لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ... أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي بريتا ؟؟ لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ... أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :
" ك ... ر ... اا ... ــن ؟؟؟ "
ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت بريتا من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو بريتا التي هوت على ص*ري و هي
" كارااااااااااااااااااااااان "
الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ... لقد كنت أنا المحور و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ... بسرعة ... بسرعة ...
كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سمير لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف أما بريتا ... صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي بل اخترقته ... لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ... لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ... لذلك اليوم المشؤوم ... لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها بريتا متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ... فيما بريتفي واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام بريتا .... لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على بريتا بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ... إلا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار
أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها بريتا ... رغم أنها كبرت إلا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...
" بريتا ! صغيرتي ! "
لقد عشت لأراك ثانية ... و نجوت لأعود إليك ...
" آه "
أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ... أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ... لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي بريتا و حين رأيتها تسيل على خديها قلت
" لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "
ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :
" أنا متعب جدا "
و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود ريشاب ... لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟
قلت :
" أين ريشاب ؟ "
أجاب سمير :
" غادر ... قال أنه سيأتي غدا "
و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سمير ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...
عندما أيقظني سمير وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...
أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ... وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...
لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها بريتا ، من صغر حجمها
" بريتا ؟ "
التفتت بريتا نحوي بفزع ، إذ أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...
" أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "
أحنت بريتا رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...
قلت :
" أريد بعض الماء ... رجاء ً "
بريتا تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...
" لقد ... كبرت ِ ! "
لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...
قلت :
" لكنك لم تتغيري كثيرا ... "
رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...
قلت :
" و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "
ترددت قليلا ثم قالت :
" هل بدّلت أنفك ؟ "
ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :
" بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "
بريتا قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :
" على الع** ! "
ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...
استدرت و ناديت :
" بريتا انتظري ... "
ألا أنها اختفت بسرعة ! و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !
عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ... إنه ليس مجرد حلم ... لقد عدت إلى أهلي أخيرا عدت إلى بريتا ... و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ... و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ... و التي يجب أن أقربها مني أكثر من أي وقت مضى ... فهي ... صغيرتي الحبيبة المدللة ... حلم حياتي الأول ... محبوبتي منذ الطفولة ... قد كبرت أخيرا ....