الفصل الثالث :

2173 Words
تسمرت يهتز جسدها بتواتر محفوظ.. ترمش لمرات وحواسها اصبحت تعمل بجهد مضاعف.. تسمع صوت الخطوات كما لو ان ال**بر يرتدي حذاء من فلاذ.. عيناها تضاعف الرؤية لاي لمحة من جسده.. بينما يخطو للداخل ويلقي التحية على والدتها ثم يتوجه نحوها فيقف قريباً منها.. مشرفاً بطوله الفارع عليها.. فتختفي هي في عظمة وجوده.. تتلاشى.. بسرعة انخفض رأسها.. عيناها فارقته لتراقب نقطة محددة في ارضية المطبخ الواسع.. هناك حيث استقرت الملعقة.. ساكنة مثلها تماماً.. انما غير مرئية بع**ها هي.. فهو لاحظ وجودها.. والأكثر رعباً انه سمع جدالها.. صوته خرج عميقاً بارداً ليسألها بجمود لطالما زعزع ثقتها بنفسها ونشر الخوف في اعماقها : " سمعت صوتك .. لما الصراخ ؟! " لم تجب، تجمد ل**نها واخيها الكبير ينظر نحوها بهدوء شديد يرعبها.. هو كله يرعبها.. يشتت حواسها ويدفعها لدفن نفسها في اعماق ظلام روحها.. هرباً من القادم.. " لا شيء.. كنا فقط نتكلم عن المدرسة " هل كان عليها ان تكون شاكرة لجواب والدتها؟.. لم تعلم.. كل ما كانت تعرفه ان ادم عاد للمنزل.. وهو سمع صراخها.. " سمعت اعتراضها على ما تطبخيه.. صوتها المزعج وصل آخر الشارع " اغمضت عيناها بينما يده تمتد لتلامس عنقها من الخلف ليحنيه بقسوة كفه ويقول بصوت بارد جمد دمائها في شراينها: " اليس هذا صحيح ؟!.. ان لم يعجبك ما تطبخه والدتك اذا تسممي غيره.. كلي اي شيء.. او موتي جوعاً.. لكن صوتك هذا لا اريد سماعه ابداً.. اسمعت ؟!.. ابداً " ضمت يدها تغرز اضافرها في راحتها خوفاً من فقدان الوعي.. وضمت فمها تعض شفتها من الداخل حتى آلمتها خوفاً من ان تنتحب فيزعجه هذا ايضاً.. هي تتلاشي.. بوجوده تتلاشى.. تصبح مجرد ظل بلا ملامح تذكر.. " لم اسمع جوابك " " حاضر " بالكاد همست بخفوت شديد .. بصوت مشتت مرتجف وبعدها تحررت بدفعة خفيفة منه حركت جسدها للامام خطوتان.. " ساعدي والدتك بتحضير الطعام .. " " حاضر" كررت الكلمة مرة اخرى وتنفست بجزع بعد ان تجاوز المكان وغادر.. خطوات والدتها لحقت به.. مما تركها تسحب انفاس عديدة لداخلها وتبتلع غصة البكاء التي آلمت حلقها.. تحركت بصعوبة لتصل للاريكة الموضوعة في زاوية المطبخ فرمت جسدها عليها تفرك جبينها محاولة ان تخفف من ارتجافها.. ضمت نفسها تتحرك للامام والخلف لمرات وداخلها يستعيد شيء من قوته.. انها تخافه بجنون.. ذاك المسمى اخيها.. المستبد الذي يرعبها من حرف واحد.. لا من اقل من حرف.. من صوت انفاسه.. من رائحة عطره التي تنبه حواسها لقدومه.. من سير خطواته ليقترب منها.. بل حتى من ذكر احرف اسمه الثلاث امامها. بعد اقل من ربع ساعة وضعت صحن الارز على الطاولة.. والدها كان مايزال يأخذ انفاس متعددة من تلك اللفافة البيضاء ليطلق بعدها سحابة من الدخان كادت تخنقها بتلك الرائحة الكريهة .. شعره الرمادي القصير ووجهه المتجعد يجعلك تظن انه تجاوز السبعين.. بدى كجد لها وليس اب .. امها تتحرك معها لتضع الصحون الفارغة امام زوجها وابنها البكر وتبتسم بسعادة .. سعادة كانت وهمية.. من سراب .. مجرد تمني توهم نفسها به .. او ربما تصدقه هذا ما لم تكن تعرفه جوري ابداً.. واخيراً الصغير عيسى .. المدلل ذو العيون الخضراء يضع الخبز على المائدة ليعلو صوت والدها اخيراً في منزل لا يعلو فيه صوت الوالد فوق الابن البكر الا نادراً . " اجلس انت هذا عمل الفتيات " نعم ،وما عمل الفتيان ؟! .. التسلط على اخواتهم .. اردت ان تسأله لكنها ابتلعت كلماتها فادم هنا .. وهي تصبح خرساء عندما يكون ادم موجوداً بينهم .. " الى اين ؟! .. اجلسي وكلي " امر اباها لتنطلق والدتها بشكواها المعتادة امام رجلاها المفضلان : " هي لا تأكل الفاصولياء .. ولا اعلم لما .. ما الغريب بها ؟! " " اذا اجلسي وكلي ارز .. " ضممت فمها وسعلت بينما تشعر بالغثيان من رائحة الدخان الذي ما كان ليفارق والدها ابداً .. " الم تسمعي والدك ؟! " بالكاد نطق هو .. بهمس منخفض .. دون حتى اي لمحة من اهتمام.. فتحركت سريعاً لتجلس بجانب عيسى دون اي اعتراض .. بينما تنتزع والدتها ردائها ليظهر شعرها المعقود عالياً .. " هل صليت فرضك ؟! " تجاهلت الرد على والدها وصحن فارغ يوضع امامها .. بينما كالعادة تبرعت والدتها بالرد وهي تسكب الطعام في صحن أدم .. " لقد فعلت .. وعيسى ايضاً " يال السخرية .. كيف يمكن لرجل لا يوجه رأسه او جسده باتجاه القبلة ان يطالب ابنائه بانجاز فروضهم الدينية ؟! .. لشارب خمرٍ ان يوجه طفل ومراهقة الى دينهما.. والسخرية الأكبر في تسمية ابنيه باسماء الانبياء.. كم هو رجل منافق .. انما لم يكن يوماً الأول ولن يكون الآخير فأشباهه منتشرون هنا وهناك.. حركت معلقتها تعبث بها .. تعد حبات الأرز.. تتخيل مشهد مختلف خيالي.. حيث كانت الضحكات ما تملئ المكان لا هذا ال**ت الكئيب.. هذا عقاب عليها تحمله كل يوم .. هذا التجمع العائلي المقيت .. التي تجبر على خوضه يومياً.. عليها ان تتحمله .. وتدعي كوالدتها سعادة مزيفة لم تذقها ابداً .. رفعت نظرها لتجد ادم يرمقها بنظرة طويلة، وكأنه يريد ايجاد اي شيء خاطئ بها، اي شيئ ليهينها او يفرغ احباطه عليها.. فوحدها من يتحمل تبعيات مزاجه في المنزل.. اليست انثى تحتاج للتربية؟.. لقد وقع على عاتقه تربيتها ما ان تنازل الأب عن ذاك المنصب طواعية.. ******* " مع من تتكلمين ؟! " هبطت سماعة الهاتف الارضي من يدها فوق خشب الطاولة، وهي تتسمر ساحبة انفاس بطيئة جداً .. وعضت باطن خدها .. تجلدي .. اياك .. " سألتك، مع من تتحدثين جوري ؟! " " ها .. هالة " الاحرف حشرت في حلقها تأبى الخروج .. تتمنع خوفاً هي الاخرى " لاجل ماذا ؟! " ابتلعت ل**بها ورمشت تحاول ال**ود .. وهتفت بسرعة تنجي نفسها " درس الرياضيات .. عن سؤال لم تعرف حله " " ولما لم تسأليني عنه ؟! " اخفضت رأسها اكثر ووجدت اخيراً منفذ من ورتطها " كنت نائم " " هاتي السماعة " انخفضت وامسكت بها .. اصابعها ارتجفت ودعت الا تخطئ هالة فتتسبب في كارثة .. " ألو .. كيف حالك هالة ؟! .. ووالدك ؟! .. ما الذي تتحدثين به انت وجوري ؟! .. اممم .. " نظر اليها فاخفضت نظراتها فوراً .. يده امتدت لتقبض على كتفها ورغم انه لم يضغط كعادته على عظمها .. آلمها ثقل يده الذي شعرته مضاعف لمرات .. " احضري كتابك .. " تحركت بسرعة وهي تدعو ربها ان ينجيها .. لم تعرف كيف اخرجت كتاب الرياضيات وعادت .. كلها كان مرعوباً من اي خطأ من هالة " هالة .. اي صفحة السؤال ؟! .. اممم .. اي رقم .. حسناً .. انا سأشرحه لها .. اقفلي الان وبلغي والدك تحياتي .. " اغلق السماعة ثم نظر اليها للحظات .. هبط قلبها لملامحه الباردة الجامدة .. هو لا يصرخ الا نادراً .. لكن هيئته هذه ترعبها اكثر بكثير من علو صوته .. ونظرته تلك .. المحدقة المقطبة المتأملة اعماق اعماقها .. اخذ يتفنن بتركها تعد الدقائق كأنها ساعات .. ثم اعطاها الكتاب واشار اليه " افتحي على الواجب .. وارني السؤال " الامر كان منخفض .. وهوى قلبها .. اي صفحة .. اي رقم .. رباه .. ارجوك يارب .. " هذا " بالكاد غادرت الاحرف الثلاثة فمها لتغلقه مجدداً وترتجف اصابعها حول الكتاب .. انخفضت نظراته ثم سألها : " اي واحد منهم ؟! " " الرابع " " اسمعي ما سأقوله لاني لا احب اعادت كلامي .. ستختصرين صداقتك مع هذه الفتاة .. انها لا تعجبني " هتفت دون ادراك لفعلتها .. ليخرج الاعتراض شبه عالي .. " لماذا ؟!! " يده امتدت لتقبض على مؤخرة عنقها، اصابعه ضغطت هناك ليجرها اقرب اليه .. تباً لل**نك جوري .. " ما القاعدة الاولى في المنزل ؟! " " انت لا تحب الاصوات العالية .. " " والثانية ؟! " ارتجفت وعضت شفتها ثم تأوهت واصابعه تضغط اكثر " انت من تأمر .. ونحن نطيع " دفعها للامام قليلاً فتخلصت من يده لتمرر يدها على عنقها وتشعر بتجمع الرطوبة خلف جفنيها المرتجفين " احضري دفترك وتعالي لاشرح لك السؤال .. واقسم جوري .. ان شعرت انك كنت تكذبين .. وان ما حصل الان مجرد خدعة .. سيكون حسابك عسيراً معي .. " " حاضر " تحركت نحو الممر وشعرت بالضعف في ركبتيها .. يده اسندت سريعاً للحائط جانبها .. ثم مال رأسها تسنده هناك .. لقد انجاها الله .. لقد انجاها هذه المرة .. " جوري " الهتاف العالي جعلها تنتصب لتهرع نحو غرفتها جالبة دفترها الخاص وقلنها ثم تعود مجدداً لتجلس باستقامة ودون تحرك على الاريكة المفردة المقابلة له في غرفة المعيشة .. " هل حصلت على علامة المذاكرات ؟! " " الفيزياء واللغة فقط " " وما النتيجة ؟! " بللت شفتيها وضمت يدها فوق القلم تضغط عليه .. سخرية .. ان يكون يريد منعها من اكمال تعليمها .. ومع هذا .. يجن ان كانت علاماتها ناقصة .. كم منافق هو .. " لم اسمع الجواب " " تسعة وعشرة .. " " جيد .. العلامة التامة للغة صح " هزت رأسها بنعم .. وفتحت على ورقة بيضاء .. وتركز افكارها مع صوته العميق .. شرح بشكل مبسط جداً .. ادم كان بارع في نقل المعلومة .. ذكي كما لم تشهد احداً من قبل .. وقاسياً .. قاسياً خالي من العاطفة .. تماماً كذاك الكتاب بيده .. ********** تعالت الاصوات في احدى صفوف الثانوية ما ان بدأ الصباح.. جوري التي وصلت قبل دقائق لا اكثر بدأت بأزعاج زميلاتها من فورها كما كل يوم من ايام الدراسة : " اعيدي هاتفي جوري .. ارجوك .. " هتفت فتاة صفها محاولة الوصول للهاتف الحديث الذي تحمله عابثة به دون اهتمام.. فتحتجزها رنا عنوة مبعدة اياها عن جوري.. وما ان حصلت على ما تريديه حتى رمته في الهواء لتقفز الفتاة وتلتقطه قبل ان تقع فتؤذي ركبتها وتلتوي شفتها السفلى بشبه نحيب وشيك ناظرة اليها بحنق.. " ماذا ؟! .. هل انت غاضبة ؟! .. هيا تعالي واض*بيني يا صغيرة.. او اشتكيني للناظرة فتعلم بانك تجلبين هاتفك معك للمدرسة " تحركت ريم بسخط تفرك قدمها وتبتعد عنها ثم تتأمل الارقام التي كتبتها على هاتفها ذو اللون الذهبي .. " ليسامحك الله .. لن اقول شيء اخر " " هل وجدتي الصورة ؟! " سألت رنا بحبور كبير فهزت رأسها واجابت : " نعم .. والرقم ايضاً.. تلك الكاذبة قالت انه ليس معها .. " صوت هالة تدخل وهي تحاول منع رنا من دخول المقعد الخاص بها.. " تلك الكاذبة الصغيرة.. عودي لمكانك رنا " " لا اريد الجلوس قرب جوري.. " تجادلت كلتاهما قبل ان تتدخل مهادنة كلتاهما : " دعيها هالة.. فقط هذه الحصة وستعود.. لكن اجلسي بالمنتصف رنا انا لا احب الجلوس الا مكاني قرب النافذة.." بدأ درس الرياضيات ما ان حشرت رنا نفسها عنوة بينها وبين هالة.. وكانت هذه الحصة الاكثر ملل بالنسبة لها.. فاخذت تنظر من النافذة نحو الاسفل تراقب صف السيارات التي تمر من الشارع العام. يد طرقت على خشب المقعد امامها والمعلمة تهتف بحنق : " اظن ان الدرس هناك .. وليس في الشارع " " وكأن شرحك الممل اكثر اثارة من السيارات " " ماذا قلت للتو ؟! " هتفت بحنق جعل جوري ترفع نظرها ودون اي احترام تجيبها : " ليس لد*ك اسلوب تدريس .. تنقلين الدرس من الكتاب الى اللوح دون اهتمام ان فهمنا ما قلته ام لا.. تهملين الامثلة وتعبرين الصفحات التي تقولين عنها غير مهمة.. ثم تصدعين رؤوسنا انك افضل معلمة للرياضيات وانك كنت الاولى على دفعتك .. " العيون البنية حدقت بها بغضب ثم تحدتها أمرة اياها : " ان كنت ذكية لهذه الدرجة ولا يعجبك شرحي .. قومي بحل السؤال التالي " " الامر بسيط .. استعملي نظرية فيثاغورث واحسبي بعدها الزوايا عبر معادلة المثلثات الخاصة بالمثلث القائم .. ما الصعب بالامر ؟! " ردها الساخر جلب ضحكات من رنا وباقي الطلاب.. مما جعل المعلمة تصرخ بصوت عالي : " سكوت .. صديقتكم جوري ستحل باقي الاسألة .. تفضلي انسة جوري " " لا اريد .. اشعر بالبرد ولن ابارح مكاني .. ثم هذا عملك انت لا انا.. فأنت من تتقاضين في نهاية الشهر المال لا نحن.. " تواقحت عمداً ولم تبعد نظراتها عن غريمتها لتهمهم الاخيرة بخفوت ثم تبتعد مكملة عملها : " قليلة التهذيب " مال جسد زميلة مقعدها حتى كادت تلامس كتفها.. " كان عليك الخروج ووضعها في مكانها الصحيح " ردت على هالة بينما تخرج الهاتف الخاص بها من حقيبتها سراً.. مخفضة رأسها حتى اخفى شعرها الكثيف ما تفعله.. " لن احل الاسألة عنها .. فلتفعل هي .. لا يهمني رأيها او اوامرها " لامست شاشته وقلبت في الملفات الى ان وجدت الحساب الخاص بالمعلمة على تطبيق الفيس بوك.. اشارة بطلب صداقة لها من الملف السري الذي يحمل اسماً مستعاراً.. اسم وصورة لرجل وسيم في الثلاثين يحمل عيون زرقاء.. ثم ارسلت رسالة عبر المحادثة الخاصة : " في خصلات شعرك ولون عيناك.. ارى لون القهوة التي احبها.. داكنة غنية .. في خطواتك ونعومة صوتك.. نغم سنمفونية لبتهوفن .. انت يا ساحرة .. يا فاتنة برائحة الياسمين العطرة " بعد ان انهت ما تفعله نقلت الهاتف لرنا بقربها.. " ياسمين.. رقة ونعومة.. من ؟! تلك الب*عة ؟!.. انت حقودة منتقمة كاذبة.. " توسعت ابتسامتها وسحبت الهاتف منها تقفله ثم تعيده لمكانه السابق.. "ها نحن حصلنا على بعض التسلية الاضافية .. ترى هل ستوافق على طلب الاضافة ؟! .. " " ستفعل.. انها تبحث عن عريس.. تلك العانس الب*عة ستفعل تماماً كما فعلت مدرسة التاريخ البلهاء، الغارقة في حب عمر الشاب الغني الوسيم الذي اخترعناه.. " غمزتها صديقتها وحشرت يدها داخل حافظة الاقلام تخرج ممحات اصبح لونها داكن بسبب استخدامها " انتظر هذا بفارغ الصبر .. اظن انها ستدلعه بمكعب قلبها " اقترحت هالة فعضت رنا شفتها تكتم ضحكتها وعارضت بشدة : " لا .. لا .. ستناديه بشبه الم***ف " انطلقت ضحكتها دون ان توقفها لترمقها المعلمة بحدة لم تردعها ابداً عن الاستمرار بالكلام مع زميلتها المرحة الخبيثة..
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD