ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم ريشاب ... كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ... أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ... و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ... لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ... تعانقنا أنا و صديقي ريشاب عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت ! أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟ أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟ أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟
" حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز "
قال ريشاب و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...
و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة و أنفي كذلك !
قلت :
" عدا عن **ر بسيط في الأنف ! "
و ضحكنا !
قلت :
" فعلها والدك ؟ "
ابتسم و قال مداعبا :
" والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "
" بثمان سنين من عمري أهديها لك !"
ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ... طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ... الطريق ... الشارع ... الأشجار كل شيء يتحرك ... بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...
8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ... أو أكثر أو أقل ؟؟ دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ... الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر ريشاب بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال . بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ... إنني في أشد الشوق لرؤية أهلي ... منزلي ... مدينتي ... و شديد اللهفة إلى صغيرتي بريتا ! آه يا بريتا ! ها أنا أعود ... فهل أنا في حلم ؟؟
كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...
" وصلنا ! انهض عزيزي "
لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، إلا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ... كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...
" وصلنا ! إلى أين ؟ "
قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...
قال ريشاب :
" إنه منزلي يا كاران "
حدقت بريشاب برهة ، ثم قلت :
" خذني إلى منزلي رجاءا ! "
ريشاب علاه شيء من الحزن و قال :
" كما تعرف يا كاران ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "
قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز ريشاب . هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟ طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما ريشاب يراقبني و يبتسم !
" أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "
قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، إلا أن ريشاب ضحك و قال :
" هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "
رفعت بصري إليه و قلت :
" لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "
هز ريشاب رأسه و قال :
" انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "
هل انتهى حقا ... ؟؟
رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ... كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ... و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...
رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ... سمعت صوت ديب يناديني ...
" انهض يا كاران ، جاء دورك "
كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ... هززت رأسي معترضا ، لكن ديب ظل يناديني أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ... لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...
" كاران ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "
كان صديقي ريشاب يقف إلى جانبي ... قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :
" أنت ريشاب ؟ أم ديب ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "
ريشاب مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :
" عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "
خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد ريشاب بكلتيهما ، و قلت :
" ريشاب ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "
الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ
بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف ! اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و ريشاب ينظر إلي بأسى لم يفتحه أحد ... جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت بريتا و شريستي تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب ! التفت إلى الخلف حيث يقف ريشاب ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا كاران ، لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ... نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !
" كاران ! ما الذي تفعله !؟ "
أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :
" سأفتح الباب ، انتظرني "
و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل ريشاب ...
" و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "
بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !
قلت :
" سترى ! "
و انطلقت نحو الحديقة ... لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ... انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ... أخذت أتلفت فيما حولي و ريشاب يراقبني باستغراب وقعت أنظاري على أدوات الشواء التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء توجهت إليها و أخذت أحفر الرمال ...
" ما الذي تفعله بربك يا كاران ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "
و ما أن أتم ريشاب جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !
تبادلت أنا و ريشاب النظرات و الابتسامات ، ثم قال :
" عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "
و ضحكنا ... كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ... و أخيرا دخلت المنزل للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ... تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ... عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ... صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...
" تبا ! "