و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا اعتذر ريشاب عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء ... اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي ... ، فيما سمير إلى يسار والدي . و أخيرا أقبلت الفتاتان ، شريستي و بريتا ... فجلست شريستي إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير ... المقابل لي شاغرا ... أقبلت بريتا فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة ! كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا . لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا إنها صغيرتي بريتا ! محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين ... تعرفون ما تعني لي ... و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق ... إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي ! إنني أشعر بأنها تراقبني ! ليست هي فقط ... بل الجميع يراقبني إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون .... و لكن لوقت أطول ... و لكميات أكبر ! ما أشهى أطباق أمي ! كل شيء يبدو لذيذا جدا ... حتى الماء ... لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين ... و هل للماء طعم ؟؟ أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم ... السجن ... الحمد لله ...
أمور كثيرة قد تحدثنا عنها إلا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا كما و أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع ... و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي . و كانت بريتا أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر كنت أريد أن أتحدث معها ... أسألها عما عملت في غيابي ... أمسك بيديها ... أمسح على شعرها ... أضمها إلي ... كما كنت أفعل سابقا ... فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا ... أكثر من شوقي لأي شخص آخر ... لست بحاجة لوصف المزيد فأنتم تعرفون ... لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب ... لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان ... هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟ لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب... تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، إلا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير ... و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !
قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :
" بريتا ... صغيرتي ... إلى أين وصلت في الدراسة ؟ "
بريتا رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :
" أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل "
ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !
" عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله "
ابتسمت بريتا بخجل شديد ، ثم قالت :
" و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ "
تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال ... و نقلت بصري إلى أمي ... أبي ... سمير ... و شريستي ... و علامات الذهول صارخة في وجهي ...
أبى قال مرتبكا :
" يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل "
نظرت إلى أمي و سمير ، فإذا بهما يتحاشيان النظر إلي ... أما شريستي فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه ... و بريتا ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم ... شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها ... لم يبد على بريتا أنها تعلم .... أنني كنت في السجن ! هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟ ألم أطلب أنا منهم ذلك ؟ ألا يزالون محتفظين بالسر ؟؟
انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد ... لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن بريتا هي التي حضرته ... بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل بريتا بأمر سجني يسيطر على تفكيري ... و يتعسني ...
و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي :
" ألا تعلم بريتا بأنني ... كنت في السجن ؟؟ "
والدي تردد قليلا ثم أجاب :
" لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت ... ثم كبرت ... و شريستي ... و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة "
غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع ... لا أعرف كيف ستتصرف بريتا حين تعلم بالأمر ... و لا حتى شريستي ...
الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي :
" هون عليك يا كاران ... نتحدث عن ذلك فيما بعد "
كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي ... في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي ريشاب لأؤكد عليه الحضور لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ ... و هو الأقرب إلى الغرفة .. لقد كان الباب مغلقا ، لذا طرقته أولا ...
فتح الباب قليلا و ظهرت شريستي
" أهلا كاران ! أتريد شيئا ؟؟ "
" أردت استخدام الهاتف "
ابتسمت شريستي و قالت :
" اذهب إلى غرفة المعيشة أو الضيوف !"
استغربت ، فقلت :
" هاتف المطبخ لا يعمل ؟ "
ابتسمت مجددا و قالت :
" بلى ! لكن بريتا بالداخل ! "
شيء أثار جنوني ... فقبضت يدي بقوة ... و قهر بعد أن كانت رفيقتي أينما ذهبت ، أصبحت ممنوعا من الدخول إلى حيث توجد هي ... لن يستمر الوضع هكذا لأنني سأجن حتما ... لسوف أتحدث مع أبي بهذا الشأن في أقرب فرصة ... لا ... بل الآن ! و استدرت قاصدا غرفة الضيوف إلا أنني وقفت فجأة و بذهول ... حين رأيت باب المطبخ يتحرك ، و يفتح ، و يخرج سمير منه ! خرج سمير مبتسما و أغلق الباب ، و بقيت محملقا فيه بذهول ...
سمير نظر إلي و ابتسم و قال :
" غرفة الضيوف من هنا "
أنا بقيت واقفا مصعوقا ... و أخيرا تحرك لساني المعقود فقلت :
" بريتا ... بالداخل ؟؟ "
أجاب مبتسما :
" نعم ! ... لم تجلب الحجاب معها "
جننت ، و لم أعد قادرا على فهم شيء أو تصور شيء ! ببلاهة و اضطراب و تشتت فكر قلت ، و أنا أشير بإصبعي إلى سمير :
" لكن ... أنت ... ؟؟؟ "
سمير رفع حاجبيه و فغر فاه بابتسامة استنتاج ، كمن فهم و أدرك لتوه أمرا لم ينتبه له من قبل ...
" آه ! تقصد أنا ... ؟؟ نعم ... فـ... نحن ... "
و ضحك ضحكة خفيفة ، ثم أتم الجملة التي قضت على آخر آخر ما كان في ّ من بقايا فتات كاران :
" نحن ... مخطوبان ! "