نظرت إليها بغضب و قلت بعناد :
" لن أخلعها ، و سأظل الأجمل أيضا ! "
في غرفة الضيوف حيث نقيم الحفلة ، وجدت روشني و سايما ، ابنتا خالتي قد وصلتا و كانتا أول من حضر .
" واو ! فستان رائع ! ما أجمله يا بريتا ! "
قالت روشني و هي تبعد يدها بعد مصافحتي ... روشني كانت صديقة طفولتي الأولى ، و انتقلت مع عائلتها للعيش في هذه المدينة مثلنا أيضا منذ سنين ، و لا تزال أفضل صديقة لدي . أما سايما فهي الشقيقة الوحيدة لروشني ، و تصغرني بست سنوات ، و تلازم روشني كالظل !
" هل أعجبك حقا ؟ اشتراه والدي بسعر مرتفع ! إنني أعامله كأي قطعة من حليي هذه ! "
ابتسمت روشني و قالت :
" كم أحسدك ! لد*ك أب يدللك كما لا يدلل والد ابنته ! رغم أنك لست ابنته الحقيقية ! "
هذه الكلمة تزعجني كثيرا ، فأنا لا أحب أن يشير أحد إلى والدي ّ بأنهما ليسا والدي ّ الحقيقيين . إنني اعتبرتهما كذلك منذ الصغر و لا أعرف والدين غيرهما مطلقا .
قلت بنبرة مازحة :
" لأنني البنت الصغرى ، و آخر العنقود ... يجب أن أتدلل ! "
ثم نظرت إلى سايما و قلت :
" أليس كذلك سايما ؟ "
أجابت ببرود :
" كما تقول أختي "
رفعت نظري عن هذه الفتاة البليدة ، و عدت أخاطب روشني :
" و كيف حال خالتي و زوج خالتي ؟ و امان ؟ "
أجابت :
" بخير جميعا ! امان أوصلنا إلى هنا و أظنه يلقي التحية على والدك الآن "
ثم أضافت ، و هي تنظر إلي من زاوية عينها بخبث :
" و على فكرة ، هو يبعث إليك أيضا بتحية حارة مشتعلة !! "
رفعت إصبعي السبابة الأيمن و ضربت جبينها ضربة خفيفة و أنا أقول :
" لا تتوبين ! "
و انبعث ضحكاتنا تملأ الأجواء .
ما إن حضرت صديقتنا الثرية حتى استقبلتها شريستي استقبالا حميما ، و أولتها اهتماما مركزا طوال الحفلة ! أتساءل ... هل هذا ما يحدث مع جميع الفتيات ! هل يجذبن العرسان إليهن بهذه الطريقة ؟؟ حقيقة لا أعرف !
بينما كنا في أحاديثنا المتواصلة في الحفلة ، سألتني هذه الصديقة :
" هل أنت مخطوبة ! "
و كانت تنظر إلى خاتم الخطوبة المطوق لإصبعي ، و في دهشة واضحة !
تولت شريستي الإجابة بسرعة :
" ألم أخبرك مسبقا ؟ إنها و شقيقي مرتبطان منذ زمن ! "
قالت الصديقة :
" و لكن ... تبدين صغيرة ! "
و مرة أخرى تدخلت شريستي قائلة :
" تصغرني بعامين و بضعة أشهر ، لكن حجمها صغير ! "
صحيح أن طولي لا يقارن بطول شريستي أو سمير ، لكنني لست قصيرة ! بل هما الطويلان كما هما أبي و أمي ! إنني أبدو بالفعل لست من هذه العائلة !
قلت مداعبة :
" هذا يجعلني قادرة على ارتداء الأحذية الأنيقة ذات الكعب العالي المتماشية مع الموضة ! على الع** من شريستي ! "
و ضحكنا جميعا بمرح ... قضينا سهرة ممتعة أنستني تماما موضوع سمير الأخير . و بعد الحفلة ، أويت إلى فراشي مباشرة و نمت بسرعة ، دون أن يخطر الموضوع ببالي . في اليوم التالي ، و فيما أنا منشغلة برسم لوحة جديدة في غرفتي ، جاءني سمير ...
" ألم تتعبي ؟ قضيت فترة طويلة في الرسم ! "
" الرسم لا يتعبني مطلقا يا سمير ، بل أهواه و أجد راحة كبرى أثنائه و سعادة غامرة لا أجدها مع أي شيء آخر "
قال :
" و لا حتى معي أنا ؟؟ "
كان سمير يقف إلى جانبي يتأمل رسمي الجديد ... و كنت أنا أدقق النظر في اللوحة و ألقي عليه نظرة بين الفينة و الأخرى و حين نطق بجملته الأخيرة هذه ، أطلت النظر إليه ، فشعرت بالخجل و طأطأت رأسي
" بريتا ... "
لم أجب ... مد سمير يده فامسك بوجهي و رفعه للأعلى ...
قال :
" بريتا ... هل فكرت بموضوعنا ؟ "
في تلك اللحظة فقط تذكرت الموضوع ! آه يا إلهي كم هي ضعيفة ذاكرتي ! سمير كان يتحدث باهتمام ... فالأمر يعني له الكثير ، و قد قضى وقتا طويلا في البحث عن عمل ... لم أشأ أن أصيبه بخيبة بقولي : كلا
فقلت :
" لازلت أفكر ... "
سمير قال بنبرة مليئة بالرجاء :
" أرجوك يا بريتا ... يجب أن أبدأ الإجراءات المطلوبة قبل أن تضيع الوظيفة "
نظرت إليه و قلت :
" ماذا لو ... عملت أنت هناك ، و أكملت دراستي أنا هنا ... ثم ... "
لم أتم جملتي ، إذ أن سمير هز رأسه اعتراضا و قال :
" لا ... إما أن نذهب سويا ... أو نبقى سويا ... "
كنت أدرك أن سمير لا يستطيع الابتعاد عنا ، كما أن علاقاته بالآخرين محدودة و كثيرا ما كان يتجنب الاجتماعات المختلفة ، ليتلافى الحرج من وجهه المشوه . حتى أنه حين أراد إكمال دراسته ، اختار مجالا لا يدع له الفرصة للاحتكاك بالآخرين إلا نادرا سمير ... هو شخص هادئ و مسالم ... و طيب القلب ...
قلت :
" دعنا نأخذ برأي أبي و أمي كذلك ... يجب أن تتم أنت الإجراءات الآن ، فيما نفكر بروية "
ابتسم سمير و قال :
" سأذهب الآن لإنجاز ذلك ، و أعرض الأمر على والدي ّ الليلة ! سنفاجئهما ! "
ابتسمت ابتسامة قلقة حائرة ، و تركته يذهب و واصلت رسم لوحتي ... كنت مصرة على إنجاز تلك اللوحة بأسرع وقت ...
و في الليل ، تركت سمير يذهب إلى غرفة والدي لعرض الفكرة ، فيما بقيت في غرفتي في قلق و حيرة ... و أخذت أفكر ... و يبدو أن كثرة التحديق في اللوحة أصابت عيني بل و جسدي بالإعياء ، فأغمضتهما و لدهشتي استسلمت للنوم !
أفقت بعد ذلك فزعة على صوت طرق متواصل على الباب ...
نهضت عن سريري بفزع ... و أصغيت إلى الهتاف ...
" بريتا ... بريتا افتحي ... افتحي بسرعة ! "
كانت شريستي !
سرت إلى الباب بسرعة و ارتعاش و أنا في قمة القلق ...
و قبل أن أصل إليه رأيته ينفتح و تدخل شريستي في انفعال ...
كانت في حالة يصعب علي وصفها ...
كان جسدها يرتعش ، و أنفاسها تتضارب و تتلاحق بسرعة عبر فيها المفغور ... ذراعاها مفتوحتين ... و يداها مرفوعتين و أصابعها منف*جة ، و تهتز بشدة ... و الدموع تنهمر بغزارة على خديها
قلت في هلع و أنا أرفع يدي إلى قلبي من الذعر :
" شريستي ... ماذا حدث ؟؟ "
" بريتا ... بريتا ... "
و عادت تلهث ...
" بريتا ... بريتا ... أخي ... أخي ... "
تجمّدت و انحبس نفسي الأخير في ص*ري ...
حاولت قول : ماذا ...
ألا أنني عجزت من الذعر ...
هززت رأسي و أنا أشد الضغط بيدي على ص*ري فوق قلبي ، كمن يحاول حماية قلبه من تلقي صدمة ما ...
كانت شريستي تحاول النطق و عجزت إلا عن إصدار أصوات مبهمة ، و أشارت إلي أن اقترب ...
خطوت خطوة نحوها و نطقت أخيرا :
" سمير ... "
هزّت شريستي رأسها و قالت بصوت لا أعرف من أين خرج ...
" ك ...
ك ...
كاران ...
كاران عـــــــــــــــــــــــــــــاد "
للحظة ... ظللت أحدق في شريستي ... في تشتت لم أكن أعرف ... هل هذا واقع أم أحد أحلامي ... ؟ تلفت من حولي علّي أرى شيئا واضحا أكيدا بالنسبة لي ... كل شيء كان مبهما ...
شريستي عادت تقول :
" كاران قد عاد ... عاد يا بريتا ... عاد "
لم تكن كلمات واضحة بالنسبة لي ... و بقيت واقفة على نفس الوضع ... فأقبلت شريستي نحوي و أمسكت بكتفي و ضغطت عليهما ... لمجرد إحساسي بيديها على كتفي أدركت أنه ليس حلما
لم أشعر بأي شيء يتحرك في جسدي لكنني رأيت الجدران تتحرك بسرعة و الأرض تجري من تحت قدمي ّ و الطريق يقودني إلى خارج الغرفة ...
و أطير ... أطير ... نحو مص*ر أصوات البكاء التي أسمعها منبعثة من مكان ما في المنزل ... بالتحديد ... مدخل المنزل ... و عند أعلى الدرجات المؤدية إلى المدخل ... توقف الكون فجأة عن الحركة من حولي ... و ترنحت ذراعاي إلى جانبي ّ ... و تشبثت أنظاري بالصورة التي ظهرت أمامي ... و تمركزت فوق العينين السوداوين اللتين تعلوان الرأس العريض الثابت فوق ذلك الجسد الطويل ....