17

1819 Words
توجهت بعد ذلك إلى غرفة بريتا الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ... كانت هي الأخرى مقفلة أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ... أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ... عدت إلى غرفة بريتا و أنا منهار ... جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ... " أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... " أغمضت عيني و تخيلت ... تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ... على ذلك السرير تجلس بريتا بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ... و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : كارااااااااان ! ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا ! " أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... " كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ... و أتوهم سماع أصواتهم ... لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و كاران وحيدا تائها ... هل تخلوا عني ؟؟ هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟ مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟ كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ... ثم يرحلون ... أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ... أبي ... أمي ... سمير ... شريستي ... بريتا ... لقد عدت ! أين أنتم ؟؟ أجيبوا أرجوكم ... ريشاب ظل واقفا يراقب عن بعد ... كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة بريتا غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ... من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية ، و حين فتحتها وجدت التالي : ( كاران ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و شريستي و سمير إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . بريتا ) لكم أن تعذروا ريشاب للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين ! " كاران !! ماذا دهاك ؟؟ " نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت : " إنها بريتا العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ " و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون ! ريشاب قال : " عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! " و ضحكنا من جديد . و بعد يومين ، حين رتب ريشاب أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ... لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ... كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين إنني لمجرد رؤية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ... لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ... و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ... بريتا ... بريتا ... أنا قادم إليك أخيرا ... قادم أخيرا ... وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال لذا فإن ريشاب أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ... " ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! " تن*د ريشاب و قال : " يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ " " أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! " ابتسم ريشاب ، ثم ربت على كتفي و قال : " صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! " لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ... لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب ريشاب لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ... عندما عاد ريشاب ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي : " تفضل حصتك ! " هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ... أسندت رأسي إلى المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ... " أ أنت بخير ؟؟ " سألني ريشاب ، فأجبت : " صداع شديد " " خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! " و هززت رأسي مجددا ... ثم التفت إليه و قلت : " هل لي ببعض المال ؟؟ " أخرج ريشاب محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ... ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ... " كاران ! " تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما ريشاب أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق : " أ أنت بخير ؟؟ " " دوار ... " أسرع ريشاب فقرب عبوة عصير من شفتي و قال : " اشرب قليلا " رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . ريشاب كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ... بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى ريشاب و قلت : " هل لي بعلبة سجائر ؟ " ............................ كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل ماهيش لوترا ، أبي كاران ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ... سأل ريشاب الرجل : " أ أنت متأكد ؟ ماهيش لوترا المكنى بأبي كاران ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟" " نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! " لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا ! تبادلنا أنا و ريشاب النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ... " هيا يا كاران ... " بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض " كاران ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! " قلت بسرعة : " لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... " و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ... " ما بك ؟ قلق ؟؟ " " ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا " " هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك " كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟ في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة بريتا ! ربما هم نيام الآن ! لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي .... كم أنا مشتاق إليكم جميعا ... إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم ! يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ... أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ... ثم ثبت ّ أنظاري على صورة بريتا ، و هي تلون ... بريتا ... يا حلوتي الصغيرة ... ها أنا قد عدت ... " دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! " قال ريشاب و هو يفتح الباب و ينزل ... قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ... و لكن الباب انفتح أخيرا ... و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بما لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سمير .... " سمير ... يا أخي ! " دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ... تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟ لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدموع ... والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى ص*رها و جعلنا نبكي بحرارة و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا و أخي سمير ممسكا بذراعي من جهة ، و شريستي من جهة أخرى و لم يعد هناك مجال للكلمات ... لا أستطيع وصف المزيد أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟ أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو شريستي كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة ! فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ... و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ... لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ... " بريتا ؟؟ " هبت شريستي واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء بريتا وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و هم لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ... كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها شريستي .... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ... لا ... بل لسبقتها ... الآن ستظهر بريتا ! هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ... هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ... هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ... ستأتي بريتا ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ... هيا يا بريتا ... اظهري ... تعالي ... أسرعي إلي ... و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات .... كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... بما فيهم قلبي المزلزل ... توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ... و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟ هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ... وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون بريتا ... و لم تكن بريتا ... كنت انتظر أن تظهر بريتا ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول : كارااان ... احملني !
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD