الفصل السابع

1864 Words
فتاة ستوكهولم . - ١ - — فات سِتّة أيّام لِحَدّ دلوقتي، ولِسّة برضو مفيش لا حِسّ ولا خبر عن البِتّ!!.. أنا خلاص مابقيتش قادرة أستحمل أكتر من كده!!!. تفوَّهت ”تحية“ بعباراتها لإبنها ”كريم“؛ فمال بنصفه العلوي إلى الأمام بعد أن جلس وإستند بمرفقيه على فخذيه، تاركاً كفّيه يُبَرِّدان وجهه المشتعل ناراً من التفكير.. عشقه لل**ت لم يمنعه من الجود قليلاً على أذنيّ أُمّ، تحترق هلعاً على مصيبتها في إبنتها؛ فطأطأ رأسه أرضاً وحزم قراره ناطقاً كمعدوم الحيلة : — طيب أعمل إيه تاني!!.. أنا كنت لِسّة عنده الصبح في القسم، وفضلت مستنّيه أكتر من ساعتين وفي الآخر ماجاش.. ولمّا إتصلت به قاللي إنه مش ساكت، وإن التحرّيات شغّالة، وبيقول كمان إنه إحتمال يعدّي علينا بالليل!. على إيقاع كلماته، تربَّعت ”تحية“على كنبتها بعد أن رَفَعَت قدميها ونوَّحَت؛ ولم أجد سبباً بين الحزن والنواح أبداً، ولكن هكذا فعلت : — دي تلاقيها هي!!. نطقتها مندفعة نحو باب شقة، دَقَّت عليه يدٌ يطوّق أحد أصابعها خاتم فضّة ذو فَصّ سماوي : — طمّني يابني والنبي!.. لقيتوها!!. توسّلت بها إلى ”عزمي“ بيه؛ الذي قادته قدماه إلى الداخل، آذناً لمعاون **ا الشعر أغلب سُمرته بالدخول.. عَقَد حاجبيه قوسين محدّبين فتحتيهما إلى أسفل «٨٨»، ونطق طالباً الإذن بالجلوس أولاً، ثم : — إنتوا ماعندكوش بُنّ يا حاجّة ولا إيه!!. هكذا إنفرد ثلاثتهم ببعض بعد مغادرة ”تحية“.. دَهَس ”ال*قرب“ بين فكّيه قُرص نعناع، سحبه بطيئاً من جيب مِعطف أ**د يُدفّيء به قميصه الأبيض، ثم أشعل سيجارة نَفَّث بها إلى أعلى مستفسراً : — تخيّل معايا كده يا عَمّ ”كريم“.. إيه اللي ممكن يخلّي أختك، تطفش وتسيب البيت؟!!. إرتعد ”كريم“ في كرسيه وتلعثم أولاً، ثم بأحبال صوتية لا تكاد تسمع تردّداتها، نطق مندهشاً بِريقٍ لا يعرف الطريق الأمثل للبلعوم : — تطفش!!!.. هتطفش ليه حضرتك؛ دي حتى لِسّة مقري فاتحتها!!. — ما يمكن يكون هو ده السبب!!.. مش يمكن تكونوا أجبرتوها عليه مثلاً؛ فهربت وسابت لكم البيت!!. هكذا تحدّث المعاون إيماناً منه بنظرية «المؤامرة».. سحب دفتراً وقلماً من الجيب الداخلي لچاكيته البنّي، وسجَّل عنوان وبيانات ”ربيع“ كما صرَّح بها زميلٌ له يتصبب عَرقاً على الرغم من برودة الطقس : — تمام.. طيب تفتكر كده يابو ”كريم“، هي ممكن تكون راحت فين غير الجامعة!!.. يعني إيه هي الأماكن اللي أختك متعوّدة إنها تروحها؟!!!. — والله يابني عمرها ما بتروح حِتّة غير لما تعرَّفنا.. ومش بتنزل من البيت أصلاً غير عشان تروح الجامعة، يا تزور أبوها في التُرب كل كام إسبوع!!.. غير كده لا بتخرج ولا بتتنيّل في حِتَة غير لما يكون معاها أخوها!!. إرتشحت حنجرة ”تحية“ بتلك العبارات، وهي تحمل صينية بلاستيك تحوي زِفتاً بُنياً؛ أشُكّ في أن يكون قهوة.. وضعتها على الترابيزة أمامهم، ولم تهنأ أردافها المترهّلة بالجلوس : — الله يرحمه!.. إسمها إيه التُرَب بتاعتكم يا أُمّ ”كريم“؟!!. — مدافن «الإشارة»، في الشرقية!!.. لو مش عارفينها يابني، أنا ممكن آجي معاكوا أورّيهالكوا!!. صرّحت بها ”تحية“ في أسى؛ فتحرّكت الچواكيت الجلدية نحو باب الشقة، بعد أن حصل أصحابها على عنوان المدافن.. ولم ينسَ صاحب الخاتم السماوي إظهار الشُكر لأُمّ، دفنها الحزن حية : — شكراً عالقهوة يا حَجّة.. نبقى نشربها المرّة الجايّة بقى من إيد ”سلمى“ إن شاء الله!.. إطمّني، وما تشيليش أيّ هَمّ!!. . لا أعلم من أين له بهذه الثقة؟!.. ولكن، لربما كان عمله يُحتّم عليه إظهارها دائماً!!. . *** . - ٢ - قيل قديماً أن البعيد عن العين بعيدٌ عن القلب!!.. ولكن، أبضرورة أن يكون القريب من العين قريبٌ للقلب؟!!!. السبت. ٤ ديسمبر ٢٠١٠ الليلة الحادية عشر. جاعلة من يمينها وسادة لرأسها، إضطجعت ”سلمى“ نائمةً على جنبها الأيمن في القفص، ثم أغمضت عينيها أولاً وتحدّثت بما فتح عليها عقلها ثانياً : — طيب إيه اللي منعك إنك تتجوّزها؛ طالما كنتم بتحبّوا بعض أووي كده!!. سَعَل ”يوسف“ بضحكة ثلاثية الأبعاد، حتى ظهرت أسنانه الرمادية.. وعبثاً أخرج «مِشت Black» من جيب چاكيت كحلي يواري ص*ره، وأقبل : — أبويا بقى منّه لله، رفض ساعتها إنه يجوّزهالي.. أنا عارف إنه ماكانش بيطيقني!!.. ولمّا حاولت أعرف إيه سِرّ الكُره ده كلّه؛ مااات!!!.. تحسّيه كده إنه مات بالعِند فيّا!!. إعتدلت ”سلمى“ على مؤخرتها، وضمَّت ركبتيها نحو ن*دين ضحيّا ذابلين مؤخراً.. وكعادتها حين تنفعل في الحديث، مسحت بيسراها على شعرها البنّي، ثم توغّلت فيه بأناملها : — الله يرحمه!!.. أنا تعبت أووي!.. ممكن تفكّ الحديدة دي بقى!!.. رجلي قرّبت تتقطع!.. وبعدين!.. وبعدين ملهاش لازمة الصراحة، ما أنا كده كده محبوسة في القفص، يعني هروح فين!!!. إلتقط ”يوسف“ المفتاح من جيبه، بتردّد ناهز الخمس ثواني ونهض.. وفي شقاء فتح القفص وأمسك بقدمها؛ فلَمَعَت عيناه لا إرادياً.. هل ذكرى ”ريحانة“ حين سقطت لحظة هبوطها من على ظهر الناقة يوم زيارة الأهرامات، وكاد كعبها أن ين**ر هو سبب تلك اللمعة؟!!.. أم أن ضوء الشمعة، تفاعل فيزيائياً مع نعومة جلد ”سلمى“ الأبيض!!.. لا أعلم حقيقةً ولكن، لربما كانت اللمعة مجرّد ضريبة فرضها «مِشت» الكحول على عينيه : — سألته مئة مرّة عن السبب اللي كان مخلّيه رافض الجوازة؛ بسّ عمره ما رضي يقول لي!!.. إنتي عارفة!!.. أنا ساعات بتخيّل نفسي بعد ما أموت إني لِسّة برضو بسأله!!!. نبرة صوته من قريب وهو يخلع عنها قفلها، زائد رائحة الكحول الصاعدة من فتحات وجهه؛ كانتا كافيتين لإدارة صندوق التروس الموجود داخل محرّك جمجمتها؛ فعافرت وهي تفحص شريط ذكرياتها بجوانبه الـ«معضعضة».. جوانب تآكلت بسبب اللُهاث خلف لعبٍ ولهوٍ ومتاعٍ إلى حين.. ولكن أين الذكرى؛ لعلَّ الذكرى تنفع الآن المؤمنين!!. على قدر الحَيّز المُتاح لها بين الضلوع الحديدية، طقطقت بقدمها؛ التي كانت مغلولة منذ قليل محدثة طرقعة خفيفة.. بعدها، نامت على ظهرها متوسّدة راحة يدها اليمنى خلف رأسها : — طب ما تدوّر إنت بنفسك عن السبب!!.. جرّب تفتّش في حاجته، تسأل صحابه، دوّر!!.. أكيد هتلاقي!!. — صحاب!.. صحاب إيه يا بنتي!!.. هو اللي زيّ ده يبقى له صحاب!!!. يا بنتي ده كان بخيييييل.. بخيل حتى في مشاعره!!!!. — أنت عارف!!.. أنا لما إتقدّم لي ”ربيع“.. رُحت أزور بابا في قبره، عشان آخد رأيه!!.. أصلهم بيقولوا إن الأموات بيحسّوا بينا حتى بعد ما يموتوا.. الله يرحمه!. هل الغيرة من حنان والدها، هي ما جعلته يتأهّب للنهوض!!.. أم أنه قد ضاق ذرعاً من محاولات ل*ق «سيمبل» له!!.. طرحه أرضاً بصفعة قوية على وجهه، ثم إنتصب واقفاً : — الشمعة خلصت!!.. وشكلك عايزة تنامي.. هسيبك دلوقتي، ونبقى نكمّل كلامنا بكرة!!!. إنزعجت ”سلمى“ قليلاً ثم إعتدلت على م***ة، قَسَت كثيراً مؤخراً من عدم النوم على مرتبتها القطنية : — طب ممكن تولّع لي شمعة كمان قبل ما تمشي!!.. أصلي خايفة أووي أنام لوحدي في الضلمة إنّهارده!!.. ممكن؟!!. كانوا ثلاث خطوات تقريباً.. عاد إلى القنديل، أشعل واحدة شقراء، ثم غادر المكان.. مُحطَّماً عزم على النوم؛ فصعد إلى الطابق العلوي قاصداً غرفته.. لم يعلم ”يوسف“ وقتها لماذا ترقرت له غرفة مكتب أبيه!!.. وعلى الرغم من أنه لم يقربها طيلة حياته؛ إلا أن الكراهية المفرطة جعلته يقرّر تدنيسها الآن.. كان م***عاً عليه دخولها قديماً والآن سيدنِّسها؛ قُدس الأقداس!!.. حرّم الله على «آدم» وزوچه الأكل ممّا تنبت به الشجرة؛ ولكن الأمر قد جاء بألا يقربوها!!. إعتلى ”يوسف“ كرسي لمكتب خشبي، إفترش سطحه توّاً بسكّره البني.. ورقة المائة جنية لا زالت مطوية داخل طيات جيبه.. دسّها سريعاً في الفتحة اليمنى لأنفه، وقضم بها جرامين.. العامل الحفّاز هو ما كان ينقصه.. حثيثاً أخرج الـ«مِشت» وتجرَّع ثمالته، إلى أن خامر عقله ال*****ن المحترق كحولياً.. قد يكون إقتراح ”سلمى“ هو السبب، وربما يستطيع الميّت حقّاً التخاطر مع الأحياء!!.. ولكن لا أعتقد أن الهلوسة هي السبب وراء سحبه للدرج الأكبر من المكتب؛ ليتقيأ محتوى معدة لم يكن الطعام أهلاً لها منذ ثلاثة أيام.. فوقعت عيناه تلقائياً على مفكّرة والده، التي طالما إحتفظ بها هنا.. ولكن غريبة هي تلك الأچندة السوداء!!!. . *** . - ٣ - كتيبة من أقراص النعناع، هُزِمَت أسراً بين فكّيّ الـ”عقرب“.. الضوء الرتيب المنبعث من الأباچورة الماثلة أعلى سطح مكتبه، زاد محادثته لزوجته ”بسمة“ كآبة.. غيظاً شَوَّح بيسراه في الهواء بعد أن إعتمر كرسيه، ثم كَمَد سيجارته في عصبية وسط تلال من أعقاب سجائر، إحتلّت المدفن الزجاجي أمامه.. ربّت بعدها على شعيرات شاربه بأنامل مصفرّة، وأكمل : — خرّجي العيال برّة الموضوع!.. أنا برضو أبوهم يا ”بسمة“ ومن حقّي أشوفهم!!. أشعل الوحيدة المتبقية، وزفر سحابة سوداء؛ لتتغذّي عليها رئتان تشتعلان ناراً بثاني أ**يد الهِباب.. ثم أثلج ص*ره بالنعناع المدخن، وصرخ : —لأ طبعاً مش هاجي أشوفهم عند أبوكي!.. أُمّال أنا سايب لك الشقّة ليه!!.. لأ لسة ماخلّصتش كلامي!.. ألوو.. ألوووووو!!. كقذيفة «ألفا» طارت الطفّاية بمحتوايتها من على سطح المكتب؛ فرقدت جثث القطران على الأرضية الباركيه بعد أن بُعثِرت أشلاءها أمام باب الغرفة.. لحظات وإنتشر رنين تليفون المكتب في أرجاء الحجرة.. في حنق، رفع السمّاعة بكفِّه البارد وهوى بها ثانيةً مُحبِطاً محاولة المتصل به.. قهوة سادة، بُنّ ثقيل، محوّج؛ هي المطلوب.. عزاءً على زواج فاشل، دخلت الأميرة السوداء مع الساعي؛ وظهر معها معاون حمل كثيراً من صفاتها : — صباح الفُلّ سعادتك!.. هو معاليك بايت هنا من إمبارح ولا إيه؟!!. — سيبك منّي دلوقتي يا ”شريف“، وخلّينا في شغلنا!!.. وصلت لإيه في قضية البتّ المخطوفة دي؟!!. نضجت نظرية «المؤامرة» في ثنايا عقله، وحان وقت قِطافُها.. وضع ”شريف“ الدوسيه الأزرق أمام رئيسه، ثم زأرت حنجرته : — تمام سعادتك!!.. الملفّ ده فيه كل التحرّيات اللي معاليك كلّف*ني بيها!!.. خطيبها طِلِع مالهوش في أيّ حاجة سعادتك.. ملموم بسّ على شويّة عيال عاملين فيها ثورجية وفرحانين بشويّة شعارات!!.. لكن مالهوش يدّ خالص ورا إختفاء البتّ سعادتك!.. بس!!!. أخرج ”شريف“ عِلبته الحامية من جيب بالطو، يستمد سواده من عقلية زحف العَفَن عليها.. ثم عَمَّر فمه بسيجارة وأهدى أختها لرئيس، تزوغ عيناه بلا هوادة وسط صفحات الدوسيه : — بسّ إيه؟!.. إتكلّم، عايز تقول إيه؟!!. — الواد أخوها اللي إسمه ”كريم“ ده سعادتك!!.. مش على بعضه كده!.. ومش عارف ليه مش مستريّحله!!.. حاسس إن وراه حاجة مخبّيها، ومش عايز يقولها!.. ولو مالهوش يدّ في إختفاءها؛ يبقى على الأقل عارف حاجة ومش راضي يقولها سعادتك!!. فاحت الأباچورة بضوءٍ باهت، فَشَل في تسلّق وجه المعاون.. إنارة عقله، كانت هي العلاج الأمثل!.. سريعاً سَلَّط ”عزمي“ رأسها على وجه المعاون، وض*به على عينيه بكشّافها : — يا رب إرحمني!.. إنت ماتعلّمتش حاجة خالص يابني من شغلك هنا في المباحث؟!!.. إيه مش مستريّحله دي!!.. مفيش في المباحث حاجة إسمها مش مستريّحله.. وبعدين مش كل شوية؛ سعادتك، سعادتك، سعادتك!!!!!. رذاذ فمه تطاير في جميع أنحاء المعمورة، وكاد أن يساهم بفيضانٍ صغير لولا العناية الإلهيّة.. مُنهياً وصلة الزعيق، أعاد الأباچورة إلى ما كانت عليه، ثم غاص بعينيه في الدوسيه مرّة أخرى.. وعلى الطريقة الصوفية، أكمل فقرة الإنشاد : — المهم!!.. عملت إيه في التُرَب؟!.. على الله تكون شاكك في المُقرئين اللي هناك همّا كمان!!. متباهياً مال ”شريف“ إلى الأمام قليلاً، وأشار لأحدى صفحات الدوسيه، ثم نطق في زهو : — وهي دي تفوتني برضو يافندم!!.. كلّهم شافوها ماشية عادي آخر مرة زارت فيها قبر أبوها!. — تبقى ماروحتش أصلاً!!.. إتفضّل يا بيه، روح دلوقتي إعمل تحرّياتك بنفسك!!.. إمشي ورا عينك إنت، وسيبك بقى شويّة من قعدة المكاتب دي!!.. إحنا مش موظّفين في بنك!!!. هكذا تساقط الثلج البارد من بين شفتيه.. وبعدها، صعدت أنامل يده اليمنى لتحنو على شاربه الوسيم، ثم أنهى العاصفة أخيراً في حَزم : — شغَّل دماغك شويّة يا ”شريف“، مش هينفع كده!!.. وما تنساش وأنت ماشي تبقى تبعت حَدّ، ينضّف الأرض دي. رحل بعدها المعاون بعد أن لَملَم ما تبقّى له من ذرّات كرامة، بُعثرت أرضاً جانب حُطام الطفَّاية.. هل ”بسمة“ هي السبب وراء هياجه!.. أم أنه يعاني «overdose» من النعناع المدخّن!!.. حقاً، لا أتخيّل معاشرته من قِبَل إمرأة صراحةً؛ فلِمَن إذن خُلقَت العنقاء وميدوسا!!!.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD