي تشابه صديقاً وصديقه ولكن رؤية تقاسيم وجهه وملامحه وتلك النظرة بعيناه لم يسعه إلا التصرف كصديقه الآن وسيترك كونه أباً ووالداً له لاحقاً حتى يتحدثا معاً وترك له الغرفة على مضض ناظراً له بسودواتيه نظرة لا تبشر بالخير ولم يكترث الآخر لأياً ما سيحدث وكل ما أراده هو تهدئة تلك التي انزوت بأحدى أركان الغرفة أرضاً ولم يعد يتحمل أن يراها بتلك الهيئة.
وصد الباب خلف والده ليسحق بدر الدين أسنانه غيظاً وتوقف عن التحرك لبرهة وتثاقلت أنفاسه في غضب من تصرف سليم فمهما كانت مشاعره نحوها هو لا يزال في منزله ولا يحق له أن يتواجد معها وحدها بتلك الطريقة وخاصةً وهو متواجد تحت نفس السقف وكاد أن يعاود أدراجه ويخرجه من الداخل ولكن أوقفته نورسين التي لاحظت تشبع ملامحه للغضب لتهمس له بإبتسامة مقتضبة ونبرة واثقة
"اهدا واستنى وتعالى معايا.. سيبهم سوا سليم هيعرف يتصرف"
نظر لها بجدية شديدة ولم يعجبه واقع تلك الكلمات التي سقطت على مسامعه ولكن يعرف كم أن غضبه لاذع قد يدفع حالة زينة للأسوأ لذلك ترك كل ذلك جانباً وزفر في حنق وتابع طريقه متوجهاً للخارج وكذلك تبعته نورسين في صمت.
*******
توجه سليم نحوها ثم جلس بجانبها أرضاً وأسند رأسها إلي ص*ره ليحتويها به واحاط ذراعاه حولها رغماً عنها ورغماً عن تلك الصرخات والتشنجات التي يشعر بإنعكاسها على جسده بأكمله وقربها منه بشدة حتى تلاصق جسديهما ثم أخذ يهمس بأذنها بعض الكلمات التي يظن أنه ستهدأ من روعها نوعاً ما بعدما أخذت تلك النوبة بعض الوقت وتمنى بداخله أن ربما كلماته ستعيدها إلي الواقع
"زينة.. زينة.. اسمعي.. بصي، اللي أنتي بتعمليه ده مش هيغير حاجة، بصي لازم تكوني قوية، عشان نفسك قبل أي حد.. فوقي من العياط وفوقي من كل الكلام ده، سمعاني يا زينة؟!" لاحظ تشنجاتها تزداد بين يداه ليحاول هو السيطرة على ذلك الغضب الذي تزايد بداخله عندما تزايد ارتجافها بين يداه
"زينة!!" صرخ بها ليسترعي انتباهها وأمسك برأسها محدقاً بتلك الزرقاوتين اللاتي تقتلاه بحبات اللؤلؤ الصافي تلك التي تتهاوى على وجنتيها "فوقي .. افتحي عينك وبصيلي .. واسمعي كلامي ده كويس" كوب وجنتيها بين كفيه ثم صرخ بها غاضباً حتى يشعر بأي استجابة منها وها هي قد توقفت عن التشنج وكأنها خرجت من غيبوبة الصرع الشديدة خاصتها التي غابت بها وانعزلت بداخلها بعيداً عن العالم وعادت تلك النظرة المتحدية بزرقاوتيها التي تشعبت بحمرة البكاء
"أنا ماشية.. مش هافضل هنا.. انتو ليـ.."
"مش حل إنك تمشي.. الحل إنك تواجهي" صرخ بها ليقاطعها بإنفعال وقد اقترب بدر الدين مجدداً من الباب وكاد أن يدلف ولكن نورسين قد منعته "هتفضلي لغاية امتى تجري وتبعدي؟ فكرك إن ده حل؟ فاكرة إن كده هديل هتبطل ولا أروى ولا أنا نفسي هبطل.. متضعفيش.. قومي وصرخي في وشنا كلنا، لكن متجريش وتبعدي وتحملي نفسك ضغط.. كفاياكي بقا، هتفضلي لغاية امتى كده؟! زينة!! أنتي قوية، عيشتي لوحدك برا خمس سنين، من غير ما تيجي هنا ولا مرة، من غير ولا زيارات ولا مقابلات، يعني بتنفذي اللي في دماغك.. سواء اللي قدامك وافق أو موافقش انتي بتعملي اللي انتي عايزاه، اللي يزعقلك مرة زعقيله مليون.. متقبليش حاجة ع** إرادتك ولا تسيبي حد يتحكم فيكي، بس بردو متهربيش، عمر ما الهروب كان حل.." لانت نبرته وهدأت عندما تلاقت تلك الزقاوتان الباكيتان بعسليتاه الداكنتان للغاية بينما تبادلا الأنفاس المتثاقلة فلقد أنهكا، هي بتحملها كل تلك الأفكار والذكريات السيئة أمّا هو فلم يعد يطيق تحمل رؤيتها بهذه الحالة ولا ذلك الضعف.
سمعا طرقات على الباب وبكل ما اوتي من قدرة على سيطرة بمشاعره أخفض يداه عن وجنتيها ثم نهض لتنهض هي الأخرى وامسكت بيده في وهن ليجلسها على احدى الكراسي بالغرفة ولكنها أشاحت بنظرها للأرضية فلقد تضارب كل شيء داخل عقلها وكأنها في حالة انعزال وغيبوبة عن الواقع، أم هي مدركة ما يحدث حولها؟! هي حقاً لا تعلم.
"ايوة" توجه سليم ليفتح الباب لتتلاقى داكنتاه بعينا والده السوداوتان وقد رأى بهما حنقه الشديد
"الدكتور جه.. اطلع برا الأوضة وسيب نورسين معاها" حدثه بجدية وحزم ناظراً له بغضب ثم توجه تاركاً اياه ليتبعه سليم شاعراً بالضيق من تلك النظرة التي وجهها له أبيه للتو.
*******
"عاجبك ابنك واللي بيعمله ده؟!" تن*د بدر الدين سائلاً بينما توسد ثدييها ضامماً جسدها إليه بقوة
"ما تهدى بقا، أنت مش اتكلمت معاه وطالعلي بتضحك؟ ولا قلبت تاني وغيران بقا؟!" همست له في تحفز ليرفع نظره إليها واحدى حاجباه قد صاح بالإعتراض لينتفض في إنكار
"هغير من ابني؟!"
"اه هتغير من ابنك.. هو فيه زي سولي وحنيته.. عشان بس كان عامل زي الأسد ساعة ما زينة تعبت وكلم هو الدكتور وهو اللي عرف يفوقها أنت غيرت شوية، عايز تسيطر أنت على الكل وتعمل كل حاجة بنفسك.. بس نصيحة مني خليه هو بقا يبتدي يعمل كل حاجة.. سيبه هو هيعرف يتصرف كويس معاها عشان زينة محتاجاه، وبعدين يا ذكي بدل ما تفهمها وهي طايرة، ده واخد من المنبع، زي ما اخد منك الشغل وزي ما عارف يسيطر على سيدرا وممشي الدنيا حواليه زي الألف، تفتكر مش هيقدر عليها.. اديله فرصته بقى"
"خليكي كده مقوياه عليا.. وابقي اديله فرصته ياختي براحتك.. أنا هنام" زفر في ضيق ثم تركها وووجه ظهره لها متكئاً على جانبه "يالا تصبحي على خير"
"ملك الكون!!" همست له بدلال بعد أن نهضت على ركبتيها وداعبت ص*ره بأناملها بعد أن احاطته بذراعها "هتنام زعلان مني عشان شايفة سولي شبهك.. مش أنت الأساس بردو ولا ايه؟!" همست بأذنه في غنج ثم داعبت أسفل أذنه بأناملها لتمررها على لحيته وعنقه بلمسات ماكرة وقد أدرك جيداً ما تحاول هي فعله وخاصةً بعد تلك القبلة التي لثمته بها على عنقه.
"بلا زعلان بلا مش زعلان.. يالا نامي" تصنع الضيق منها ولكنها لن تستسلم له بتلك الطريقة
"ممم.. ما أنت عارف إني مش هاقدر أسيبك نايم زعلان" همست له مجدداً بينما أكملت مداعبة ص*ره بأناملها واقتربت للغاية منه حتى لامس ثدييها ظهره وأكملت توزيع تلك القُبل على عنقه "بس يا ملك الكون لو نمت زعلان مني أنا مش هسامح نفسي وهمنع نفسي من أكتر حاجة بحبها.. وعشان خاطرك ممكن أبطل قلة أدب معاك 3 شهور لو حابب عشان تصالحني!" همست له بمكر بين قبلاتها وهي تعي جيداً أنه سيعترض على ما أخبرته به لتوها بل وسيغضبه
"نعم ياختي.. تلت شهور ايه؟!" التفت ليعتليها في ثوانٍ
"مش أنت مش عايز تصالحني؟!" تصنعت العبوس وأشاحت بنظرها للأسفل لتهمس له مُكملة بتلك النبرة التي بعثرت رجولته
"لا بقولك ايه هتبصيلي كده وتعملي زعلانة هافضل أعمل في قلة أدب لغاية ما تجبيلي سندس!!"
"سندس مين دي؟!" نظرت له بزرقاوتان مدهوشتان
"بنتي اللي هاجيبها منك حالاً" ابتسم لها بخبث وهو يتفحص زرقاوتاها بسوداوتيه الثاقبتان
"أنت اتجننت!! سليم داخل على تلاتين سنة تقولي سندس!" تحدثت له بجدية وقد غابت نبرتها اللطيفة المتددللة
"مش عاملالي فيها جامدة ونازلة بوس وحركات ودلع.. أنا بقا هبطلك العادة دي"
"مش كنت زعلان من ابنك؟! أنا غلطانة إني كنت بحاول أصالحك! حاسب ده"
"احاسب ايه!! يحرق ابني على بنتي على الدنيا كلها.. ده أنتي مش هاتتحركي لحظة من هنا غير لما اخد كل قلة الأدب اللي أنا عايزها!"
"بدر" صاحت بدلال مرة أخرى "ده كان عشان سليم مـ.."
"ولا بس ولا مبسش.. أنتي مش هتنامي للصبح! وسيبك بقا من الدوشة والعيال والهري ده وركزي معايا اوي!" همس مقاطعاً اياها أمام شفتيها ثم بدأ في تلثيماته التي جعلتها تبتسم بين قبلتهما ثم حاوطت عنقه بذراعيها لتجذبه نحوها أكثر وشرعت في مبادلته هي الأخرى.
ابتسم بخفوت خوفاً من أن يتفلت منه ولو همهمة بسيطة قد توقظ تل التي بين ذراعيه وهو يتذكر كلمات نورسين له واتفاقهما دون أن يعلم والده ببقائه بجانب زينة طوال الليلة حتى تستيقظ هي وتجده بجانبها.
تفقدت عيناه ملامحها الهادئة النائمة وأنصت لتلك الأنفاس المنتظمة ثم ضمها وقربها إليه أكثر بين ذراعيه ولم يستطع ولو للحظة واحدة النوم أو الإستسلام لذلك النعاس الذي يعارك جفناه ليخفضهما حتى لا يترك تلك اللحظات تتفلت وتنسلت وأراد أن يستمتع بذلك القرب منها وهي بين يداه!
أتكأ بذقنه بهدوء على مقدمة رأسها وأخذ يُفكر كيف سيجد تلك الطريقة حتى تعود زينة لتسطع مرة أخرى مثلما كانت يوماً ما! يشتاق لضحكتها، لتلك الحيوية التي كانت تنطلق بها أمام عيناه، يشتاق لمناقشتها التي كانت لطالما تطرحها على والده بسبب شيئاً ما قرأته أو شيء أعجبها، يريد أن يستمع لتلك النبرة المفعمة بالحيوية مرة أخرى، يريد رؤية ذلك البريق بعينتيها مرة ثانية..
لقد سأم وحدتها وطول صمتها غير المألوف عليه، يتألم كلما رأى تغيرها اللاذع بسبب والدتها، لم يكن يتوقع أبداً أنها ستعود بهذا الأسلوب الذي غاير تماماً زينته القديمة التي عهدها، يرى الآن الطريق لها وعراً وشاقاً للغاية عليه ولكنه لأجلها سيتكبد كل ذلك العناء حتى تعود تلك العتمة الظاهرة بعيناها لما كانت عليه من قبل، يريد أن يرى تلك البهجة السعيدة والحيوية بزرقاوتيها مرة ثانية وسيفعلها عاجلاً أم آجلاً..
يفكر بالعديد من الأشياء والأفكار التي يمكن أن يساعدها ويستعيدها من خلالها، لقد طرأ حتى العلاج النفسي على عقله، ولكن ربما لن تتقبل بسهولة تلك الفكرة بل وستعود للعناد والتحدي، عليه أن ينتظر قليلاً بعد، وسيعيدها لتلك الفتاة مرة أخرى ولكن كل ما أراده أكثر من أي شيء في هذه اللحظة أن يحظى بالمزيد من قربها منه ولا يكترث لأي شيء قد يحدث لاحقاً.. وصد عيناه متن*داً بعمق ثم ضمها إليه أكثر ولم تمر ثوانٍ حتى سيطر عليه النوم!
*******
احتسى من كأسه ثم وضعه مجدداً أمامه على البار الجالسان عليه وتفقد شهاب بعناية أمام عيناه وهو يتعجب له كثيراً فدائماً ما كان شهاب بالنسبة له كاللغز الغريب الذي لم يستطع حله أبداً!
"ايه.. بقيت businessman مشهور ومش فاضيلنا ولا ايه؟!" تحدث وليد سائلاً بسخرية
"ولا مشهور ولا حاجة، المشاريع كترت بس" رفع شهاب نظره من هاتفه بعد أن وضعه بجيب سترته الداخلي
"آآآه.. قول كده.. عشان خاطر المشاريع بقا موقفلنا أي حاجة جديدة؟ ما هي دي مشاريع حلوة بردو واحنا عارفين اللعبة سكتها ايه، فأيه بقا؟"
"بص.. أنا عندي فكرة كويسة، لسه عايز أكلمك فيها، الموضوع هياخد وقت وعايزله مكان بس صدقني لو عملناها ممكن نشطب بعدها"
"نشطب.. قول بقا إنك عايز تشطب.. لكن اللي زيي كده مينفعش يشطب أبداً"
"مظنش فيه ما بيننا الكلام ده .. بس الحوار تقيل ومش سهل .. لينا قاعدة بقا كبيرة"
"لا كده واضح إن اللعب احلو اوي، القاعدة امتى طيب؟"
"سيبني اظبطها وأقولك" اجابه شهاب بإقتضاب كالمعتاد ولم يفصح عما يدور في خاطره
"تمام" أومأ وليد له بالموافقة "صحيح.. عملت ايه مع البت اللي اسمها ميرال؟!"
"هاعمل ايه يعني.. زيها زي غيرها واستحالة تقرب من حد فينا تاني"
"أنا مش عارف أنت ازاي كده بجد، تفتري ليه على النعمة، بغض النظر عن ميرال يعني أنها كانت أسخف واحدة فيهم وكانت هتموت عليك اوي، بس أنت تمسك الواحدة من دول تربطها وتعلقها وتيجي تجري وراك تاني وفجأة بيختفوا.. أنا بجد مش فاهمك.. ازاي فجأة بتبعدهم كده ويبقوا فص ملح وداب؟" نظر له في تساؤل ليهز شهاب كتفيه ثم اجابه بهدوء
"ولا واحدة فيهم قدي.. عشان كده بيختاروا يبعدوا"
"لا جامد يا عم أنت ياللي مفيش حد قدك.. قوللي بقا.. ايه حوار ولاد عمك ده؟ أنت مقولتليش يعني" تسائل وليد في تلقائية بالرغم من علمه بأن شهاب ليس من يتحدث كثيراً.
"يعني.." قلب شفتاه ثم حدق ببنيتاه الثاقبتان في عينا وليد "شايف ان شركتهم كويسة وعايزنا نقرب من بعض في الشغل"
"طيب وفيها ايه؟ ما تشتغل معاهم، ولا همّ مش كويسين؟"
"مش بالعها.." هكذا اجابه بمنتهى الإقتضاب ثم غيّر مجرى الحديث تماماً "بص.. اهدى بعد اخر موضوع عشان مش عايزين حد يفتح عينه علينا.. لغاية ما اظبطلك الموضوع اياه وارسيك على كل حاجة"
"يااااه.. دلوقتي مش عايزين عنين حد تفتح علينا، فين بس ايام زمان لما كنا عايشينها بالطول والعرض والمواضيع مكانتش بتاخد معانا وقت.. ياما نفسي ترجع شهاب القديم! موضوع رجل الأعمال ده من ساعة ما رجعت مصر وهو غيرك"
"وهو انا من ساعة ما جيت هنا مش بردو المواضيع كبرت؟"
"كبرت بس!" اخبره في مزاح "لا ده أنا المفروض اقولك يا معلم، فين بس ايام ما كنت انا اللي معرفك السكة دي.. بس لا عمري ما كنت اتخيلك تكون كده في يوم.. بقيت خطر بصراحة" صاح بإعجاب حقيقي
"ولا خطر ولا حاجة.. انا بركز بس.. عموماً لينا قاعدة تانية واصبر زي ما قولتلك ومتستعجلش .. أنا هاسيبك عشان الحق اروح .. سلام"
توجه شهاب مغادراً ليترك وليد خلفه متعجباً من أسلوبه الذي يزداد غموضاً يوماً بعد يوم!! لم يكن هكذا بالسابق أبداً ولكن بتلك السنوات الأخيرة قد تغير كثيراً، يُدرك وليد جيداً أنه لا يستطيع الوثوق به بشكل تام ولكن ما يعلمه جيداً أن شهاب لطالما كان من نوع الرجال الذين لا يكترثون سوى للأموال ولذلك هو لن يخسره أبداً وخاصةً بعدما أصبح ذلك الكيان الذي يحيط شهاب به نفسه يُسهل على وليد الكثير والكثير!
*******فاقت على أشعة الشمس التي تسللت من نافذتها وهي تشعر بآلم رأسها الذي لا يُطاق وفتحت عيناها لتصطدم زرقاوتيها بوجهه سليم الذي كان يعانقعها بكلتا ذراعيه لتضيق ما بين حاجبيها في غضب وكادت أن تصيح به لتوقظه ولكن شيئاً ما أوقفها.
تذكرت كل ما حدث منذ البارحة، طريقته معها، تلك الذكريات التي انهالت على رأسها دون تواني، وجود سليم بجانبها وتحدثه لها بطريقة اختلفت تماماص عن أي أحد من قبل..
تن*دت وهي تتفقد ملامح وجهه وخصلاته الفحمية التي انهالت على جبينه في تمرد، تعجبت كثيراً لذلك الشخص الذي أمامها، تلك الكلمات التي أخبرها بها ليلة أمس، لم يواجهها أحد من قبل بحتمية أن تكون قوية، أن تواجه الجميع، أن تنفعل مثلما أرادت، أكانت حقاً تتهرب كما أخبرها؟ لا .. هي لا تتهرب .. هي تريد من الجميع أن يتركوها وشأنها وألا يتحكمون بها!
انخفضت زرقاوتاها لتتفقد سائر ملامحه وشعرت بإنتظام أنفاسه الدافئة حتى توقفت مقلتيها على شفتاه المنف*جتان قليلاً لتتن*د مجدداً وهي تشعر أنها غارقة بالحيرة، لماذا هي مسالمة أكثر من اللازم هكذا معه؟ لماذا أيضاً هو بجانبها الآن ومتى آتى إلي هنا؟ قطبت جبينها وهي تحاول تذكر ما حدث ليلة أمس بعد أن رآت الطبيب ولكن ذاكرتها لم تسعفها ولم تعاونها بتاتاً..
شعر بتلك الأنفاس الرقيقة التي ارتطمت بوجهه على غير العادة فهو لم يسبق له من قبل النوم بجانب أحد سوى والده ففتح احدى عيناه بصعوبة وترك الأخرى مغلقة ولم تستطع زينة منع تلك الضحكة التي انطلقت منها على مظهره المضحك..
"ممم.. ده أنا طلعت بضحك اهو.. صباح الخير" همس بنعاس وهو يشعر بالسعادة فهو لم يستمع لتلك الضحكة منذ سنوات
"صباح النور" همست بين ضحكتها ليستمع لنبرتها التي لا زالت تحمل همهماتها الضاحكة
"عاملة ايه كده؟! بقيتي احسن؟" همس سائلاً وهو لا يزال يشعر بالنعاس ثم أغمض عينه مرة ثانية وقربها منه أكثر لتحمحم زينة
"كويسة بس يا سليم أنت ازاي نايم معايا هنا، وبعدين أنت أصلاً جيت امتى؟!" تسائلت في ارتباك وحاولت ابعاد جسدها عنه
"يعني قولت أغير جو كده، ما أنا بنام في اوضتي كل يوم يعني، فحبيت أخد لفة في البيت!!" اجابها مبتسماً ولا زال موصداً عيناه لتضيق هي زرقاوتيها وهي تدرك أنه يمزح
"ويا ترى خالو بقا عارف إنك بتغير جو في أوضتي وعلى سريري ولـ.."
"لا خالو ايه!!" نهض مسرعاً وترك محاوطة جسدها بذراعيه ليجلس القرفصاء أمامها وقاطعها وقد تنبهت حواسه تماماً ونسي ذلك النعاس الذي كان يُسيطر عليه منذ قليل "خالو لو عرف واحد فينا هيتقطع رقبته!"
"طب لما هي فيها قطع رقبة، نمت هنا ليه يا سليم؟!" نظرت له بإستفسار ثم نهضت هي الأخرى لتجلس أمامه وهي تحاول معرفة لماذا فعل ذلك وأخذت تتفقد ملامحه التي تحولت للجدية الممتزجة بشيء ما لم تتبينه ولكنها تابعته بنظراتها وتفحصت عيناه في جرأة
"مقدرتش اسيبك امبارح" تن*د مجيباً اياها وحدق بعينيها اللاتي تقتلاه بنظراتها المترددة ولمعة الحزن بهما ليلاحظ ملامحها بدأت في أن تعبس ولكنه قد أخذ عهداً على نفسه ألا يراها حزينة مرة أخرى منذ البارحة "متضايقيش.." حاوط وجنتيها بكفيه الدافئتان ولم تعد هي تتحمل تلك التصرفات الغريبة اتي تلاحظها اليوم منذ أن استيقظت
"أنا عارف إني زودتها معاكي امبارح .. وأنتي لسه متعرفيش مين سليم .. ممكن نتفق على حاجة؟!" تفحص زرقاوتيها منتظراً اجابتها وتقبلها لكلماته ولكن عيناها وهي تتحركا بتعجب بتلك الطريقة لا يساعداه أبداً "ممكن تعرفي الأول مين سليم؟! ممكن أقولك تتعاملي ازاي مع كل الناس اللي حواليكي؟ ممكن تشيلي من دماغك خالص إن حد يتحكم فيكي عشان أنا عمري ما هاسمح لحد بكده؟!" لم يستطع انتظار اجابتها ونطق مصرحاً بكل ما يتمنى أن يراه يتغير بها حتى تعود لتلك الفتاة التي يعشقها منذ سنوات وتعالت أنفاسه متوتراً، نعم هو يحبها، ولكن لا، هذا ليس بالوقت المناسب ليخبرها بكل ذلك
"أنت بتعمل كل ده ليه يا سليم؟!" حاولت إخفاض يداه من على وجنتيها ولكنها لا تدري لماذا وجدت نفسها تتمسك بيداه تلامسهما على تريث وشيئاً ما بعيناه جعلها تتأنى وتحدق بهما وكأنما توقفت عن الشعور بكل ما يدور حولها
"أنا بعمل كل ده عشان عايز أشوفك احسن، عشان يا زينة أنتي تستحقي حياة أحسن من كل اللي أنتي بتعمليه في نفسك ده ومن كل الضغوط اللي بتسبيها تتحكم فيكي، عشان أنا بعد اللي حصل امبارح مش هاقدر استحمل اشوفك مضايقة تاني، وعشان أنـ.."
"زينة.. صحيتي؟!" قاطعهما ذلك الصوت لتنهض زينة مسرعة في ارتباك شديد تاركة سليم خلفها لتحمحم وهي حقاً لا تكترث كيف يراها سليم الآن وكل ما أكترثت به هو كيف سيراها الجميع بعد إدراكهم أنها قد نامت طوال الليلة الماضية مع سليم بسرير واحد!!!
*******
#يُتبع . . .