و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه ... تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير ... لا مدرسة أذهب إليها ... لا رفاق أتصل بهم ... لا أهل أتبادل الأحاديث معهم ... و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم ... و لا بريتا تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :
" كارااااان ... لوّن معي ! "
آه يا بريتا ...
ما الذي تفعلينه الآن ؟
ما الذي فعلته بعد غيابي ؟
هل يعتنون بك جيدا ؟؟
بريتا ...
أكاد أموت شوقا إليك ...
ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ....
" أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا .. "
لو لم يكن ديب موجودا ، أظن ... أنني كنت سأصاب بالجنون .
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
اليوم سيأتي أهلي لزيارتي حسب الاتفاق .
في مثل هذا اليوم أكون أنا محلقا في السماء و في حالة توتر مستمرة ... أهلي بعد أن كانوا يزورونني 3 مرات في الأسبوع ، اقتصروا على واحدة بسبب صعوبة الحضور و مشقة المشوار ...
أذرع الغرفة ذهابا و إيابا في توتر شديد ... منتظرا لحظة مجيئهم .
" ما بك يا كاران ! اجلس ! ألم تتعب من المشي ذهابا و عودة ؟ لقد أصبتني بالدوار ! "
" لا أستطيع التوقف يا ديب ... والداي و أخي سمير سيحضرون في أية لحظة ! أنا مشتاق لهم كثيرا جدا "
" على الأقل ... أنت لد*ك من يزورك ! أما أنا فلا علم لي بحال زوجتي و ابنتي ... ربما أصابهما مكروه "
التفت إلى ديب و أنا مندهش من صبر هذا الرجل و قدرته على التحمل ... من هذا الرجل العظيم ، تعلّمت أشياء كثيرة ... و أدين له بالكثير ...
قلت : " لا بد أنهما لم تحصلا على تصريح لزيارتك ... خصوصا و أنت ( مجرم سياسي ) و يخشى منك ! "
ابتسم ديب ، و قال مازحا :
" نعم ! فأنا ألعب بمصير دولة و شعب كامل ، لا رجل واحد ! لم لا تعمل معي بعد خروجنا من هنا ؟ "
" بعد خروجي من هنا ، فإن آخر شيء أفكر به هو العودة ! أبقني بعيدا عن السياسة و الدولة و الشعب ... إنني فقط أريد العودة إلى أهلي ... "
نعم ، فمن يجرّب عيشة كهذه لا يمكن أن يسلك طريقا قد يعيده إليها .
هنا ، فُتح الباب ، فاقشعر بدني و تأهبَت أذناي لسماع ما سيقوله الحارس ... ربما جاء دوري للزيارة ...
وقفنا جميعا ، أنا و ديب و جميع من كان معنا لدى سماعنا جلبة و ضوضاء قادمة من ناحية الباب ، و من ثم رؤيتنا للحراس و الضباط يدخِلون ثلاثة من الرجال المكبلين بالحديد إلى داخل السجن ، و يدفعون بهم دفعا و ينهالون عليهم بالضرب العنيف ...
لقد كان مشهدا مريعا هزّ قلوبنا جميعا ، و حين قاوم أحدهم رجال الشرطة و حاول مهاجمته ، رُمي بالرصاص ... و خر صريعا .
حمل بعض الحراس الجثة و أبعدوها خارج الزنزانة ، فيما واصل بعضهم ضرب الرجلين الآخرين حتى أفقدوهما الوعي ...
كان منظرا فظيعا جفلت أفئدتنا و اكفهرت وجوهنا لدى رؤيته ...
ترك الضباط و الحراس السجينين الجديدين ، و غادروا .
وقفت جامدا في مكاني لا أقوى على الحراك ، بعد أن كنت في قمة النشاط و الحركة ، أجول بالغرفة دون سكون ....
اقترب بعض الزملاء من الرجلين و حملوهما إلى سريرين متجاورين ، و اعتنوا بهما حتى أفاق أحدهما ، و علمنا منه أنهم ـ أي الثلاثة ـ ( متهمون بجرائم سياسية ) و محكوم عليهم بالإعدام .
أخبرنا المجرم الجديد هذا عن الأوضاع التي ازدادت تدهورا بشكل كبير جدا ، و أنه تم القبض على مجموعة كبيرة جدا من الشبان بتهم سياسية مختلفة و زج بهم في السجون ، في انتظار حكم الموت ، و أن عدد القتلى من جنود الحرب و كذلك من عامة الناس في ازدياد مطرد ، و أن الحرب حامية الوطيس و المقابر ممتلئة و الفوضى تعم البلاد ...
بقيت واقفا عند الباب انتظر ... الوقت يمر و أهلي لم يحضروا ... فهل أعاقهم شيء ؟ أم هل أصابهم مكروه لا قدّر الله ؟
ديب كان يراقبني ، و كلما التفت إليه التقت نظراتنا ، أنا في قلق ، و هو يصبّر ... و كلما التفت إلى الناحية الأخرى ، وقع بصري على الدماء المراقة على الأرض ... فأرفع بصري في ذعر نحو السقف ، فأرى مجموعة من حشرات الجدران تتجوّل بلا رادع ...
فأشعر باختناق في ص*ري ، و أحاول شهق نفس عميق ، فتنجذب إلى أنفي روائح كريهة مختلطة ، مزيج من روائح العرق ... و الدماء ... و الأنفاس ... و بقايا الطعام المتعفن في سلة المهملات ... و دخان السيجارة التي يدخنها الحارس خلف الباب ...
" أين والداي ؟ لماذا لم يحضرا ؟ أخرجوني من هنا ... لم أعد أحتمل ... أخرجوني من هنا ... "
انهرت و أنا أبكي كطفل أضاع والديه في متاهة ، فأقبل ديب نحوي يواسيني ، بينما أطلق مجموعة من السجناء هتافات الانزعاج و الاستياء أو السخرية مني و من بكائي و نحيبي المتكرر ...
إنني ابن العز و النعمة و الرخاء ... و قد تربيت في بيت نظيف وسط عائلة راقية محترمة ... كيف لي أن أتحمّل عيشة كهذه ، و لدهر طويل ، لمجرد أنني قلت شخصا يستحق الموت ؟
لم يحضر والداي في ذلك اليوم ، و لا اليوم الذي يليه ، و لا الأسبوع الذي يليه ، و لا الشهر الذي يليه ، و لا السنين التي تلته واحدة تلو الأخرى ....
أصبحت منقطعا بشكل نهائي عن أهلي و عن الدنيا بأسرها اعتقد أن مكروها قد ألم بهم ، و لا أستبعد أن يكونوا قتلوا في الحرب ...
الشخص الوحيد الذي حضر لزيارتي بعد عامين كان صديقي القديم ريشاب .
" لا أصدق أنك تذكرتني ! لا بد أنني أحلم ؟ "
قلت ذلك ، و أنا مطبق بكل قوتي على صديقي ، كمن يمسك بخيال يخشى ذهابه ...
" لم أنسك أيها العزيز ... إنني عدت للبلد بصعوبة قبل أيام ، فكما تعلم كنت مسافرا للدراسة في الخارج ... أوضاع البلد لم تسمح لي بالعودة قبل الآن "
سألته بلهفة و خوف :
" و أهلي ؟ عائلتي ؟ ما هي أخبارهم ؟؟ أما زالوا أحياء ؟ لماذا لا يزورونني ؟ "
ريشاب طأطأ برأسه و تن*د بمرارة ، فأغمضت عيني ّ و وضعت يدي فوقهما لأتأكد من أن الخبر المفجع لن يصلني ...
ريشاب ربت على كتفي و قال :
" لا علم لي بأخبارهم يا كاران ... إذ يبدو أنهم اضطروا للرحيل عن المدينة و ربما سافروا لمكان بعيد ... و لم يتمكنوا من العودة ... "
تأوهت ... و شعرت بشيء يخترق ص*ري فتألمت ... تهت بعيدا ... هل انتهى كل شيء ؟ أمي و أبي ... سمير و شريستي ... و الحبيبة بريتا ... حياتي كلها ... هل انتهى كل ذلك ..؟؟
شعر ريشاب بألمي فعانقني بعاطفة ملتهبة ... و قال :
" سأحاول تقصي أخبارهم يا كاران ... الدنيا في الخارج مقلوبة رأسا على عقب ... ربما تكون أنت قد نجوت بدخولك هذا السجن ! "
أبعدت ريشاب عني قليلا بما يسمح لأعيننا باللقاء ...
قلت :
" أريد أن أخرج من هنا ... "
أمسك ريشاب بيدي و شدّ عليها ... عيناه تقولان أن الأمر ليس بيده ...
قلت :
" ريشاب ... ريشاب أنت لا تعلم كم الحياة هنا سيئة ! إنهم ... إنهم يا ريشاب يضعون الحشرات عمدا في طعامنا و يجبروننا على قضم أظافرنا ... و المشي حفاة في دورات المياه القذرة ! ريشاب ... إنهم لا يوفرون لنا الأشياء الضرورية كالمناديل و شفرات الحلاقة ! أنظر كيف أبدو ؟ ألست مزريا ؟ عدا عن ذلك ، فهم يضربون و بعنف كل من يبدي استياء ً أو يتذمر ! زنزانتي يا ريشاب ... لا يوجد فيها فتحة غير الباب المقفل ... لا هواء و لا نور إنني مشتاق إلى الشمس ... إلى الهواء النقي ... إلى أهلي ... إلى الحياة ... إلى كل شيء حرمت منه ... أبسط الأشياء التي تجعلني أحس بأنني بشر ... مخلوق كرّمه الله ! إلى ... فرشاة أسنان نظيفة أنظّف بها أسناني ! "
و لو كنت استمررت في وصف حالي له ، لكان فقد وعيه من الذهول ... إلا أنني توقفت حين شعرت بيده ترتخي من قبضها على يدي و رأيت الدموع تتجمع في مقلتيه منذرة بالهطول ...
أغمضت عيني ّ بحسرة و أنا أتخيل و أقارن بين حياتي في البيت ، و حياتي في هذه المقبرة ... و جاء طيف بريتا و احتل مخيلتي ... الآن ... أراها و هي تقول في لقائنا الأخير :
" لا ترحل ... لا تتركني "
و تتلاشى هذه الصورة ، ثم تظهر صورتها و هي مذعورة و ترتجف بين ذراعي ، ذلك اليوم المشؤوم ....
ثم تظهر صورة بريتفي ، و ابتسامته الخبيثة لحظة رميه الحزام في الهواء ...
" إلى الجحيم ... "
قلت دون وعي مني :
" كان يجب أن أقتله ... و لو يعود للحياة ... لقتلته ألف مرّة ... "
انتبه صديقي ريشاب من شروده و تخيله لحالتي الفظيعة ، قال :
" لماذا ؟ "
نظرت إله ، بصمت موحش ... فعاد يقول :
" لماذا يا كاران ؟... الذي دفعك لأن ترمي بنفسك في حياة كهذه لابد أنه ...؟؟ "
و لم يتم جملته ، استدرت موليا إياه ظهري ... تماما كما استدرت حين سألني يوم الحادث .
ريشاب لم يصبه اليأس مني ... قال :
" أخبرني يا كاران ... فقد يكون أمرا يقلب الموازين و يخرجك من هنا بمدة أقصر ... والدي أكد لنا ذلك فيما مضى و قد يستطيع إعادة النظر في قضيتك بشكل ما ... "
بدا و كأن قلبي قد تعلّق بأمل الخروج ... و البحث عن أهلي و العودة إليهم ... و لكن ... ألم يفت الأوان ...؟؟
" كاران ... "
استدرت لأواجه ريشاب ... كانت نظرات الرجاء تملأ عينيه ... إنه الوحيد الذي أتى ليزورني من بين أصحابي و أهلي و الناس أجمعين ...
" لماذا كاران ...؟ "
" ريشاب ... "
" كنتَ على وشك الوصول لقاعة الامتحان ... ما الذي أخبرك به ، ثم أجبرك على ترك الامتحان و الذهاب إلى تلك المنطقة ؟ و بالتالي ... قتله ؟؟ "
" كان يجب أن أقتله ... "
" لماذا قل ؟ أخبرني ... "
" لأنه ... "
" أجل ..؟؟ "
" لأنه ... ... لأنه اختطف صغيرتي بريتا ... و هددني بإيذائها ما لم أسرع بالحضور لتلك المنطقة ... "
أصيب ريشاب بالذهول ... و اتسعت حدقتا عينيه و انفغر فاه مصعوقا ...
قال ، دون أن تتلامس شفتاه :
" ك ... ؟ "
" و انتهى كل شيء .... "