11

1911 Words
و كم أسعدتها التجربة الثانية ! نعم ... ببساطة ... أسعدتها ! كأي طفلة صغيرة وجدت فرصة لتلهو ... دون أن تدرك حقائق الأمور ... لهونا كثيرا ... ، و حين اقترب الموعد الذي يفترض أن أكون فيه عند مدرسة بريتا و شريستي ، في انتظار خروجهما ... " عزيزتي ، سنذهب لأخذ شريستي من المدرسة ، لا تخبريها عن أي شيء " نظرت بريتا إلي باستفهام ، أمسكت بكتفيها و قلت مؤكدا : " لا تخبري أحدا عن أي شيء ، أنا سأخبرهم بأنك لم تشائي الذهاب للمدرسة فأخذتك معي ... اتفقنا بريتا ؟ عديني بذلك ؟ " و ضغط على كتفيها و بدا الحزم في عيني ... فقالت : " حسنا " قلت مؤكدا : " أخبريهم فقط أنك ذهبت معي ، و نمت أثناء الطريق و لا تعلمين أي شيء آخر ... لا تأتي بذكر أي شيء آخر بريتا ... فهمت ِ عزيزتي ؟ " " نعم " " عديني بذلك يا بريتا ... عديني " " أعدك ... كاران " " إذا أخلفت وعدك ، فإنني سأرحل و لن أعود إليك ثانية " توجم وجهها ، ثم أمسكت بيدي و شدّت قبضتها بقوة و اغرورقت عيناها بالدموع و تعابيرها بالفزع و قالت : " لا لا ترحل كاران . أرجوك . لا تتركني . أعدك . أعدك " وصلنا إلى البيت أخيرا ، بدا الوضع شبه طبيعي ، إلا من سكون غريب من قبل بريتا و التي يفترض بها أن تكون مرحة ... الكل عزا ذلك للحزن الذي يعتريها بسبب سفري المرتقب . سألتني أمي : " كيف كان الامتحان ؟ " قلت : " سأخبرك بعد الغذاء " و تركت العائلة تنعم بوجبة هنيئة أخيرة ... بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة والدي ّ في وقت قيلولتهما الصغيرة ... " والدي ... والدتي ... لدي ما أخبركما به " بدا القلق على وجهيهما ، و تلعثمت الكلمات على لساني... أمي ، حين لاحظت حالتي المقلقة قالت : " هل الامتحان .... ؟؟ " قلت : " لم أحضر الامتحان " اندهشا و تفاجأا ... قال والدي : " لم تحضره ؟ كيف ؟؟ لماذا ؟؟ ماذا حصل ؟؟ " نظرت إليهما ، و سالت دموعي ... و انهرت ... و طأطأت رأسي للأرض ... هتفت أمي بقلق و فزع : " كاران ؟؟ " أخذت نفسا عميقا ... و رفعت بصري إليهما و بلسان مرتجف و جسد يرتعش و شفتين مترددتين قلت : " لقد .... قتلت بريتفي " ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ الهاتف المحمول الخاص ببريتفي، و الرقم الأخير الذي تم طلبه ، و الأخير الذي تم استقباله فيه ، و توقيت الاتصال ، و توقيت حدوث الوفاة ، و العراك الذي حصل مؤخرا بيني و بينه و تدخلت فيه الشرطة ، و عدم حضوري للامتحان ، كلها أمور قد قادت الشرطة إلي ّ بحيث لم يكن اعترافي ليزيدهم يقينا بأنني الفاعل ... بقي ... شيء حيّرهم ... تركته ساكنا في قلب الرمال ... حزام بريتا ما سر وجوده هناك ... ؟؟ أنكرت أي صلة لبريتا الموضوع بتاتا ، و لدى استجوابها أخبرتهم أنها لا تعرف شيئا ، حسب اتفاقنا ريشاب أيضا تم التحقيق معه ، و أكد للشرطة أنه حين اتصل بي كنت على مقربة من المبنى حيث قاعة الامتحان و ظل السؤال الحائر : لماذا عدت أدراجي ؟ ما الذي دفعني للذهاب إلى شارع المطار ، و الشجار مع بريتفي ، و من ثم قتله لماذا قتلت بريتفي ؟؟ ما الذي أخفيه عن الجميع ؟؟ والد صديقي ريشاب كان محاميا تولى الدفاع عني في القضية ، باعتبار أنني قتلته دون قصد ... و أثناء شجار ... و بدافع كبير أصر على كتمانه ... و سأظل أكتمه في ص*ري ما حييت ... فإن هم حكموا بإعدامي ... أخبرت أمي قبل تنفيذ الحكم ... و إن عشت ، سأقتل السر في ص*ري إلى أن أعود ... من أجل صغيرتي ... تعقدت الأمور و تشابكت ... و ظلّ الغامض غامضا و المجهول مجهولا ، و حكم علي ّ بالسجن لأمد بعيد ... " أمي ... أرجوك ... لا تخبري بريتا بأنني ذهبت للسجن ... اخبريها بأنني سافرت لأدرس ... و سأعود حالما أنتهي ... و قولي لها أن تنتظرني " " أبي ... أرجوك ... لا تقسو على بريتا أبدا ... اعتنوا بها جيدا جميعكم ... فأنا لن أكون موجودا لأفعل ذلك " كان ذلك في لقائي الأخير بوالدي ّ ، قبل أن يتم ترحيلي إلى سجن العاصمة حيث سأقضي سنوات شبابي و زهرة عمري فيه ... بدلا من الدراسة في الجامعة ... و أعود إن قدرت لي العودة خريج بدلا من خريج جامعات ... و بمستقبل أ**د منته ، بدلا من بداية حياة جديدة و أمل ... هكذا ، انتهت بي الأحلام الجميلة ... هكذا ، أبعدت عن بريتا ... محبوبتي الصغيرة ، و لم يبق لي منها إلا صورتين كنت قد وضعتهما في محفظتي قبل أيام ... و ذكريات لا تنسى أحملها في دماغي و أحلم بها كل ليلة ... و صورتها الأخيرة مطبوعة في مخيلتي و هي تقول : " لا لا ترحل كاران . أرجوك . لا تتركني " لأن أخي كاران لم يعد موجودا ، فسأخبركم أنا ببعض ما حدث في بيتنا بعد المصيبة العظمى . لم يكن تقبل أي منا لا أنا و لا والديّ أو شريستي أو بريتا لغياب كاران بالشيء السهل مطلقا و خصوصا بريتا ، فهي متعلقة به كثيرا و رحيله أحدث كارثة بالنسبة لها مرضت بريتا في بداية الأمر بشكل ينذر بالخطر . كاران قبل أن يخرج مع أبي من المنزل ذلك اليوم إلى حيث لم نكن نعلم ، مر بغرفة بريتا و قد كانت مقيلة بعد الظهيرة . أظنه ظل ّ يبكي هناك لفترة طويلة ... فتش جيوبه ثم أخرج مجموعة من تذاكر أل**ب حديقة الملاهي ، و وضعها إلى جانبها كما وضع ساعة يده ... ثم قبل جبينها و غادر أتى إلينا واحدا واحدا و جعل يعانقنا بحرارة و دموع مستمرة ... عندما سألت شريستي : " إلى أين تذهب يا كاران ؟؟ " أجاب أبي : " سيسافر ليدرس كما تعلمون " الذي نعلمه أن موعد السفر لم يكن في ذلك اليوم ... و لو يكن قد تحدد إنني لم أعرف أنه في السجن غير اليوم التالي ، و قد أجبرت على كتم السر هذا عن الصغيرتين . صحيح أنني تمنيت أن يهلك بريتفي لحظة أن سحر مني و جعل الناس من حولي يضحكون علي ، إلا أنني لم أتمنى أن يكون شقيقي الأكبر و أخي الوحيد هو من يهلكه... خلال السنوات الماضية ، كثيرا ما كان الشجار ينشب بينهما و عراكنا الأخير لم يكن غير حلقة من السلسلة ... خاتمة السلسلة الحلقة الأخيرة ... فيما كنا جالسين في غرفة المعيشة بعد مغادرة أبي و كاران وصلنا صراخ غير طبيعي من غرفة بريتا أسرعنا جميعا نحوها فوجدناها في حالة فظيعة من الذعر و الخوف ... و تصرخ " كاران ... كاران ..." تلت ذلك مرات و مرات و حالات و حالات من الذعر و الفزع و الانهيار التي أودت بصحة الصغيرة لأسابيع ... في كل يوم ، بل كل ساعة ، تقوم بريتا بالاتصال بهاتف كاران لكن دون جدوى " لقد قال أنه سينتظر اتصالي كل يوم " لقد كانت تعتقد أنه سافر .. " أنا وفيت بوعدي ... يجب أن يفي بوعده " و الكثير من الهلاوس و الوساوس ... و التصرفات الغير طبيعية التي ص*رت منها ... و بدلا من أن تكبر ... أظنها صغرت و عادت للوراء ست سنين ، أي كما جاءتنا أول مرة ... بكاء مستمر ، و خوف لا مبرر له ، تشبث جنوني بأمي ، حتى في النوم . رفضت الذهاب للمدرسة أول الأيام ، كثيرا ما كانت تدخل غرفة كاران و تستلقي على سريرة و تبدأ بالبكاء ثم الصراخ ، حتى اضطرت والدتي لقفل تلك الغرفة لحين إشعار آخر ... توالت الأيام ، و بدأت حالتها تهدأ شيئا فشيئا ، و تعتاد فكرة أن كاران لم يعد موجودا ، و أنه سيعود بعد زمن طويل ... أما تذاكر اللعب ، فحين أردت أخذها ذات مرة لتلهو في الحديقة ، رفضت ... و قالت : " سأذهب مع كاران حينما يعود " و أما الساعة ، فلا تزال تحتفظ بها بين أشيائها النفيسة ... " سأعيدها لكاران حين يعود " لأنه نقل إلى سجن العاصمة ، فإننا لاقينا بعض الصعوبات في زيارته ، خصوصا و أوضاع البلد تدهورت كثيرا و الحرب اشتدت و الدمار حل و انتشر و حطّم ما حطم من المباني و الأراضي و الشوارع ... و كل شيء ، و اضطررنا لترك منزلنا و الانتقال لمدينة أخرى ... ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد إلى السجن . في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية أو المتهمين بها ظلما . كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام . تعرفت على ( زميل ) يدعى ديب . ديب هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة ... " و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ " سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث ؟؟ أجابني : " ليس لدي الكثير من الأقارب ، إلا أنني اعتقد أنهما ستلجأان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل " و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد بريتفي الذي قتلته ! الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى بريتفي ... و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك . لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة ... و أي مر ؟؟ أي عذاب ؟ أي ضياع ...؟؟ في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة ... اغمض عيني ّ و أفكر ... و أتذكر ... و أبكي ... أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما ... هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي ... هذه أمي ... هذا شقيقي سمير ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم ... و هذه شريستي ... بظفيرتيها المتدليتين على كتفيها ... و هذه ... هذه ... من هذه ؟؟ إنها دنياي ... حبيبتي الصغيرة المدللة ... طفلتي الغالية ... نبضة قلبي ... بريتا تقف إلى جانبي ممسكة برجلي ... كانت تريد مني أن أحملها إلا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري ... و في هذه الصورة ... مع دفتر تلوينها ... ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم ... كم أحب أن أمسح على رأسها ... ما أنعم هذا الملمس ... مسحت بيدي ... شعرت بخشونة ... خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه ... خشونة الواقع الذي أعيشه ... رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي ... و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير ... صرخت ... صرخت فجأة رغما عني ... " بريتا ... أعيدوني إلى بريتا ... أخرجوني من هنا ... " في الصباح ... أنهض عن سريري بكل **ل و كل ملل و إحباط فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح ... و أي فطور ... عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي كنت أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر ... و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى أنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا ...
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD