الفصل السادس

1705 Words
فتاة ستوكهولم . - ١ - ٢٤ نوڤمبر ٢٠١٠. الليلة الأولى. الحادية عشر مساءً. حرَّكَت ”سلمى“ أصابع يدها اليسرى، لتلامس شفتين شارفتا على التشقّق من العطش.. مُمَدّدة على قارعة القفص؛ كمصابي حوادث السير السريع.. أفَقَدَت بصرها أم أنها الإضاءة؟!!.. ذلك كان تساؤلها الأوّل، حين فتحت عينيها ولم تجد سوى ظلامٍ كثيفٍ.. تحمّلت على نفسها لتعتدل في جلستها؛ ولكن لم تستجب لها قدمها اليمنى.. حاولت ثانيةً حتى راحت تكتشف بيدها السبب الحائل.. إسورة حديديّة طوَّقت أعلى كعبها؛ هي ما أفقدتها السيطرة على حِبالها الصوتية تماماً.. خرجت الصرخة متبوعة بنبحة لـ«سيمبل»، جعلت الأحبال تزداد سعيراً؛ فنزفت بعدها بكاءً قبل أن تستطيل أذنيها، عندما سمعت صوت تثاؤب : — أنت مين، وعايز منّي إيه؟؟!!. ردَّدتها عديداً، ولم تلق جواباً شافياً؛ سوى إحتكاك عود كبريت أضرم ناراً في فتيل شمعة، مثبَّتة على حامل في الزاوية المقابلة لقفصها.. فتراقصت الخيالات في ذهنها؛ كما تراقص الضوء على الأرضية المبطّنة بقطع الكاوتش.. خوفاً إنكمشت ”سلمى“ وإنزوت على نفسها كجنين، في الزاوية المتاحة لها داخل القفص، بعد إحاطتها لركبتيها بساعدين يرتجفا كمرضى الرُعاش، ثم ذابت داخل ملابسها بعد أن فُتِحَ القفص عليها.. وأسفاً وجود الشمعة في الناحية المعا**ة، جعل رؤية الوجه بمثابة مستحيلٍ رابعٍ : — يا رب!.. يا رب!!.. يا رب!!!. ردَّدتها قُرابة الألف مرّة مستنجدة بخالقها من هول فزعٍ عظيم.. صينية تحوي لحماً قدَّده الملح، وقليلاً من الخبز وربما عِلبة «كولا» دخلت عليها؛ فإستكانت برجفتها أمامها ولم تلمسها : — ليكي شمعة واحدة في اليوم.. ولو بتخافي من الضلمة، يبقى أحسنلك تنامي بسرعة بعد ما تخلّصي أكلك، وقبل ما الشمعة تخلص!!. منصرفاً نطقها ”يوسف“، ثم غادر مع النابح الذهبي تاركاً أليفته تنصهر نحيباً داخل قفصها.. الإضطراب والتشوّش كانا هما الحالة العامة لـ”سلمى“ عَقْب كلماته القصيرة، وكشلّالات «نياجرا» إندفعت التساؤلات على عقلها، ولم تجد السلوان في أيّة إجابة محتملة حاولت أن تعتمر مخّها للحظة. أمغتصِباً هو؟!.. إذا كان كذلك؛ فلماذا إذن لم يحاول معها أثناء نومها أو حالاً!!!. ألصّاً قد يكون؟؟!!.. حتماً لا؛ وإلا ما كانت هديّة ”ربيع“ تزيّن يدها حتى اللحظة!!. أتراه كان مخبولاً؟؟؟!!.. يستحيل أن ترضى بها إجابة، وقد لامست منه رشداً!!. تدفُّق التساؤلات داخل عقل ”سلمى“ إزداد سرعة، منعتها من إمساك إجابة أحدهم شذراً، ولكن.. ماذا تريد الآن!!.. ربما صلاة بغير خشوع كما إعتادت، ستكون هي الحليف المتين.. ولكن أين القِبلة؟!.. وكيف التيمّم؟؟!!.. داخ الضوء المنحَدِر من الشمعة معلناً إحتضاره.. أرادت إسكات معدتها قليلاً؛ ولكن شهيّتها معدومة رغم تهافتها.. وبعد لحظتين أو ربما ثلاث، تشَنَّج الفتيل فتشَنَّجَت هي الأخرى، وهي تعافر لخلع الطوق المكبِّل لمع** قدمها : — أنا خايفة، خايفة أووي!!. فحيحاً خرجت من بين شفتيها بعد أن لفظت الشمعة أنفاسها الأخيرة.. بعدها، تكوّرت بجسدها حتى كادت تَفنى داخل زاويتها، لتحتمي ممّا لا تراه عيناها. . *** . - ٢ - . قبل منتصف الليل، بنصف ساعة. . ذرعت ”تحية“ الشقة جيئةً وذهاباً حتى تورّما نعليها.. لا تدري حال إبنتها الآن، وبأيّ أرضِ تكون.. إندفعت نحو باب شقة، وُلِجَ لتوّه بمفتاح صدأ بواسطة ”كريم“ ظنّاً منها أنها إبنتها.. لهفتها جعلت الكلمات تخرج من حنجرتها، أشبه باللغة التنزانية؛ فسألته على الرغم من رؤية الإجابة محفورة على قسمات وجهه : — عملت إيه؟!. — سألت عليها في كل المستشفيات وأقسام البوليس، وبرضو مفيش أيّ نتيجة!. — أكيد البِتّ حصلّها حاجة.. أنا مليش دعوة!.. أنا عايزة بنتي!!. تحدّثت ”تحية“ بتلك الكلمات؛ وهى تقفز داخل شِوال أ**د، ولم تنسَ تغليف رأسها بوشاح بُنّي، أخذ شكل نصف ملاءة.. وكالملدوغة فارقت الشقة ويتبعها إبنها، مُردّداً كلماته الكريمة لتهدأتها.. «التوك توك» كان وسيلتهما لبلوغ قسم الشرطة.. مبنى حجري، مُظلَّل باللون الطوبي، فاغر البوّابة وكئيباً كعادته.. دخلت ”تحية“ وأسندت قِنطاريها العلويين على صَفوان، يجلس خلفه أمين شرطة إتّشح سواداً؛ فرَشَف الأمين شايه أولاً، ثم هدّأها قبل أن يسألها : — خير يا حَجَّة، إيه الموضوع؟!.. حدّ سرق منّك حاجة؟!!. — بنتي يابني.. بنتي إتسرقت منّي!.. خرجتْ من الصبح، ولحدّ دلوقتى لِسّة ما رجعتش!.. أنا عايزة بنتي، إعملوا معروف وهاتولي بنتي!!. تلك هي ترجمة اللغة التنزانية؛ التي تفوّهت بها ”تحية“ وهي تنتحب، ماسحة دموعها في وشاحها المهترئ.. كلمات خرجت من ديناصور لم يسعفه الحظ بالانقراض، ويُخفي خلفه إبنه الثلاثيني.. عاجلها الأمين بإستحالة عمل محضر إلا بعد فوات أربعٍ وعشرين ساعة.. هل الأرض مادت بها؟!.. أم أنه نقص الأُ**جين؟!!.. ربما تكون الغفلة المتسببة في نسيان ميعاد إبرة الأنسولين هي السبب . تدريجياً تهاوت جفونها مُعلنة بِدء الأزمة؛ ولكن دخول المُقدّم ”عزمي عقرب“ لحظتها، كان له مفعول الأقطاب الكهربائية بالنسبة لروحها.. رُدَّت الحياة إليها وطارت نحوه، وفي خلفيّتها ”كريم“ مدارياً سيجارته : — وحياة ولادك يا بيه عايزة بنتي!.. شالله يخلّيك تدوّرلى عليها وتجيبهالي!!. — إهدي بسّ يا حَجَّة، وكل حاجة هتتحلّ!. صَهَل ”عزمي“ بكلماته بصوته الخشن، وهو يسير بصحبتهما إلى غرفة مكتبه.. مكتب من الأرو، يجلس أمامه كرسيّان يبتعدا مسافة مترين عن ستار خشبي، لتبديل الملابس خلفه.. وفي المقابل، كانت هناك كنبة جلدية سوداء تكفي لشخصين، أمامها طقطوقة زجاجية وعلى يسارها مكتبة صغيرة تحوي ملفّاتًا وكتباً للقانون، ويحِدُّها يميناً أصّيص ورد وَدَّع الحياة منذ أشهر.. ذلك كان «د*كور» الغرفة التى إجتمع فيها ثلاثتهم. سخَّنت ”تحية“ أحد الكراسي المقابلة للمكتب بجسمها الذي يفور خوفاً؛ فساءلها المقدّم قاطعاً عليها نشيجها : — معاكي صورة ليها يا حَجَّة؟!. سؤال خرج من فَمّ علاه شارب مُدلل؛ فوجد الإجابة تسير هائمة من بين شفتي ”كريم“ : — أنا معايا صورة ليها يافندم على الموبايل، وممكن أبعتها لحضرتك «Bluetooth»!. نُسخت الصورة على تليفون الـ”عقرب“؛ فأكملت ”تحية“ حديثها التنزاني بنبرة متحشرجة لا تلتئم : — هي قالتلي إنها رايحة تصوّر ورق من واحدة صاحبتها عشان الإمتحانات قرّبت.. الكلام ده كانت الساعة عشرة الصبح تقريباً.. وكانت متّفقة معايا إنها هترجع الساعة إتناشر أو واحدة الضهر بالكتير؛ ولحَدّ دلوقتى لسّة ما رجعتش!. — سألتوا عليها عند صاحبتها دي؟!. — سألنا!.. وقالت إنها ما شافتهاش أصلاً إنهارده!.. وسألنا عليها كمان عند كل اللى ممكن تروحلهم، وبرضو مفيش حَدّ عارف عنها أيّ حاجة!!. إستند ”عزمي“ بظهره متأمّلاً صورتها مَليّاً على شاشة تليفونه الـ«نوكيا»؛ وهو يحاول التعرّف على شخصيتها من الصورة، ثم أتبع مستفهماً : — طب في عداوة بينكوا وبين أيّ حَدّ؟!.. يعني بتتّهموا حَدّ معيّن في إختفاءها؟!. سَرَت القشعريرة في جسد ”تحية“؛ كمن تحتفظ بأردَبّ ليمون داخل حلقها، ثم جاوبته بعد أن إعتلت سطح مكتبه بفخذها العلوي : — خالص والله يا بيه!.. إحنا طول عمرنا ناس فى حالنا، وعُمْر ما حَدّ سِمع لنا صوت!.. دي حتى أوّل مرّة ندخل فيها أقسام!!. — طيب إطمّني خالص يا سِتّ الكل، خير إن شاء الله.. لو بكرة الصبح بنتك ما رجعتش البيت؛ وعد منّي إني أجيبهالك لحَدّ عندك.. روّحي أنتي دلوقتي، وبلّغوني بأيّ جديد.. وإن شاء الله ترجعوا البيت تلاقوها مستنياكوا هناك. نطقها الـ”عقرب“ بعد أن شَبَّك أصابع يديه فى بعضهما على سطح مكتبه، وقبل أن يبادرهما بـ«كارت» ورقي حوى أرقام تليفوناته : — مش عارف أشكر حضرتك إزّاي؟!.. متشكّرين جداً لوقت حضرتك، وأسفين على الإزعاج!. جملة أهداها ”كريم“ لأُذنيّ ”عقرب“ جاعلاً من يمناه مسنداُ لأُمِّه؛ ليساعدها فى حفلة القيام من على كرسيها. أجهشت ”تحية“ نواحاً بعد أن عادت إلى شقتها، وبعد أن تقطّعت بها الأسباب إلى إبنتها.. إعتمرت كنبة كانت كالكرسى بالنسبة لها، وبَرَمَت ملاءتها البُنيّة لتربط بها رأسها، ثم تأرجحت دهونها وَلوَلةً على ”سلمى“ : — أنا مش ناقصاكي!.. إطفي المخروب ده وخُشّي إتخمدى بدل ما آجى أطيّن عيشتك!!. هكذا صرخت ”تحية“ في طفلتها، وكادت أن تقتلع بها أذنها الوسطى.. صغيرة لم تعِش طفولتها يوماً، ولم تطلب على ذلك جزاءً ولا شُكوراً.. طفلة لا تعي ما يحدث سوى أن هناك نقصٌ في سكّان البيت.. ”هدى“ كان أسمها، وأيضاً صفتها.. سبع سنوات جعلوها ترتحل للصف الثاني الإبتدائي بمدرسة كانت سجناً بالنسبة لها، وسبع ثوانٍ آوت فيهم ركضاً داخل سريرها المشترك؛ ولم تجرؤ على إظهار خوفها من النوم وحيدة. . *** . - ٣ - الخميس. ٢٥ نوڤمبر ٢٠١٠. صبيحة الليلة الأولى. كان التماثل في الغرفة بين العشيَّة وضُحاها ككفّيّ بني «آدم»؛ فلم ينقُصها أو يزيدها ضرّاً ولا نفعاً غير ذلك السواد العميق أسفل عينيّ ”سلمى“.. سوادٌ إنتقل من أفكارٍ أشدّ سوداوية، جالت بخاطرها في ليلة لم يستطع فيها سلطان النوم بَسْط نفوذه عليها.. توتَّرت وزادت إرتجافتها عندما فتح ”يوسف“ باب الغرفة فجأة، في ظلام لم تقدِر معه على رؤية كَفّ يدها : — ما أكلتيش ليه لحَدّ دلوقتي؟!!.. خايفة ولا ق*فانة!!!. صَرَّح بها ”يوسف“ بعد أن بدَّل الصينية بزميلة لها.. مسطحاً لامعاً حوى صفيحة تونة، وثلاثة أرغفة شاميّة العجين، وبرتقالة تلهو بغير هدى؛ هكذا بدا لها المحتوى في ضوء شمعة توهّجت حداداً على بقايا قريبتها الحمراء.. تناول ”يوسف“ بعدها بإبهام وسبَّابة يده اليمنى، شريحة لحم من صينية حملها بيسراه حالاً من القفص؛ فلم يجد جواباً من ”سلمى“ سوى مزيداً من الإلتصاق في جدران زاويتها : — أنت مين؟!.. وعايز منّي إيه؟!!.. طب بتعمل معايا كده ليه؟!!!.. هو أنا ضايقتك في حاجة قبل كده؟!!!!. عَبَّرَت ”سلمى“ بتلك الأسئلة عمّا دار بخُلدها، بعدما إعتصرت رائحة التونة رئتيها، وهَدَّت أحد الأبراج المتبقّية في نافوخها.. جوابه كان قاطعاً لطريق أسئلتها؛ جَلَس على كرسيه الوثير وأخرج جراماته أولاً، وأخلفهم بكارت الـ«ڤيزا» ثانياً.. وكـ«إقليدس» شّيَّد عمودين تساويا أفقياً، وخَرَط بعدها المائة جنية إسطوانياً كعادته، ثم دَسَّ إحدى فتحتيها داخل أنفه وسحب حتى إرتعش.. فتهشَّمَت الأعمدة سريعاً بين شعيرات أنفه طالبة القَصاص من «تانك» الكحول الراقص في ثنايا جيبه : — أنتي متجوّزة؟!. — ا.........مـ.........يـ..... . — مخطوبة؟!!. — ڤو...........ســ...ر........كـ... . — طب في حَدّ في حياتك؟!!!. — ....مـ....ا......مـــا........... . همهماتٌ مقتضبة، كانت هي الإجابة على أسئلة تطايرت هدراً، كما تطايرت رائحة الكحول من بين شفتيه؛ فأسند رأسه إلى الخلف بعد رشفة إضافية، أنتجت تفاعلاً ذرّياً داخل جنبات مخه : — عايزة أشرب، ومحتاجة أدخل الحمّام ضروري.. ممكن؟!!. تحرّك ل**نه بعد أن إعتدلت رأسه إنتصاباً.. وأجابها أوّلاً بـ«زُغطّة»، ثم جاء بعدها : — هو ممكن، بسّ بشرط!.. سؤال قصاد طلب!!. لَفَظ ”يوسف“ عرضه عليها، ثم خَرَج لدقائق.. ولم يعُد إلا وحوزته «جَردَلاً» عظيماً، وزجاجة ترقرق ماؤها العذب على نباح «سيمبل».. لحظة!.. هل كانت تسيل التونة من بين شدقتيها!!..أم أن هناك قطة شيراز مسجونة معها في القفص!!!. وضع ”يوسف“ حاجاته داخل قفصها، ثم إرتكن إلى كرسيه ولم يهنأ كلبه بنواح، على ألم الركلة التي ض*بت رقبته : — مقري فاتحتي، بسّ لسة ماتخطبتش!!. نطقت بها في عصبية بعد أن جَرَعَت الفيضان المنهمر من فتحة الزجاجة، وأكملت : — إسمه ”ربيع“!.. ”ربـيـــــــع العـربـــــي“!!!. هكذا أجابت ”سلمى“ على سؤاله المتعلّق بالإسم؛ فبلَّل سبَّابته بل**ب، جاد به ل**نه اللزج ثم نهض.. شارداً أطفأ لهيب شمعة شارفت أن تقضي نحبها، وفارق المكان أخيراً مصطحباً كلبه معه.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD