ذات يوم ... و فيما كنا أنا و ديب و بعض شركاء الزنزانة نسلي أنفسنا باللعب بالحصى ، و هي لعبة سخيفة اخترعناها من أجل قطع الوقت الذي لا ينتهي ، و كنا نسر أو نتظاهر بالسرور أو نقنع أنفسنا به ، فتح الباب و دخل مجموعة من العساكر .
توقفنا جميعا عن اللعب ، و انسابت أنظارنا نحوهم . لم نكن نشعر بأي طمأنينة لدى دخول إي منهم ... فمجيئهم ينذر بالشر و الخطر
بدأ العساكر يجولون بأبصارهم فيما بيننا بازدراء و تقزز . ثم تقدم أوسطهم خطوة للأمام و قال :
" ديب رايتشاند "
و جعل ينقل بصره من واحد لآخر ...
ديب أجاب بعد برهة :
" أنا "
استدار العسكري إلى رفاقه و أومأ إليهم
تقدّم اثنان منهم و أقبلا نحو ديب ... و قالا بحدة :
" انهض "
نهض ديب ببرود ، فإذا بهما يطبقان عليه بشراسة و يقودانه نحو الباب ... ديب سار معهما دون مقاومة ، فيما كانت أفئدتنا وجلة متوقعة شرا . لم ينبس أحدنا ببنت شفة ، و بقينا في صمت رهيب و نحن نراقب ديب بقلق ، فيستدير هذا الأخير ليلقي علينا نظرة و يبتسم ... خرج العساكر بديب و أقفلوا الباب و بقينا في صمت فظيع لبضع دقائق ... كنت أنا أول من أص*ر صوتا اخترق جدار الصمت الموحش حين قلت :
" إلى أين أخذوه ؟ "
هز البقية رؤوسهم في حيرة و تساؤل ...
مضت ساعتان أو أكثر و نحن في هدوء و قلق ... في انتظار عودة ديب و بدا أنه لن يعود .. بدأت أذرع الزنزانة ذهابا و جيئة و أنا أدعو الله ألا يكون ديب قد أعدم ... و بينما أنا كذلك ، إذا بالباب يفتح مجددا ، و يدخل اثنان من العساكر يحملان ديب و يلقيان به أرضا ، ثم ينصرفان ...
أقبلنا بسرعة نحو ديب فإذا بالدماء تلطخ جسمه و ملابسه... و إذا بالجروح و الكدمات الملتهبة تغطي جسده ...
" ديب ! ماذا فعلوا بك ؟؟ "
صرخت في ذعر و أنا أرفع رأسه و أسنده على ركبتي ... لم يكن ن
ديب بقادر على الكلام من شدة الإعياء و كان جليا لنا أنه تعرض لتعذيب شديد ... تناوبنا جميعا في العناية به حتى بدأت الحياة تجري في عروقه . أخبرنا فيما بعد بأنهم أوسعوه ضربا من أجل الإدلاء بمعلومات لا علم له بها ... و أنهم في طريقهم لإعدامه حتما
في اليوم التالي ، حضر العساكر أيضا ، و ما أن دخلوا السجن حتى ارتعشت قلوبنا جميعا و اشرأبت أعناقنا و تعلقت أبصارنا بهم في حالة لا توصف من الذعر في تلك اللحظة كنت أجلس جوار ديب أنظف بعض جروحه و بلا شعور مني أمسكت بذراعه بقوة خشية أن يأخذوه ...
هتف أحدهم :
" فانش راي سنغ هانيا "
انتفضنا جميعا ، و كان فانش ، و هو أحد زملاء الزنزانة ، و أحد مجرمي السياسة، أكثرنا انتفاضا و ذعرا
صرخ فانش بفزع :
" لا "
و تقدم العساكر نحوه ، و هو يتراجع للوراء و يداه ترتجفان و العرق يغرق جسمه الهزيل ... تقدم العساكر بلا رحمة و أمسكوا به و هو يصرخ و يقاوم في عجز ، و قادوه خارجا . و ما هي إلا ساعة و نصف الساعة ، حتى أعيد إلينا بحالة سيئة ، مليئا بالجروح و ال**ور أيضا .
أصبحنا نعيش حالة مستمرة من الخوف الشديد ، و لم يستطع أحدنا النوم بعدها . و أصبحنا لمجرد سماعنا لأي صوت يص*ر من ناحية الباب ، يركبنا الفزع المهول
و جاء اليوم التالي ، و جاء العساكر مجددا ... كنا جميعا متكومين قرب بعضنا البعض ، و أعيننا محدقة بهم ، و كل منا في خشية من أن يكون التالي ...
" كاران لوترا "
عندما نطق باسمي صعقت ، بل و صعق جميع من معي ... أخذ قلبي يخفق بعنف ، و أنا أراقب العساكر يتقدمون نحوي خطوة خطوة
صرخت :
" لكنني لست على علاقة بالسياسة "
لم أكد أنهي جملتي إلا و العساكر قد أمسكوا بي ... حاولت سحب يدي من بين أيدهم بكل ما استطاعت عضلاتي إمدادي به القوة ... و فشلت ...
" أنا هنا لجريمة قتل ... لا شأن لي بالسياسة "
حاولت مستميتا التخلص منهم و مقاومتهم دون جدوى قادوني عنوة نحو الباب و لم يستطع أحد زملائي النطق بكلمة واحدة و أنا أسحب إلى الخارج نظرت إلى ديب و قلت :
" ماذا سيفعلون بي ؟ ما الذي فعلته أنا ؟ "
ديب أغمض عينيه بقوة ، في أسف و ألم و كأنه يقول : أرثي لك ، ويل لك مما ستلقى ...
و لقيت ، ما لم ألقه في حياتي مطلقا ...
لقيت...
أصنافا من العذاب التي أتوجع و أتلوّى من مجرد ذكرها ... عذابا ... ينسي المرء اسمه و جنسه تمنيت ساعتها ، لو أن أمي لم تلدني لو أنني قتلت نفسي يوم قتلت بريتفي لو أن الله خلقني بلا أعصاب و إحساس ... و لا قلب ... و لو أن الدنيا خلت من اسم العذاب و اسم السجون و حتى من اسم بريتا ...
الأوقات الوحيدة في حياتي كلها ، التي تمنيت فيها لو أن بريتا لم تكن ... و لم توجد ...
أصبت ب**ر في أنفي جعل شكله يتغير و تظهر انحناءة صغيرة أعلاه .
بقيت ممدا على سريري بلا حراك ليومين ، كان فيها من بقى من زملائي سالما يعتني بي ، و بديب و فانش ، و اثنين آخرين ...
بعدها بأيام ، علمنا من الحارس أن اسمي قد أدرج خطأ ضمن قائمة المجرمين السياسيين ! مجرد خطأ ... !
كان ذلك بعد عدة أشهر من زيارة ريشاب الأولى و قبل أشهر أخرى من زيارته التالية و التي ابتدأها بقول :
" كاران ! ماذا فعلت بأنفك !؟ "
سردت على ريشاب ما حصل ، و وعدني بان يتم ذكر هذا في ملفي . عندما سألته عما جد في موضوعي أخبرني بأن والده لا يزال يدرس الأمر ، و لدى سؤالي عن أهلي قال :
" اختفوا ! "
زاد ذلك ضيقي و إحباطي الشديدين و قضى على بقايا الأمل بالخروج من هذا المكان ... بدأت أؤمن بأنهم قد قتلوا جميعا في الحرب ... و إن كان الأمر كذلك ، فإنني لا أرغب في الخروج ... بل أرغب في الموت .... أحقا لم يعد لأهلي أي وجود ؟؟ أماتوا ؟ أم تخلوا عني ؟ أم ماذا ؟؟ و بريتا ؟؟ ماذا حل ببريتا ؟؟
في تلك الليلة ، رأيت كابوسا أفزعني ...
بريتا سمير يلهوان بالدراجة الهوائية ، ثم يهويان في حفرة مليئة بالجمر المتقد ثم تشتعل النيران و تكبر ، و تحرق منزلنا ... و آتي صارخا أحاول إخراج بريتا من الحفرة ... و أمد يدي فإذا بي أخرج حزاما طويلا تأكله النيران ... و أقرب وجهي من الحفرة ، فإذا بي أرى وجه بريتفي في الداخل ، يبتسم ثم يقهقه و أسمع صراخا يدوي السماء صراخ بريتا ...
" كارااااااااااااااااااان ... أنا خائفة ... تعال "
أفقت من نومي مذعورا ، و العرق يبلل ملابسي و فراشي ، كما تبلل الدموع وجهي المفزوع ...
كنت أرتجف ، و أتنفس بصعوبة بالغة ... و بلا إدراك اهتف
" بريتا ... بريتا "
صديقي ديب أقبل نحوي و أخذ يهدئني و يطمئنني ...
" هوّن عليك يا كاران ... لم يكن إلا كابوسا "
لم أشعر بنفسي و أنا ارتمي على ص*ر ديب و أبكي بقوة و أهذي ...
" أريد العودة لأهلي ... دعوني أراهم و لو مرة واحدة ثم اقتلوني ... لا أريد الموت قبل ذلك ... أريد أن أحقق أحلامي ... أريد أن أكمل دراستي ... أريد العودة إلى بريتا ... كان يجب أن أقتله ... انتظريني يا بريتا فأنا قادم ... "
و نهضت كالمجنون ... و توجهت نحو الباب و أخذت أضربه بعنف و أصرخ :
" أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا أيها الأوغاد "
لحق بي ديب ليمنعني من إثارة مشكلة ألا أنني أبعدته عني بركلة قوية من رجلي ... و ظللت أركل الباب بشدة و أنا مستمر في الصراخ ...
حضر مجموعة من الحراس و فتحوا الباب ، ثم انهالوا علي ضربا بعصيهم حتى شلوا حركتي ... و انصرفوا ... لم يجرؤ أحد السجناء على فعل شيء حتى لا يلقى ذات المصير و منع عني الطعام في اليوم التالي تدهورت صحتي الجسدية و النفسية بشدة بعد تلك الليلة ، و قضيت عدة أسابيع طريح الفراش ... و ربما هذا ما منع العساكر من تطبيق نظام التعذيب اليومي على جسدي ... إلا إن أدركوا أنهم كانوا مخطئين ! جسدي ، و الذي كان ضخما و قويا ، تحول إلى عظام متراكمة فوق بعضها البعض بلا حول و لا قوة ...
بعد فترة وجيزة ، ص*ر قرار يمنع زيارة السجناء ، و لم يعد ريشاب للظهور مجددا
و انتهى أملي الوهمي بالخروج من هنا ....
و استسلمت أخيرا لحياة السجون ....
حاولت أن أصف لكم بعض الذي قاسيته في ذلك السجن الذي قضيت فيه فترة شبابي اليافع ... و التي ضاعت سدا ... فترة جافة قاسية أ**بتني جفافا و خشونة لم أولد بهما و لم أتربى عليهما و غيرت في بعض طباعي ، و بدأت أدخن السجائر كان الحارس يتصدق علينا بسيجارة واحدة ، ندور بها فيما بين شفاهنا جميعا ... و تقتسم همومنا و نقتسم سمومها ....
و مر عام آخر ... و أكثر ... ألمّ المرض بصديقي ديب من جراء التعذيب المستمر ... كان على فراشه ، و كنت اعتني بجروحه و إصاباته التي لم شملت حتى أطراف أصابعه ...