* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
- " بِمَ أجاب ؟ "
- " الق**د لم يتعرف عليك . "
- " كيف يعني ؟ "
- " قال : لا وزن لأحد عندي ، عدا القانون ! "
اشتعل فتيل ( هاشم بك ) تماماً :
- " وتقبيل يدي ، وقيامه احتراماً لي إذا كان جالساً . ومخاطبته إياي بقوله حضرة البك ، حضرة البك باشا ؟ "
- " وجهك وجهك ، قفاك قفاك ! "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
اجتازا الساحة وهما يتحادثان .
وارتقيا ببطء جنباً إلى جنب سلالم البيت الإسمنتي الذي بُني بعناية واهتمام بعد عام 1950 . كان جو البيت الداخلي بارداً برودة لطيفة بالنسبة إلى حرارة الخارج ، مع ذلك لم يفلح هذا الجو الرطب البارد في منع تصبب العرق من القادِمَيْن .
صرخ ( هاشم بك ) منادياً : " بنت يا ( دوردانا ) ! "
خرجت مسرعة من إحدى الغرف فتاة في الرابعة عشرة تقريباً من عمرها ، سمراء ممتلئة ذات شعر مقصوص ومعقوف كفتيات المدينة ، وهي تزرِّر ص*ر ثوبها البوبلين الأبيض الرقيق المطبَّع بالأحمر : " تفضل يا أبي ! "
- " أحضري الشيزلونج هذا ! "
رغم كل ما غيَّرته انتخابات 1950 ، لم تتغيَّر بشكل من الأشكال العجوز ( حجة الدين ) ، زوجة ( هاشم بك ) منذ ثلاثين سنة ، بغطاء رأسها الحريري الأزرق المحكم الربط ، وبسروالها ذي الساقين الطويلين ، التي اقتربت من زوجها ببطء وتثاقل ، وقالت : " الصبي ( زينيل ) غائب عن البيت مرة أخرى . "
فأجاب ( هاشم بك ) الذي كان قد رآه في الزقاق أثناء مجيئه : " إنه يلعب بدراجته ذات الثلاث عجلات ، من هنا إلى هناك ، ومن هناك إلى هنا . "
قالت العجوز البدينة السمراء : " لا بأس ، إن لم يصب بالحمى القاتلة في تلك الحرارة الصفراء ، لكن أمه ليست أماً ، إنها خيال مقاتة بارد من الجبل الأحمر ! "
وكما جاءت ببطء وتثاقل ، ومثل ظل ثقيل ، دخلت إحدى الغرف في هذا الطرف ، وغابت .
جلبت دوردانا كرسي أبيها ، ووضعته بجانب الثلاجة . كان ( هاشم بك ) لا يزال يفكر في المساعد الأوّل .
خلع سرواله الجوخ الكحلي ، وجوربيه الصوفيين وبقي بسرواله الداخلي الأبيض ذي الساقين الطويلين المربوطين عند كعبَي رجليه . ولو لم يكن عيباً ، وبالأحرى لو لم يكن حراماً أمام ابنته وابن أخيه ، لو يعرف أنه لن يكون حراماً ، لخلع كامل ما عليه من ثياب ولبقي عارياً وارتاح ، ولكن لا يجوز .
تمدَّد على ظهره على كرسي الشيزلونج وقال : " افتحي لنا زجاجة مياه غازية من هنا ! "
فتحت الفتاة الشابة باب الثلاجة ، فهبت منها برودة قطبية وانتشرت في الغرفة كالنسيم .
تعلَّقت عينا ( هاشم بك ) ، وعينا ( أنور ) الأعرج بصفوف الزجاجات التي بانت لهما عند فتح باب الثلاجة ، مرتَّبة على رفوفها ، بألوانها البيضاء والسوداء والصفراء والحمراء ، وبأحجامها الصغيرة والكبيرة ، وقد تعرَّقت من شدة البرد .
قالت الفتاة الشابة وهي تتناول زجاجتي مياه غازية : " حذار من التهاب حلقيكما . "
فأجابها ( هاشم بك ) : " ليكن موت الحصان من أكل الشعير . "
فتحت الفتاة الشابة إحدى الزجاجتين بالمفتاح وقدمتها لأبيها ، والغاز البارد يتصاعد منها ، ثم قدمت الثانية لابن عمها ( أنور ) وهي تقول : " اشربها بتمهل على الأقل ! "
لكن ( أنور ) الأعرج أفرغ الزجاجة المثلجة في حلقه دفعة واحدة عناداً ونكاية ، وأعاد الزجاجة فارغة : " اووووه ! "
تهادى إلى سمعهم صوت دقماق يضرب في الداخل ، فأصاخ ( هاشم بك ) سمعه ، ثم قال : " ما هذا ؟ هل سنأكل كبَّة نيئة عند الظهيرة ؟ "
أجابته الفتاة الشابة : " نعم كبَّة نيئة ، ويخنة بالكبة . "
ثم سألته عما كان يشغل ذهنها منذ برهة : " بابا ! "
قال ( هاشم بك )دون أن ينظر إليها : " ها ؟ "
- " هل يوجد هارب مختبئ في هذه الأرجاء ؟ "
فتح ( هاشم بك ) الممدد على الكرسي الشيزلونج عينيه المغمضتين وقال : " هكذا يقولون . "
أضاف ( أنور ) الأعرج : " يقولون نعم ، ولكن أين يمكنه أن يختبئ ؟ وهل هناك بلدة متكاتفة مثل بلدتنا ؟ حتى لو اختبأ فإن رائحته سرعان ما تفوح . لكنَّ هذا المساعد الأول ؟ "
- " لا تعره اهتماماً . يقولون إن الخل الفاسد يضرُّ جرَّته ! "
- " أبداً يا حبي . "
تساءلت الفتاة الشابة : " ماذا جرى ؟ "
- " ماذا سيجري ، ألا توجد تلك الغسالة ( سارا ) ؟ "
- " ؟ "
- " العلاقة جيدة بينها وبين المساعد الأول . "
قالت أم الفتاة الشابة التي أقبلت في تلك اللحظة بساعديها المكتنزين المشمرين حتى المرفقين ، وقد سمعت " العلاقة جيدة بينها وبين المساعد الأول . "
- " ماذا حدث ؟ "
قالت دوردانا : " أليست هناك الغسالة الأخت ( سارا ) ؟ "
انتصب حاجبا المرأة :
- " ؟ "
- " إنها كذا وكذا مع رقيب الدرك ! "
نظرت المرأة التي لا تقطع وقتاً من أوقات الصلوات الخمسة وتحافظ على صيام الأشهر الثلاثة ، إلى ابن أخي زوجها أولاً ، نظرات ذوات مغزى ثم قالت : " توبة لله ، أستغفر الله . ممن سمعتم هذا ؟ "
قذف ( أنور ) الأعرج كلامه قائلاً : " إنه على كل لسان ! "
هزَّت المرأة رأسها هزَات ذوات مغزى ، ونظرت مجدداً إلى أنور ، وكانت نظراتها تحمل معنى : " أنت تذكر يوماً عند الطست أليس كذلك ؟ " .
أردفت وهي تتظاهر بعدم توقفها عند الموضوع : " ويقال بأن هارباً قدم إلى هذه الأرجاء . . . هل هذا صحيح ؟ "
أجاب ( أنور ) بلا اكتراث :
- " هكذا يقولون ! "
- " أهو سفاح ؟ "
فتح ( هاشم بك ) عينيه مرة ثانية وقال : " أما قتلوا ( عثمان ) ؟ "
- " . . . ؟ "
- " أما بقيت المزرعة والمصنع للسيدة أرملته ؟ "
- " نعم . "
- " أما اتفق القرويون وأحرقوا مزرعة السيدة بسبب الأراضي البور التي لا صاحب لها ؟ "
ازداد اهتمام المرأة تماماً :
- " نعم أحرقوها . "
- " رئيسهم الذي حرَّضهم على إحراق المزرعة هو الذي هرب وجاء إلى هنا ! "
كانت المرأة مغمورة بالدهشة : " إلهي لا ترينا يا ربي . "
- " قد يفتش الدرك بيوت البلدة كاملاً ! "
تبادلت الأم وابنتها نظرات الفزع .
قالت المرأة : " أي عمل هذا ؟ "
واتجهت باتجاه المطبخ .
اتجهت ، لكنَّ فكرها ورغماً عن إرادتها صوَّر لها السفاح الخطير الهارب على شكل رجل كثيف الشعر ، ذي لحية ، طويل القامة ، وحشي البنيان ، مجنون يقطر الدم من خنجره . وماذا لو خطر بباله فجاء إلى بيتهم في ساعة متأخرة من الليل ؟
ماذا لو لم يكتف بالمجيء ؟ ماذا لو انتصب عند رأس ( هاشم بك ) في ساعة متأخرة من الليل وأرداه قتيلاً كما فعل بالمزارع الكبير ( عثمان ) بيك ؟ ماذا لو أراد سلب أموالهم ؟
كانت قد تركت دق اللحمة النيئة بالدقماق في منتصفه وخرجت إلى الخارج . جلست الآن ثانية على كرسيها المنخفض ، وأمسكت الدقماق بيدها ، وقبل أن تبدأ بالدق ، خطرت ابنتها ببالها : وإذا قتل الرجل ( هاشم بك ) ، ثم التفت إلى ابنتهم الشابة ( دوردانا ) يريد . . . تمتمت " إلهي لا ترينا يا ربي ! " . نعم ، إذا عرَّى الفتاة غصباً . وضمها إلى أحضانه ، وبالتهديد بالسكين أو بالمسدس . . .