الفصل الخامس عشر

3012 Words
فتاة ستوكهولم الفصل الخامس عشر . - ١ - الإثنين. ٢٤ يناير ٢٠١١. الليلة الثانية والستون. — الله يرحمها.. طيب ما فكّرتش ولا مرّة تزور قبرها، وتقرأ لها الفاتحة!!!. نطقتها ”سلمى“ وهي جالسة على حافة السرير، وكالعادة دون أن تلتفت إلى الوراء.. نطقتها بصوتٍ خفيض تستطيع رؤية حدوده.. وفي أريحيّة عَدَّلَت أولاً خصلة من شعرها المنساب خلف أذنها، ثم نظرت إلى الشُبَّاك المتراقص عليه ضوء الشموع ثانياً، قبل أن يأتيها الردّ منه أخيراً : — فكرّت كتييير، بسّ ما كانش أكتر من تفكير الصراحة.. ماعرفش ليه في كل مرّة، كنت برجع في كلامي في أخر لحظة!!!.. أصلي ساعات بحِسّ إني كنت السبب في اللي حصلها!. عبارات تفوّه بها ”يوسف“ مادّاً ساقيه فوق بعضهما على الطرف الأخر للسرير؛ الذي إضطجعت عليه ”سلمى“.. عبارات نطقها؛ وهو يبتلع قرص الـ«أناركول» الذي وصفه له الطبيب ذات نهار؛ ليعينه على الإقلاع عن الهيروين.. بالإضافة إلى القليل من المياه لم تزد عن رشفة؛ لعدم تحمّل معدته المزيد من ذلك السائل الشفاف، عديم اللون والرائحة والطعم.. فقد كان بالنسبة له بمثابة الـ«جازولين» الحارق، المستخدم من قِبل الألمان في الحرب العالمية الثانية. أسكن ”يوسف“ المفكّرة أعلى فخذيه، ثم أحكم بطَّانيّة بطبقتين حول جسده المتراخي.. ولوهلة فَكَّر في إشعال سيجار بُخوري نحيف، ليلهب به رئتيه ويريح عقله قليلاً؛ ولكنه سريعاً أحجم عن هذه الفكرة الخائبة.. لم يعد بإمكانه تحمّل الدُخان النيكوتيني أيّ كان نوعه وجودته؛ فلقد كانت أعراض إنسحاب ال*****ن والكحول، تخسِف بجسده بضراوة متزايدة لا تنقطع.. كما أن التحكم في سيول أنفه المخاطية، كان أعسر من قطع المحيط الأطلنطي بعوّامة مقطوعة لأربع أجزاء.. ثَبَّت يميناً تحمل منديل قماشي أسفل أنفه، قبل أن يُكمل بصوتٍ متهدج أشبه بخترفة المحمومين : — تصدّقي إني ما فوّتِش سنوية واحدة له هو!!.. وما قدرتش أزورها هي ولا مرّة!!.. أصلهم بيقولوا إن الميّت بيحسّ بالناس العايشة؛ فمش عايزها تتعذّب لمّا تشوفني كده!!. — الله يرحمها.. أمي كانت دايماً تقول لي كده برضو، لمّا كنت بسألها عن بابا.. الله يرحمه، مات أوّل ما خلّف أختي الصغيرة بكام شهر!!. — الله يرحــــــــــــ,,, . قطع حديثهما الشَيّق صوت آلي، يخرج من مُكبّر صوت ياباني، حمله رجل يعتز بشاربه كثيراً.. صوت آلي رخيم، مسح مناحي الفيلا من الخارج، حتى وصل إليهم في الداخل.. لم تكن حالة ”يوسف“ الصحّية تؤهله للهروب أو إخفاء ”سلمى“؛ أو حتى تصحيح محاولة الإنتحار، التي فشل فيها قديماً.. وربما كان عقله المتصدّع لا يستوعب ما يتعيّن عليه فعله لحظتها.. مبتسماً بحسره على حاله، نطق بصوتٍ منتحب دامع : — خلاص كده!!.. إنتي دلوقتي حُرّة!.. بسّ تصدّقي مش زعلان إنهم هيقبضوا عليّا!!.. أنا زعلان بسّ عشان مش هشوفك تاني!!.. ”سلمى“!.. الأيام اللي قضّيتها معاكي والله العظيم، كانت أحلى أيام في حياتي.. هتوحشيني أووي يا ”سلمى“!!. بسبب الرؤية الضبابية في جنبات الغرفة، لن تستطيع الجزم إذا كانت ”سلمى“ تدمع حينها أم لا؛ ولكن ستلاحظ بسهولة من أن مُقلتيها تلمعان كماسة «كوهنيور» متوسطة الحجم؛ حيث كانت تتجمّع فيهما الدموع كالبُنيان المرصوص يسند بعضه بعضاً.. دقيقة **ت قطعها دخول أفراد الشرطة، وعلى رأسهم ”عزمي“ بيه ومعاونه.. وعلى طريقة المباحث الفيدرالية، قيّدا ”يوسف“ باكياً بالـ«كلبشات» من الخلف، ودون أيّ مقاومة.. الڤيلّا الهادئة أصبحت فجأة مرتعاً للدوشة والجلبة؛ الـ”عقرب“ يساعد ”سلمى“ في الخروج من براثنها لملاقاة أمّها وأخوها؛ والمعاون يقتاد ”يوسف“ إلى ميكروباص الداخلية الكُحلي.. وبتدقيق الملاحظة سترى وقتها أن عينا ”يوسف“ لا تزوغ ثانية عن ”سلمى“؛ التي بدورها لم ترفع عينيها الباكية عنه، حتى وهي تحتضن أمها. سريعاً إقتربت سيارة الاسعاف من ”سلمى“، وقبل أن تفرقها عن والدتها وأخيها؛ الذان كانا يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مُختلفون : — بنتي!!.. حمد الله عالسلامة!!.. ألف حمد وشكر ليك يا رب.. إنتي كويسة!!.. فيكي حاجة!.. حدّ عملّك حاجة!!!. سؤال ألقته ”تحية“ على إبنتها لتتأكد من سلامة عذريتها؛ وهي تمطرها بآلاف القبلات فوق خدّيها الشاحبين.. سؤال أجابت عليه ”سلمى“ مرتعشة من البرد بإيماءة رأس، أفادت نفي ما يكمن في مُخيّلة الوالدة.. لا أعلم إذا كان البرد هو سبب رجفتها؛ أم أنّ هناك سببٌ آخر!!.. سببٌ له رائحة «Intenso»، ويعشق تناول الآيس كريم في ليالي الشتاء الباردة. بعدها إنكمشت ”سلمى“ بجسدها؛ الذي أصبح ضئيلاً على السرير المعدني الراقد داخل سيارة الإسعاف، ثم أجهشت بالبكاء تاركة لعينيها العنان أمام أخيها، الذي صاحبها ب**ته كالعادة إلى المستشفى الجامعي!.. ومع الزفير المحموم بدُخان القطران، رَدَّد ”عزمي“ بيه بعد أن جلس خلف عجلة القيادة، الخاصة بسيارة الـ«أتاري» مُحدِّثاً خيالاته : — عندك حق!.. ديله لِسّة صاحي!.. فعلاً، ديله نجس زيّه!!!. هناك غدّة في جسم الإنسان مسئولة عن إفراز هرمون السعادة، المعروف طبّياً بالـ«دوبامين».. هذا الإفراز ممكن أن يزيد ليصل لمرحلة الـ«إمفوريا»؛ إذا إرتبط الفعل المتسبّب في حالة السعادة بإنجاز عظيم.. والترقية المتأخّرة من الممكن أن تعتبر من الإنجازات العظيمة لتلّ ال*قارب أجمعين.. دبّورة إضافية بجانب النسر الذهبي، ستجعل بالتأكيد مظهر الكَتَّافات أكثر أناقة وأجمل بكثير.. جمالٌ عميق يصاحبه دفء مادي في المحفظة الجلدية؛ ممّا يعني لزوجته مزيداً من الـ«شوبينج» فتصبح تلقائياً الخناقات بينهما أقلّ.. معادلة بسيطة لها ناتج واحد، هو إستقرار أُسري مؤقّت وهو مطمح كل الأزواج!!. . *** . - ٢ - الثلاثاء. ٢٥ يناير ٢٠١١. الواحدة ظهراً. جاهدت أسراب الموظفين المُض*بين عن عملهم - وعلى رأسهم ”ربيع العربي“ - في الوصول إلى قلب #ميدان_التحرير.. الهتاف يعلو ويسخن كل دقيقة، ولم يعد هناك وقت لقزقزة اللِبّ السوري.. لم يكن قد ترامى بعد إلى سمع ”ربيع“ خبر العثور على ”سلمى“ حتى الآن.. ولكن، لحظة!!.. ما سرّ ذلك النشاز الموجود في الهتافات.. نشازٌ خرج عن القاعدة ممّن يمشي على أربع.. إنه «سيمبل»؛ يركض وسط الميدان بنباحه، مستجيباً بمهارة لعمليات الكَرّ والفَرّ.. يلهث فيتطاير ل**به، كلّما رأي جرحاً أو إغماءة لأحدهم.. الجماهير تُردّد عالياً {#إرحل}؛ فيصاب «سيمبل» بالغثيان من أثر الدوشة والإزعاج.. هناك حقيقة علمية ذُكرت في كتاب العلوم الخاص بالصفّ الثالث الإعدادي؛ وهي أن الكلاب تتمتع بأذن حسّاسة جداً، أيّ أن حاسة السمع عندها مرهفة بشدّة.. ولكن تلك الحقيقة العلمية، غَفَلَت ذِكر أن السمع لا يستوجب الطاعة دائماً. بعد حوالي «٦٣٠» نبحة خرجت من «سيمبل»، إشتدّ عليه التعب واليأس؛ فبسط ذراعيه بالوصيد جوار العديد من بني ج*سه.. العديد من ذوات الأربع، الذين ضاقوا ذرعاً من الدوشة، والغاز المسيل للعاب.. متهالكاً ربض ”سيمبل“ جوارهم بعيونٍ مفتوحة، وروحٍ مهتوك عرضها سنيناً عدداً.. تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، هكذا بدا منظر أغلبهم فوق الرصيف. هرول عقرب الساعة قليلاً مُحدِثاً الثالثة عصراً.. وكانت ”سلمى“ تُحملق وقتها في غياهب سقف غرفتها بمستشفى «القصر العيني».. شاردة تماماً إلى أن دخلت عليها ممرضة لزجة، لها جسد مُدَوَّر ككرة قدم ونهيجها يُسمَع من على مسافة سنة ضوئية، أو يزيد.. بالإضافة إلى أن حركتها لها إيقاع حزام زلازل، ولا تمُتّ بصِلة إلى الج*س الناعم ولا الخِشِن أيضاً.. وبثِقَل «خرتيت» لا ينتمي لمملكة الحيوان، إقتربت من سرير ”سلمى“ وخ*فت نظرة سريعة إلى الـ«جلوكوز» المعلّق جوارها قبل أن تنطق بديباجة مفروغ منها : — حمد الله على سلامتك!!.. ده إنتي إتكتب لك عُمر جديد!. قديماً كانوا يطلقون على المستشفيات الـ«بيمارستان»؛ أمّا هذا المبنى المسلول كان يليق عليه أكثر الـ«بيمورستان».. مالت ”سلمى“ برأسها يساراً متجنبة رائحة البصل والثوم؛ اللتان فاحتا من فمّ الممرّضة : — الله يسلّمك.. هي حالتي كانت خطيرة أوي كده!!. — لأ أبداً، ضعف عام وشويّة أنيميا.. أنا أصلي سمعت إنك كنتي مخطوفة؛ فالحمد لله إنهم لحقوكي!!. سكتت ”سلمى“ لثوانٍ قليلة، ثم مسحت عينيها : — هو أنا أقدر أمشي إمتى!!. كانت الممرضة قد وصلت إلى الباب وفتحته، ثم نظرت إلى الوراء لتجيبها بمودّة مصطنعة : — لِسّة شوية، مستعجلة على إيه!!.. أُمّك وأخوكي راحوا يجيبولك أكل وهدوم من البيت وزمانهم راجعين.. وبعدين إستنّي حتى لما الدنيا تهدى شويّة!!.. دي الدنيا بَرَّة مقلوبة، وبيقولوا في مظاهرات يااااما!. إنتظرت ”سلمى“ إنصراف الكائن السَمِج.. بعدها، نهضت من على سريرها بخُطاها الغلبانة.. وبطيئاً فتحت الباب، وتأكّدت من أن لا أحد يترقّبها داخل المورستان.. تمتمت بآية الكرسي عدّة مرات إلى أن غادرت المستشفى، قاصدة بكلّ عزم مبنى المديرية.. الشوارع في حالة هياج، وإستنفار أمني يشوبه غابة من الغازات المسيّلة للدموع : — على فين يا آنسة!!. نطقها أمين شرطة واقفاً كالزنهار أمام بوّابة المديرية، بعد أن تفحّصها سريعاً من خلال ما تبقّى له من بصره الشحيح : — داخلة أطمّن على أخويا!.. إتقبض عليه إمبـــــــــــــ,,,, . بترت ”سلمى“ عبارتها عندما لاحظت ”عزمي“ بيه، يصدح عالياً أمام بوّابة المديرية.. سريعاً إندفعت نحوه؛ فباعد اللاسلكي عن فمه : — مساء الخير يافندم!!.. أنا ”سلمى“ اللي كــــــــــــــ,,,, . — أيوة أيوة.. إنتي إيه اللي جابك هنا دلوقتي، مش المفروض تكوني في المستشفى!!. — كنت عايزة أعرف إنتوا هتعملوا معاه إيه!!. — هو مين!!. — هيكون مين!!.. اللي كان خاطفني! — اها!!.. قصدك ”يوسف“! — هو إسمه ”يوسف“!!. الضيق بلغ من الـ”عقرب“ مبلغاً عظيماً؛ فالقضية بالنسبة له قد إنتهت ولولا المظاهرات الحاشدة في مختلَف الميادين؛ لكان يُدندِن الآن «الترقية رجعت تاني لينا، و”عزمي“ اليوم في عيد» : — ده زمانه إترحّل دلوقتي على النيابة!. إبتعد عنها متوجهاً لبوّابة المبنى مُشعلاً سيجارة، قبل أن يُكمل دون الإلتفات إليها : — في محكمة شمال الجيزة؛ عشان ما تسأليش!. {عيش، حرية، عدالة إجتماعية).. كالعادة تأتي الحرّية كمطلب ثانوي.. هتافات ترتيبها يحتاج إلى مراجعة فقهية بالغة التعقيد.. تعالت الهتافات البائسة أمام ”سلمى“؛ فلم تُبالِ.. عبرت الضِفّة الأخرى من الشارع، وإنتظرت ثانية رفعت فيها يدها عالياً مشيرة إلى تا**ي «لادا» بالإنتظار : — لو سمحت ياسطى.. ممكن تودّيني محكمة الجيزة!!. — هتدفعي كام الأول!!. تململت ”سلمى“ من أسلوبه المُستفزّ، ثم أجابته بعد أن «طَرطَش» بكلماتٍ لم تسمع منها تقريباَ إلا {البلد واقفة.. مظاهرات في كل حِتّة.. عَطلة}. — اللي أنت عايزه ياسطى؛ بسّ بسرعة ربنا يخليك!. على الطريقة الكلاسيكية، جلست ”سلمى“ بعدها على الكنبة خلفه مباشرةً؛ لتصعّب عليه عملية الحملقة في جسمها.. سريعاً مَدَّ السائق يمينه ليعدّل وضعية المرآة؛ فأُتيحت له رؤية تفاصيلها الأُنثوية بدقّة : — استغفر الله العظيم.. والله الواحد مابقاش عارف يا آنسة أخرتها إيه مع العيال ولاد الهِرمة دول!!!!.. عيال أبالسة ولاد ستين (..........) لا مؤاخذة.. مش لاقية حَدّ يربّيها!!.. الله يخرب بيوتهم بحقّ جاه النبي!.. هي البلد ناقصة!!!. توقّف عن الكلام للحظة أثناء التحليق بالخُردة الروسي.. لحظة كادت أن تُودي بحياتيهما، جلب فيها شريط «ترامادول ٢٢٥» من جيب ضيّق، صنعه يدوياً في الـ«بُو**ر» المِبَقَّع خاصّته : — يلعن أبو اللي ركَّبكوا عربياااات!!.. يا بهايم يا ولااااد ستّين (............).. الله يخرب بيوتكوا بحقّ جاه النبي.. هي البلد ناقصة!!. نطقها مُحدِثاً إيماءة ب**ئة، بيسرى أخرجها قليلاً من النافذة.. جميع الأصابع مفرودة إلى النهاية عدا الوسطى؛ التي إنحنت بزاوية قدرها ٩٠ درجة.. ولم تكن ”سلمى“ قادرة على الإسترسال في الحديث الراقي معه.. مالت برأسها إلى الخلف قليلاً؛ فبادرها السوّاق بإذاعة «FM»؛ التي خرجت كالعادة بلا جديد من سَمَّاعات إنتشرت فيها الـ«خَروَشة» : — ما تشوفيلنا الدنيا فيها إيه على النِتّ عندك كده يا أوستاذة!!.. أحسن الدنيا متبهدِلة والشوارع واقفة؛ والراديو مش جايب سيرة عن أيّ حاجة!!. لم تنتبه ”سلمى“ لنداءاته.. أسدلت جفنيها، وشردت مبتسمة في {طريقة كلامك بتفكّرني بطريقة كلام ”ريحانة“.. بَحِسّ إن فيها كده هُدوء وسذاجة مش طبيعية!!.} أخذت تستعيد الذكرى تلو الأخرى بهدوءٍ نسبيّ؛ كمحترفة في شغل الـ«تريكو» : — يا أوستاذة.. يا أوستاااذة!!.. المحكمة يا أوستاذة!!. إنتبهت ”سلمى“، وعادت إلى واقعها المُرّ على لفظة المحكمة.. خرجت من التا**ي، واقتربت برأسها من الشُبَّاك الأمامي قبل أن : — معلش بسّ ياسطى!.. ممكن لو سمحت تستنّاني عقبال ما أدخل أجيبلك الفلوس بسرعة من جوّة.. أصلي نزلت من غير ولا ملّيم!!. في شهامة ولاد البلد، والعاطفة الجيّاشة، وإستجابة للتأثير السحري للـ«ترامادول»، نطق السائق قبل أن ينطلق منصرِفاً : — لا حول ولا قوّة إلّا بالله!!.. إتكلي على الله يا أوستاذة.. نهارك أبيض!!. إلتفتت ”سلمى“ بعدها إلى واجهة المحكمة، المُزيَّنَة من الخارج بصورة حجرية لإمرأة تحمل ميزان عدل، يُشبه كثيراً المستخدَم عند «بيّاعين» الفاكهة قديماً.. دلفت أخيراً البوّابة، وإختلطت بجماهير المحامين.. متشابهين في ملابسهم؛ كما تتشابه وجوه الأسيويين فيما بينهم.. حَدَّجَت واحداً بنظرة متيبّسة، ثم إختارته.. طويل، ويحمل حقيبة «سَمسونايت» بيمينه، وتليفون «Motorola» شارف التلَف بسبب زعيق، خرج منه كقاعة أفراح الـ«لؤلؤة» : — لو سمحت، هي نيابة الشيخ زايد منين!!. — خير بسّ، عايزاها ليه!!. تأفَّفَت ”سلمى“ من سماجته المُزعِجة كـ«كلا** تريلّلا» قديمة؛ فمسحت وجهها بيديها بعد أن عَدَّلَت من وقفتها، لتُظهر إستعجالاً حقيقياً : — معلشّ بسّ عشان مستعجلة!!.. أطلعلها إزّاي لو سمحت!. — طيب بالراحة بسّ!.. الباب اللي هناك يا ستّي؛ هتطلعي السلم اليمين!.. الدور التالت.. أخر طرقة شمال!. في رشاقة لاعبة «جُمباز» تسعى للحصول على الذهبية في «أولمبياد» بكّين، قفزت ”سلمى“ من أمامه متجهه إلى ما أشارت له يمينه، ولم تحفل لصوته الجهوري الذي إسترسل عالياً قبل أن تتلاشى هي تماماً عن عينيه : — ولو إحتجتي أيّ حاجة، إطلعي إستراحة المحامين واسألي عنّي.. قوليلهم بسّ ”محمد زهران“ المحااامي!!!. {معارضة إستئنافية، صِحّة توقيع، تحت في الحبسخانة، واحدة من الداخل، أربعة إستمرار}.. مصطلحات «مِجعلَصة»، تشَدَّقَت بها أكوام من الأرواب القماشية السوداء، ولم تُلقِ ”سلمى“ لها بالاً.. وكفراشة منقَّطة ترتدي جونلّة مخطّطة، وصلت ”سلمى“ للباب المُستهدَف.. باب خشبي، يجلس جواره عسكري بصوفه الأ**د، تحت يافطة معدنية مُزخرفة بـ”ممدوح عطية“ وكيل أوّل نيابة الشيخ زايد.. في توجّس تحدّثت للعسكري : — لو سمحت!.. عايزة أقابل وكيل النيابة بسرعة من فضلك!!. — أقول له مين حضرِتك!. — قول له ”سلمى“.. ”سلمى سلامة“ اللي كانت مخطوفة، وأنقذوها إمبارح!!. — طب لحظة واحدة!. نطقها العسكري المسلول، ثم أجلس «كُبَّاية» الشاي الأ**د كما الحِبر على الكرسي بدلاً منه، قبل أن يُخفي السيجارة المشتعلة جوار عمود رُخامي.. قرع الباب مرتين قبل أن يض*ب بقدمه الأرض، مؤدّياً تحية عسكرية جاء بعدها : — في واحدة بَرَّة عايزة تقابل سعادتك!!.. وبتقول إن إسمها ”سلمى سلامة“، وكانت مخطــــــ,,, . أجابه الجالس خلف المكتب، ومرتدياً بذلة «أوليڤي» فاتح : — أها.. أهاا.. خَلّيها تدخل!. خرج العسكري بعدها، وأدخل ”سلمى“.. وكالمصابين بمتلازمة «داون» والتبّول اللا إرادي مجتمعين، وقفت ”سلمى“ على السجّادة المنحولة، المُمتدّة أمام المكتب : — مساء الخير.. أنا ”سلمى“ اللي كـــــــــ,,,, . — أيوة أيوة.. خير!!.. في حاجة جديدة عايزة تبلّغيها!!. طلبت أولاً الإذن بالجلوس، ثم نطقت مُرتجِفة : — أيوة.. أنا جايّة أقول، إنّي ما كنتش مخطوفة الفترة اللي فاتت دي ولا حاجة!!. إستحوذت الدهشة على قسمات وجه الوكيل بعد كلماتها.. سريعاً إنتخب أحد أصابع يمينه، وصفع به جرس خفي أسفل سطح المكتب؛ فدخل بعدها المسلول بفمّ تفوح منه رائحة الخشب المحترِق : — أؤمر سعادتك!!. — هي عربيّة الترحيلات مشيت ولّا لِسّة يابني!!. — لأ.. لِسّة سعادتك!. — طب إنزلهم تحت بسرعة في أودة الحجز التحفّظي.. وهاتلي المتّهم اللي إسمه ”يوسف“ بسرعة.. ولو ملاقيتهوش، إبعت مندوب بإشارة للقسم لإستكمال التحقيق.. بسرعة!!. ألقى الوكيل التعليمات على المُجَنّد، ثم وَسَّع ربطة الـ«كراڤتة» قليلاً.. وبعدها، إبتلع أخر رشفة من كُستِبان القهوة السادة، الموضوعة أمامه وأردف : — إحكيلي بقى الموضوع بالتفصيل!!. هناك درجة من درجات الحُبّ تدعى الغرام؛ وهي التعلُّق بالشيء تعلُّقاً يستحيل التخلّص منه.. وهي أعلى وأشدّ - كما قرّر علماء اللغة - من الإستكانة؛ وهي مرحلة الذُلّ والخُنوع للحب.. أعتقد أن تلك المرحلة أشدّ قسوة ممّا أُصيبت به «زليخة» إمرأت العزيز، عندما راودت سيدنا «يوسف» عن نفسه : — بسّ كده حضرتك.. هو ده الموضوع كلّه!!.. وبعتذر جدّاً لحضرتك، لو كان في سوء تفاهم!!. بوجه شاحب كما الـ«كُركُم»، حاول الوكيل إبتلاع القصة؛ التي سردتها حالاً عليه.. ومحاولاً سَدّ فراغات سحيقة في روايتها، شرد في عينيها وأكمل : — طب ومحاولتيش ليه تطمّني أهلك طول الفترة اللي فاتت دي!!.. ثم إن هو تقريباً إعترف على نفسه، وحكى لنا كل حاجة بالتفصيل!!.. من أوّل موضوع القفص اللي كان حابسك فيه، لِحَدّ المُذكّرات بتاعة أبوه!!.. بصّى!.. لو بتحاولي تبرّأيه عشان خايفة لينتقم منك بعد ما يخرج؛ فمتخافيش خالص يا ”سلمى“ صدّقيني!!. دعكت ”سلمى“ يديها في بعضهما قبل أن تشهق كربّة منزل، تجيد عمل «طَشِّة» الملوخية بالتقلية : — لا والله أبداً، أنا بقول الحقيقة!.. حرام بعد اللي عمله عشاني ده كله؛ أكون السبب في حبسه ولو ساعة واحدة!.. وبعدين أنا طمّنت أهلي فعلاً، وبعتِّلهم جواب كتبت فيه إني كويسة.. أمّا بالنسبة لإعترافه على نفسه؛ فأكيد حضرتك ملاحظ حالته عاملة ازّاي!!.. صدّقني يا فندم ”يوسف“ مظلوم!!. إنتهت ”سلمى“ من حديثها قبل أن تسمع طرق الباب بلحظة، دخل بعدها المسلول مُقتاداً ”يوسف“ بأصفاد، تمّ توثيقها جيداً بين يديهما : — تمام سعادتك!. — فُكّ الأساور يا عسكري، وإندهلي ”أشرف“.. وخليك واقف بَرَّة!!. أعتقد أن فرحة من حظى بوليّ العهد من إمرأة عاقر بعد أربعين سنة زواج دون إنجاب؛ ستكون أقلّ بكثير من السعادة التي تجَلَّت على تقاطيع ”يوسف“ عند رؤيته لـ”سلمى“ أمامه.. وعلى الرغم من فَتك أعراض الإنسحاب لروحه؛ إلا أنه أطال النظر إليها بعينين مُتهالكتين.. عينان تحولّا إلى الأحمر القاني، بسبب إستحالة النوم في ظِلّ آلام الانسحاب المبرحة.. لحظتها كانت ”سلمى“ تبادله تلك المشاعر وأكثر؛ ولن أُبالغ إذا قُلت أن رغبتها في حُضن بربري دافئ بين ساعديه، كانت واضحة جليّاً من نظراتها وإنفعالاتها.. بعد الدخول المتوقّع لـ”أشرف“ الكاتب، جلس على كرسيه جوار الوكيل، الذي أملى عليه بعد ديباجة طويلة مفروغ منها : — وبناءً عليه؛ فقد قرَّرَنا نحن ”ممدوح عطية“ وكيل أوّل نيابة الشيخ زايد، إخلاء سبيل المُتّهم من سراي النيابة وبدون أيّ ضمانات!. لم تكن المحكمة أهلاً للأحضان الرومانسية؛ فإكتفيا بشَبك يديهما في بعض على طريقة «حبّيبَة» الكورنيش ساعة العصارى، بعد أن خرجا كلاهما من مكتب الوكيل. {عيش، حرية، عدالة اجتماعية}.. ما زال المُتظاهرين يتعاطون الهتافات، التي لم تتَعَدّ حَيّز الحناجر؛ فحاول ”يوسف“ الإبتعاد عنهم قدر الامكان.. سنوات العُزلة التي مَرّ بها، جعلته مصاباً بالـ«أكرافوبيا» حيث الخوف من الحشود.. كان ينتوي سؤال ”سلمى“ عن سبب صنيعها معه، وبدلاً من ذلك وجد نفسه يطلب منها لا إرادياً : — تتجوّزيني!!. رَدَّت ”سلمى“ مُستجيبة لتسبيلات عينيه؛ كعرّافة تنظر في البندورا خاصّتها : — موافقة!. — هاخدك ونسافر.. نسافر بعيد عن هنا، ونبتدي حياة نضيفة في جوّ نضيف!!. — نسااافر!!.. طب وهنروح فييين!!. — أيّ حِتَّة.. أنا كان طول عمري نفسي أعيش في السويد!. — السويد!!.. إشمعنى السويد بالذات!. — بلد نضيفة بجدّ.. هناخد بيت صغير في «ستوكهولم»، ونعيش سوا بعيد عن الإزعاج!!. — موافقة!. تفوّهت بها مستمتعة بجلال النظر إلى عينيه الكحيلتين.. يمسك بيديها في حِنّيّة مُتوحشة، قبل أن تسأل هي بعدما إتفقا على العودة سيراً إلى الڤيلّا : — ”يوسف“!.. هو أنت صحيح إسمك ”يوسف“ إيه!!. لا أعلم السبب الذي جعل «مارك توين“ يقول :{لا توقظوا المرأة التي تحب؛ بل دعوها في أحلامها حتى لا تبكي عندما تعود إلي الواقع المُرّ}.. ولكني على يقين من أنه لن يُمانع، إضافة لفظ الفتاة أيضاً إلى المرأة!!. — إسمي ”يوسف“!.. ”يوسف عسكر“!!. . . ***
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD