الفصل الرابع عشر

2755 Words
فتاة ستوكهولم الفصل الرابع عشر . - ١ - .{إذا فُرِضَت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرّد؛ سيفقد إنسانيته شيئاً فشيئاً}. . «تشي چيڤارا» الإثنين. ١٧ يناير ٢٠١١. الليلة الخامسة والخمسون. ألقت ساعات المساء الأولى بظلالها؛ فلم تتأثّر الرؤية في غرفة نوم ”يوسف“ ولو قليلاً.. ”سلمى“ تمتطي بمؤخرتها حافة السرير، ناظرة في ظلامٍ دامس إلى شُبَّاك مغلق؛ و”يوسف“ إتخذ من الكرسي الواقف جوار سريرها نعشاً صغيراً له.. وتدريجياً أغمضت هي عينيها، ثم أرهفت بصوتٍ خرج خجولاً من بين شفتيها : — إنت بجدّ كنت قلقان عليّا؟!!. — أه.. لأ!.. عادي يعني!!. إبتسمت شفتاها بعد تلك الإجابة المتردّدة، ثم لمعت عينيها خلف جفونها المسدلة.. لقد وجدت أخيراً ضالتها فيه.. الحِنّيّة التي طالما بحثت عنها!.. لحظتها، كان هناك «زار بلدي» يدور داخل جمجمتها من كثرة الأسئلة.. ومن بينهم إختارت واحداً، ثم أفلتته من بين شفتيها الورديتين : — إشمعنى أنا بالذات!!. — مش فاهم قصدك إيه؟!. — قصــــــــــــدي.. ليه إخترتني أنا بالذات؟!. قاربت أسئلتها على الإطاحة بهدوء ”يوسف“ إلى حدٍ كبير.. هدوءٌ مصطنع مبالغ فيه على ع** ما يحبسه داخل ص*ره من ثورة؛ فإرتجفت أحباله الصوتية بعد أن إرتعشت أفكاره قاصداً إجابتها.. لقد كان يريد إجابة محدّدة يُسكِت بها عقله قبل أن يُسكِتها هي، فلم يجد.. إذا إختارها لضعفِها؛ فسيصبح حينها أضعف منها!!.. كان يريد صرف تلك الإجابة بأيّ طريقة.. حينها كان على إستعدادٍ تام لغمر عقله بجردل بنزين، ثم إضرام النار فيه قبل أن يرضى بها إجابة. هناك دائماً غرفة سوداء داخل عقل كل إنسان، يهاب حتى الإقتراب منها.. غرفة مظلمة مملوءة بالأفكار المُغبَّرة المتعفّنة، يتظاهر دوماً بأنه لا يملك مفتاحها، ويُظهر سلام نفسي مزيّف بينه وبين ضميره جرّاء ذلك.. أعتقد أن سؤال ”سلمى“، كان بمثابة لعب «الإستُغمّاية» جوار تلك الغرفة في عقل ”يوسف“!!. — تحبّي أقرأ شويّة؟!. — اللي يريّحك!!. إذا كان السكوت علامة الرضا؛ فالرد على سؤال بسؤال بعيد تماماً هو أبو الرضا.. سحب ”يوسف“ المفكّرة من على الكومود، ثم إستبدلها بقدميه.. وفي إرهاق أشعل شمعة أولاً ثم سيجار رفيع بعد ذلك؛ وكچنرالات دوَل «المحور» بدأ في القراءة : — { ٢٥ يناير ١٩٩٦... أصبحت العلاقة بيني وبين إبني بعد محاولة الإنتحار متوتّرة جداً.. أيّ كلمة مع مراتي كانت كافية لخلق خناقة كبيرة بيننا.. خناقة لا يقدر الزمن على فضَّها.. لا أعلم سبب رفضي لجوازه من زميلته.. هل أصبحت أكرهه لهذه الدرجة؟!.. هل آصبحت أحسده على حب مراتي له إلى هذا الحدّ؟!.. لأوّل مرّة بدأت أشعر بحاجتي لتجديد دمي.. ليس لأن العلاقة الحميمية بيني وبين مراتي، أصبحت مؤخراً معقّدة وغير منتظمة.. ولكن أريد الإنتقام!.. أريد إرجاع كرامتي التي ضاعت.. لأول مرّة سأذهب راضياً لأخونها.. لأوّل مرّة ستتعدّى خيانتي لها التفكير في غيرها.. لأوّل مرّة ستتجسّد خيانتي، وتتخذ أفعالاً حقيقية ملموسة.. أفعال لها لحم رخيص ودم فاسد.. إنهارده نامت في أحضاني ع***ة أشعلت رجولتي ثانيةً.. أقلّ منها في الجمال، ولكنها زوّدتني ورَوَت عطشي بما أحتاج.. أعلم أنها كانت تتلوّى تحتي دون إحساس، وانا أمارس الج*س معها.. كانت تتظاهر بالضعف واللذّة الوهميتين، ولكن أخيراً إستعدت فحولتي.. ورغم صراخها وتأوّهاتها وتوسّلاتها المزيّفة بأن أرحمها قليلاً؛ إلا إني حَسّيت برجولتي ثانيةً.. حَسّيت ب*عور غريب وأنا مهيمن فوقها، وهي تبكي تحتي في تمثيل.. كان إحساسي وقتها أشبه بالثورة الجامحةَ.. ربما مبالغتي في إذلالها هو ما جعلها تطــــــــــ,,,}. — إيه الساديّة اللي كان فيها دي؟!!.. وليه مامتك ماطلبتش الطلاق منه؛ طالما كان معقّد أوي كده؟؟!!. قاطعته ”سلمى“ بهذا السؤال، ولم تجرؤ على الإلتفاف إلى الخلف للنظر له؛ فأغلق ”يوسف“ الأچِندة ووضعها على السرير.. سريعاً مسح عينيه بيمينه، ثم جذب جُزيئاته البُنية من أحد جيوبه.. بعدها، طوى ورقة البنكنوت، ثم ثائراً إلتقط الطبق من فوق الكومود ورَشّ مسحوقه على ظهره.. ولأول مرة، كان يُفرط في رَشّ مسحوقه البُني عليه.. ستّة خطوط جسيمة بحجم أقلام الرصاص صنعها بإهمال.. حتى أن ورقة المائة جنية الملفوفة إسطوانياً، كادت أن تُسدّ من رشح المسحوق.. رشف ”يوسف“ أغلبهم بفتحة أنفه اليمنى، حتى إختفت الإضاءة الذابلة من أمامه.. جسده يخور!.. عيناه تنطفئ!.. وسقط من على كرسيه في إغماءة، ثم : — في إييييه؟!.. مـــــــــــــــــالك فيك إيــــــــــــــــــــــــــه!!.. رُدّ عليّاااا.. في إيــــــــــــــــــــــه!!!. قُرابة الألف مرّة ردّدت ”سلمى“ ذلك، وهي تنتفض هلعاً من مضجعها بعد أن سمعت الإرتطام.. بارد كجثث الموتى، كان ”يوسف“ مُمدّداً على الأرضية الـ«باركيه»، وبياضه ينبض بالزُرقة أمامها.. تلك هي المرة الأولى؛ التي تراه فيها متجسّداً أمام عينيها بشحمه ولحمه منذ أن سُجِنَت هنا.. شكله الآن كان مختلفاً كلّياً عن صورته في السلسلة التي رأتها منذ فترة. الإسعافات الأوّلية لا تعرف عنها شيئاً.. ضغطت على ص*ره بصدمات من يدها الرقيقة.. ربّتَت على خَدِّيه كثيراً بعد أن وضعت رأسه على فخذيها، ولم تتقاعس ولم تتردّد في إعطائه قبلة الحياة.. سَدَّت أنفه بأناملها المرتعشة، ونفخت زفيرها داخل فمه.. شفتاه الكُحولّيتان إمتزجا بشفتيها.. في يأس، عادت ”سلمى“ ثانيةً لمحاولات ضخّ الدم إلى قلبه بالصدمات اليدويّة، ثم منحته قبلة حياة طويلة ثانيةً.. قبلة أمل من شفتيها، أنعشت فؤاده والدموع تتسابق في الهطول من عينيها : — فــــــــــــــــــــــــوق!!.. عشان خاطري فوووق!!. أخيراً مسحت براحتها اليمنى خَدِّه الأيسر جاعلة من يسراها مسنداً لرأسه، ثم صفعت شفتيه بقبلة وداع من شفتيها الورديتين؛ فأفاق ”يوسف“ أخيراً على إثرها.. إرتعد أولاً، ولا يدري ماذا عليه أن يفعل بعدما رأت وجهه.. أطال التأمّل في عينيها.. وعلى الضَيّ الضعيف، بادلته ”سلمي“ النظرات.. لم يرَ دموعها منذ فترة.. لم يرَ أبداً دموعاً صادقة من أحدٍ عليه!!.. شفقة؟!.. كيد عظيم؟!!.. لا أدري ولا هو أيضاً. كيدهن عظيم!!.. أتكيد له، كما أكادت «زليخة» إمرأت العزيز لسيدنا «يوسف»؟!.. أتشفق عليه؟!!.. أتخاف من أن تُحبَس وحدها، ولا تجد من يرعاها؟!!.. تحسَّسَت شفتيه بأناملها، وكادت أن تقترب من شفتيه بفمها ثانيةً، لولا إزاحته لها بيديه.. تثاقل في نهوضه وإرتفع ثانيةً على كرسيه؛ فعادت هي إلى سابق جلستها فوق حافة السرير. لم ينبسا حرفاً لدقيقة بدت دهراً.. لماذا لم تتركه وتهرب وتنفد بجلدها!.. لماذا بَكَت!!.. لماذا أسعفته أصلاً!!!.. هل كانت ترُدّ له الجميل حين أسعفها ورعاها في مرضها؟!!.. مسح ”يوسف“ فمه وأرنبة أنفه، ثم تحشرج صوته ساءلاً : — إفتكرتيني!!.. عرفتيني خلاص!!. — إنت بتتكلم عن إيه؟!.. هو إحنا إتقابلنا قبل كده!!!. — يعنى مش فاكرة!.. أنا اللي قابـــــــــــ,,,,. — مش عايزة أعرف!.. مش عايزة أفتكر حاجة!!. حدفته ”سلمى“ بها، ثم تمدّدت بجسدها على السرير متوسّدة راحتيها أسفل رأسها.. أتقصد ردّ إهانته لها حين تجاهل تعريفها لنفسها يوم زيارة المقابر!.. أم إنها المصادفة!!.. تحسّست أصابعها، فلم تجد خاتم ”ربيع“.. لعنة الله على النسيان!!.. بصوتٍ ذ*حه الشجن، بعينين مغمضتين كطفلة، وبروحٍ متخبّطة، نطقت : — ممكن تبطّل!!. تقطب جبينه بعدها، وفارت روحه كقهوة تُطهى على نيران الشمس.. ثانية تحرّك فيها ل**نه الثقيل كجبال «أطلس“، ثم نطق بالإجابة. . *** . - ٢ - ض*بت فمّ ”ريحانة“ آلام مبرحة إعتصرت روحها، وكادت أن تذيبها.. آلام مفاجئة، خرجت على إثرها من مطبخها، وإتجهت لغرفتها.. سريعاً بدّلت ملابسها وإستعدت للخروج؛ فقد نَقَح عليها ضرسها دون هوادة حتى كادت تبكي.. مُبلبلة وصلت لباب الشقة، وهي تتلوّى ألماً.. وقبل أن تلمسه دلف منه زوجها ”إبراهيم“ بعد عودته من المطار : — إيه ده!.. إنتي خارجة!!. — أه، رايحة للدكتيور.. ضرسي واجعني أووي، ومش نافع معاه مسكّنات!!. — بعد الشرّ عليكي يا روحي!.. طب إستنّي.. أنا جاي معاكي أوصلّك، بدل ما تروحي لوحدك!!. نطقها ”إبراهيم“ وتأهّب للعودة مرة أخرى للخارج؛ فإلتقطت ”ريحانة“ مفاتيحه من يده قبل أن تنطق : — لأ ميرسي.. خلّيك إنت هنا مع ”يوسف“، وأنا راجعة على طول!. ولم تمهله بعدها فرصة للرفض؛ فقد كانت تأنف منه وتتأفّف من الخروج معه.. ربما كانت تحب أن تظهر بصورة الآنسة!.. وبأنها لا زالت متاحة وغير متزوّجة.. كانت تُغذّي روحها بنظرات إعجاب الـ«رِجَّالة» لجمالها البارز. وصلت ”ريحانة“ للدُشمة الذهبية، ثم دلفت إليها.. لا زالت ساخنة ورائحة زوجها الفحل فيها؛ ففتحت زجاج الشُبَّاك قبل أن تنطلق.. الطريق كان ممهداً وشبه خالٍ نحو عيادة الدكتور ”فارس“ في مصر الجديدة.. إختارت كشفاً مستعجل، وإنتظرت على كنبة الإستقبال لدقائق، صرخت فيها داخلياً من شدة الألم.. لا أعلم إذا كان ذلك الصُراخ من ألم ضرسها!!.. أم أنه من مرارة حياتها مع زوجٍ غاشم غافل، لم تحبه يوماً!!.. ربما إخلاصه وحبّه الشديد لها، هو ما جعلها لا تطلب الطلاق. دخلت ”ريحانة“ للـ«دكتيور» - كما تعودت أن تنطقها - وسَكَّن لها الألم ببعض الأدوية.. ونصحها بدوام المتابعة معه بانتظام، وعدم التكاسل في الإستشارة بعد إسبوع.. أنيق، غزير الشعر أ**ده، وعنتري المظهر، كانت هي صفات”فارس“.. إبتسمت ”ريحانة“ بعينيها قبل أن تنصرف من عنده.. لا زالت مرغوبة!.. لا زالت جميلة كما كانت قبل الزواج!!.. لا أعتقد أنها كانت تسعى لصرف ذهن الوسيم العنتري عن دِبلة الزواج؛ التي تُكلِّل بِنصَر يسراها.. فربما تكون تلك الإبتسامة لإحترافيته في عمله.. فلقد إستطاع مداوتها في دقائق. إحتفظت ”ريحانة“ بورقة الإستشارة في حقيبتها ما إن ركبت السيارة.. الدقائق تمرّ ومظهر ووسامة الطبيب اللطيف، جعلوها شبه غافية أثناء القيادة.. التحكّم في المقود أصبح من المستحيلات مع كل ذلك الشرود.. تفادت سيارة تسير في رعونة، جعلتها تصطدم بأخرى واقفة.. فخرجت من مَركبتها بعد الحادثة، لتتفحّص هيكلها الخارجي.. إعوجاج في الصاج، وإنبعاج في العجلة الأمامية.. حاولت ”ريحانة“ إستكمال رحلة العودة؛ ولكن ذلك تطَلَّب إحترافية لم تحظَ بها أبداً.. مشوّشة كجهاز راديو قديم، عرجت إلى ورشة ميكانيكي سألت عنها شاب، أفلت بنطلونه عن مؤخرته قليلاً. ورشة مُقفرّة يجلس صاحبها أمامها على كرسي خشبي مُدخّناً للشيشة في نهم، أسفل يافطة كُتِب عليها بحروف تطاير أغلبها كالسبرتو «لتصـــ .. ح، جمــــــ .. ، .. واع، السيار ..».. وبالداخل كان يوجد مراهق نحيل، رَثّ الملابس، أشعث المنظر، ويذكّرك ما إن تراه بأغنية الـ«أراجوز» والبنت اللي إسمها «كشكليوز» من فيلم الزوجة الثانية!. — مساء الخير يا أسطى.. لو سمحت كنت عايزة حَدّ بسّ يبُصِّ لي على العربية.. أصلها بتعوِّم مني وأنا سايقة، مش عارفة في إيه!!. — طب إتفضّلي إستريّحي هنا عقبال ما أشوفهالك!.. تشربي إيه الأوّل!!. نطقها المعلّم معتصراً لَيّ الشيشة بين يديه؛ كمن يُصارع أفعى من سلالة الـ«أناكوندا».. تفَحَّص ”ريحانة“ أولاً من شعر رأسها إلى إخمص قدميها، ثم نادى على ”كُحلة“ المراهق. — هي هتاخد وقت يا أسطى!!.. أصل لو الموضوع هيطوّل أسيبهالك أحسن، وآجي آخدها بعدين!!!. — لأ خالص، مفيش وقت يا ستّ هانم.. مسافة ما تشربي الحاجة الساقعة هتكون العربية خلصت!!.. ما تقلقيش خالص!. عبارات تحدّث بها المعلّم ”ف*ج“؛ وهو يضمّ حول جسده طرفيّ چاكيت جلدي ملطخ ببقع شحمية فوق جلّابية، يصعُب التعرف علي لونها الأصلي، فبدا كمعلّمين الوكالة.. أجلس ”ريحانة“ أولاً على كرسيه، ثم نهر ”كُحلة“ ليُسرع بجلب زجاجة الـ«كولا».. بعدها، دار حول السيارة يتفحّصها بعين خبيرة مُلقِّناً تعليماته على المراهق؛ كچينرال نازي وبصوت عال لتسمعها الزبونة.. «صندوق التروس، إسطوانة الدبرياچ، سربانتينة، الطنابير». مصطلحات لا تفهمها ”ريحانة“ ولم تحاول حتى!.. جلست على الكرسي الخشب الخاص بالمعلم، والمُرصّع سطحه بخُدَديّة يُريح بها مؤخرته باهظة البدانة حين لا يكون هناك زبائن.. تمسك الزجاجة بيمينها ولم تقربها من شفتيها؛ وبالأخرى تتفحّص تليفونها الـ«سامسونج» بعقلٍ شارد متخبّط. الدكتور ”فارس“ ذو المظهر العنتري بوسامته الفادحة.. لماذا تبادر إلى ذهنها ذكرى ”يوسف“ حين خرجت من عيادته؟!.. رائحة بيرفيوم «Intenso» الخاصّة به هي نفسها؛ التي كان يتبَرفَن منها ”يوسف“ عندما كان يقا**ها.. هل يشبهه حقّاً أم أنها قد أصحبت مصابة بوسواس «يوسفي» قهري؟!.. قد يكون مجرّد هاجس عابر نتيجة هلوسة بصرية مصاحبة لآلام ضرسها؛ ولكن كيف آلت بها الأقدار إلى ذلك الزوج الغــــــــ,,, . — خلاص يا «مازمازيل».. العربية كده بَقت آخر أليسطة.. تقدري تروّحي بيها دلوقتي.. بس ما تِجريش بيها جامد، إلا لما تعمليلها ظبط زوايا وترصيص الأول. نطقها الأُسطى ”ف*ج“ محطّماً جبال من الذكريات، كانت تحاول ”ريحانة“ تلصيمها ببكرة «سوليتيبّ» تالفة. — تسلم إيدك يا أسطى!!..حسابك كام!. — لاااا، دي حاجة بسيطة.. خلّيها علينا إحنا المرة دي!. قالها علي طريقة الـ«مراكبية» في عزومتهم؛ وهو يمسح يديه في فوطة «زِفرة» زادته قذارة قبل أن يُكمل : — وإتفضّلي يا آنسة!!.. التليفون بتاعك كان واقع في أرضيّة العربية!. هناك علاقة بين جمال المرأة المتزوّجة وبين سعادتها حين تُنادى بالآنسة؛ فكلما زاد جمالها زادت سعادتها حين تسمعها.. فذلك اللفظ يشعرها دائماً بأنها ما زالت صغيرة ومرغوبة. — ده مش تليفوني!.. أنت بتقول لقيته فين؟!!. — واقع هنا تحت الدوّاسة، قولت أكيد يخُصّ حضرتك!!. إلتقطته ”ريحانة“ بأنامل مُزينة بطلاء أظافر شفّاف، ثم أدارته!.. لم يكن يحتاج إلى رمز خاص أو «باسوورد» للتشغيل.. ولم تحتاج هي للكثير من الأسئلة.. ربشت بعينيها عندما لاحظت صورة الخلفية الخاصة بالتليفون؛ وكانت صورة لـ”إبراهيم“ زوجها!.. كانت متأكّدة من أنها لم ترَ ذلك التليفون معه قبل اللحظة. دلفت إلى السيارة، وجلست خلف عجلة القيادة تاركة بابها مفتوحأ.. تتنقّل بين محتويات التليفون، لتفهم سبب إخفاء زوجها له.. نقرت «Messages» أولاً، ثم «Messenger» ثانياً؛ وأخيراً «Gallery». ولم تلحَق الفئران أن تلهو داخل عِبَّها الوثير.. سريعاً حصدت ثمار شكوكها؛ التي نَمَت كالعشب الشيطاني حتى أدمت أغصانها المُدبّبة عقلها الرشيق.. صوراً لـ”شوشو“ بقميص نوم وردي وصوراً أخرى تجمعها بـ”إبراهيم“؛ عِوضاً عن رسائل غرامية كثُرَت فيها عبارات الشوق والعشق وألفاظاً ج*سية أبيحة!!. إذا كان الخمر يُذهِب ال*قل؛ فما رأته ”ريحانة“ يتلفه ويطيح به.. أغلقت الباب وطارت بالسيارة في سرعة سباقات الـ«فورميلا» ودون الإلتفات لنداءات الأُسطى ”ف*ج“.. يديها تختلج؛ كمرضى شلل الرُعاش على «دري**يون» كان يتراقص هو الأخر.. وعقلها يتخبّط داخل جمجمتها؛ كما يتخبّط الإلكترون داخل النواة.. لقد فقدت السيطرة على قدمها اليمنى؛ فضغطت دوّاسة البنزين بعنف حتى وصلت. خرجت ”ريحانة“ من السيارة وتركتها مفتوحة صفّ ثاني ودخلت العمارة.. الـ«أسانسير» سيكون بطيئاً مقارنة بقدمين، بلغا من السرعة خِفَّة عَدَّاء برازيلي.. مدّت يدها بالمفتاح وف*جت الباب، ثم إندفعت نحو غرفة نومها كالملدوغة.. حمداً لله على أن ”يوسف“ يغُطّ في سُباته داخل غرفته ولم يرها.. أزاحت اللِحاف عن ”إبراهيم“ ووَدَّت لو بإمكانها لطشه على خدّه الكاوتشي، قبل أن تنفجر أحبالها الصوتية : — إييييييييييه ده!!.. إيــــه ده يا زبـــــــــــــــــــــــــااالة!!!. نطقتها في غِلّ حقيقي؛ وهي تحدفه بالتليفون في ص*ره.. عيناها متسعتان، كعيون البقر من شدة الذهول.. لقد تجرّأ الـ«فَحْل» على خيانتها.. لقد تجرّأ على خيانة ”ريحانة“؛ أيقونة النساء وحِلم كل الرجال!!. — إهدي بسّ، هفهّمك!!. — تفهّمني!!!.. تفهّمني إيــــــــــــــــــــــــــــه!!.. تفهّمني أدّ إيه إنت واااااطي وزبـــــــــــــــــــــالة!!!!. — يا ”ريحانة“ إفهمي بسّ، هشرحلك!!.. أنا والله ما خونتك!!.. أنا عمري ما قابلتها حتّى صدّقيني!!.. والله العظيم عُمري ما شوفتها حتى.. الموضوع مش أكتر من كلام في التليفون والله!!. بالتأكيد الثور الهائج سيكون أكثر إتّزاناً من ”ريحانة“ تلك اللحظة.. تتحرّك في الغرفة على غير هدى، تقترب منه كل مرّة وتريد أن تصفعه كثيراً؛ ولكنها إستقرت بمعجزة أمام دولابها للحظات، إنتشلت فيها حقيبة السفر الفارغة، وجُلّ ملابسها، وكامل مجوهراتها. — إنت لِسّة هتكدب تاني يا وااااااطي!!.. ده أنا شوفت بعيني صورك معاها يا (.......). أيّ «Lady» تتحوّل دائماً لـ«بيّاعة فِجل» لحظة خيانة زوجها لها، ويمكنها عن جدارة إدراج شتائم جديدة في قواميس السَبّ المصري.. تنسى تماماً تربيتها الأُرستقراطية في لحظة، وينقصها أن تصيح بصوتٍ جهوري «من ده بُكرة.. بقرشين!!» دفاعاً عن أنوثتها المهدَرة : — بتخونّي أنا!!.. بعد ده كله!!.. بتخون ”ريحانة“ يا كلب.. يا (.........). المُكاشفة هي الحلّ.. لحظة قلب الأوراق وكشفها للخِ** على طريقة الـ«بوكر» العتيقة.. إندفع ”إبراهيم“ من على سريره ليثنيها عن فِعلتها وتهدأتها؛ غير مدرك أنّ علبة «زانكس» كاملة لن تفلح معها. — إستنّي بس!!.. إسمعيني!. — مش عايزة أسمع حاجة!!.. طلّقني!.. والله لتطلقني ودلوقتي يا (........). تحرّك من جانبها وإتجه لضلفتها، ولم يتردد في الدفاع عن نفسه، كأيّ مجرم حرب.. أخرج صندوقها الراقد أسفل الدولاب، ثم ترافع عن نفسه؛ كمحامٍ مخضرم : — عايزة تطلّقي!!.. طب قبل ما أطلّقك بقى.. خدي ده كمان معاكي لحسن تنسيه.. وخدي كمان ”يوسف“ اللي بيفكّرك بحبيب القلب.. إبنك اللي أصرّيتي تسمّيه ”يوسف“ على إسمه، عشان يفضل دايماً في بالك.. عارفة كام مرة غلطتي في إسمي وناديتيني بإسمه!!. لم تتخيل ”ريحانة“ علمه بوجود شكمجيّة الذكريات خاصّتها.. ل**نها تهادى وتباطأ في التحرّك بعد أن إنتُزِعَت عنه الكهرباء المُقتبسة من عقلها.. لقد أزَفَت ساعة القفز من على متن المركب المثقوبة. — بسّ!!.. بسّ أنا ماخونتكش!!.. إحنا حتى ما إتقابلناش من ساعة ما عرفتك!!. — ولما تفضلي محتفظة بجواباته لحدّ دلوقتي!.. ولما تفكّري فيه وإنتي في حضني!.. ده تسمّيه إيــــــــــــــــــــــــــــه!!!!.. مش خيـــــــــــــــــــااااااااانة برضو!!. لقد تأكدت ”ريحانة“ بعدها من عدم صلاحية المركب للملاحة داخل تِرعة بعمق نصف متر.. لقد قيل ما يستحيل نسيانه.. لقد إستشرى العطب.. وحتى التظاهر بالنسيان لن يفلح ولن يُجدي فتيلاً؛ فأحكمت شنطتها وخرجت دون ردّ.. أيّ محاولة للإسترسال في الدفاع، ستكون بلا جدوى وبلا قيمة.. لقد إنتهى الأمر بينهما إلى الأبد!.. حملت الحقيبة وغادرت الشقة، تاركة ”يوسف“ معه وإقتادت سيّارته قاصدة بيت أبيها.. باكية، حزينة، مقهورة، كانت هي حالتها وقتها.. لأول مرة تكره ”يوسف“ من قلبها.. لأول مرّة تكره حُب عمرها، الذي دَمَّر حياتها. الضيق يعتصرها، يكويها، يحرقها حيّة؛ فإعتصرت هي الأخرى دوَّاسة البنزين في غِلّ أعمى.. فقدت الرؤية من كثرة البكاء أولاً، ثم فقدت السيطرة والتحكّم في عجلة القيادة على سرعة تجاوزت ١٢٠ كيلومتر فى الساعة. يُقال أن «نابليون بونابرت» قد نطق لحظة إحتضاره : {ها أنذا أموت قبل وقتي، وأعود إلى باطن الأرض، وأنا الإمبراطور الأعظم.. شَتَّان ما بين الهاوية، التي أقع فيها وبين جنّة الخُلد}. أعتقد أن ”ريحانة“ من برجها العاجي، قد همهمت بعبارات مشابهة من شفتيها الورديتين لحظة الإصطدام بسيارة نقل، تحمل طوباً.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD