و أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني ... بقيت مغمض العينين ... حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة ... ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس ! أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا ... كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بال**ل ! و الجوع أيضا ! آه ... ما أجمل العودة إلى البيت ... و الأهل ... فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟ على وجه أمي ! كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم ! جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب :
" أماه ! ماذا حدث ؟؟ "
والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت :
" لا لا شيء ، لا تقلق بني "
لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى :
" ماذا حدث ؟؟ "
هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت :
" لا شيء كاران ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك "
ثم انخرطت في البكاء ... نهضت عن سريري و أقبلت ناحتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة ...
" لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن "
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير كاران ! نام كاران في غرفة سمير ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة . أنا لا أستطيع أن أصدق أن كاران قد عاد ! لقد آمنت بأنه اختفى للأبد كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار ... لكنه عاد ... و بدا كالحلم ! لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل ! كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا ! البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني ... كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا !
" بريتا ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! "
انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت شريستي ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها ...
ابتسمت و قلت :
" ها أنا أوشك على الانتهاء "
شريستي حدقت بوجهي قليلا ثم قالت :
" لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! "
أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار ! انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة. مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان كاران يحبها والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر ! ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح ... و الآن هي بالتأكيد في غرفة سمير !
" شريستي "
كانت شريستي تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت :
" نعم ؟؟ "
قلت :
" هل كان كاران يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ "
رفعت شريستي رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :
" لا أذكر ! حضّري أيا منهما "
قلت :
" أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا شريستي أرجوك "
رمقتني بنظرة غضب و قالت :
" أوه بريتا قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي "
وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سمير ! في طريقي إلى هناك صادفت والدي ...
" إلى أين ؟ "
استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض :
" أريد التحدث مع أمي "
ابتسم أبي و قال :
" إنها عند كاران ! "
تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سمير ، إلا أن أبي استوقفني مرة أخرى
" بريتا "
التفت إليه
" نعم أبي ؟؟ "
لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه و فهمت ماذا يقصد ... انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سمير و طرقت الباب طرقا خفيفا ... سمعت صوت أمي يقول :
" تفضل "
ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل ... فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني كاران ! رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني ... أقبلت أمي ففتحت الباب
" بريتا ! أهلا ... أهناك شيء ؟؟ "
قلت باضطراب :
" العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ "
أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت :
" عفوا ؟!! "
كان باستطاعتي أن أرى كاران واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر !
" هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ "
ابتسمت والدتي و قالت :
" كما تشائين ! "
قلت :
" ماذا يفضل ؟؟ "
و لم أجرؤ على النطق باسمه ! والدتي التفتت نحو كاران ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة ...
قالت أمي :
" ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ "
ابتسم كاران و قال :
" البرتقال قطعا ! "
ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت :
" هل بقي شيء بعد ؟ "
" لا ... تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير ... و السلطة "
" عظيم ، أنا قادمة معك "
ثم استأذنت كاران ، و خرجت و أغلقت الباب . و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سمير هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات ... بادلانا بالتحية ثم سأل :
" ألم ينهض كاران ؟ "
قالت أمي :
" بلى ! استيقظ قبل قليل "
" عظيم ! أنا ذاهب إليه "
و ذهب سمير مسرعا ، فهبت شريستي واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال :
" و أنا كذلك "
و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي :
" أتمي تحضير السلطة ! "
و في ثوان كانا قد اختفيا ...
ماذا عني أنا ؟؟ أنا أيضا أريد أن أذهب إليه .... ! نظرت إلى أمي فقالت :
" أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير ...
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
قبل قليل ، جاءت بريتا و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان ... أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل ! يبدو أنها نسيت ذلك ... لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوضا أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية ! يا ترى ... ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟ طرق الباب ، ثم دخل أخي سمير و شريستي ... أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد ...
قال سمير :
" أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! "
ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا ... و شعري طويلا ... و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي ريشاب على عجل خالية من الجمال و الأناقة !
قلت :
" هل أبدو مزريا ؟؟ "
ضحكت شريستي و قالت :
" بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! "
ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :
" بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! "
و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور ... ( مجرم ) ... ألست كذلك ؟؟ لكن أحدا لم يلحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت شريستي تقول :
" بل بطل ! أليس كذلك يا سمير ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله بريتا أيضا ! "
أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت بريتا عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟ تعلمون كم يهمني معرفة ذلك ! لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت ... ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟ فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز ! نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن ... و بلاء السجن ... بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما ... رجلا يستحق الاهتمام ....
حينما حضر سمير للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !
" ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! "
ابتسمت ، ثم قلت :
" يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! "
قال :
" أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! "
ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أبي يقفان في الردهة ... ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سمير لتأدية صلاة الظهر في المسجد . عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا ! أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة ! ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة ... و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها ...
" أوه ! كل هذا !؟ "
نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :
" تفضل بني بالهناء و العافية "
لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ ! انقبضت مص*رة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !
في هذه اللحظة تذكرت صديقي ريشاب ، قلت :
" ريشاب ! يجب أن اتصل بريشاب ! "