الفصل الثامن

1751 Words
فتاة ستوكهولم . - ٤ - الأحد. ١٢ ديسمبر ٢٠١٠. الليلة التاسعة عشر. { ١٤ أكتوبر ١٩٨١.. اليوم رجعت من المطار بدري ساعتين على غير عادتي.. النهارده عيد جوازنا وقررت إحتفل به، دي كانت المرّة الأولى؛ التي أجد فيها زوجة تنسى عيد جوازها.. حملتُ خاتم دهب أبيض وطلعت السلّم.. إشتريته بعدما رأيتها بتبحلق فيه في ڤاترينة محلّ الدهب.. إتمنيت ساعتها لو كنت أقدر أشتري هدية ليها أغلى من كده.. أردت وضعه في الشكماجية بتاعتها؛ التي أعلم إنها بتداريها في الدولاب من تحت.. كان الوقت الأنسب لوضعه بها من غير ما تشوفني هو وقت وجودها في الحمام.. صوت المياه الخارج من الحنفيّة، جعلني أتأكد إنها مشغولة الآن بغسل جسمها.. فتحت بسرعة صندوق المجوهرات لأضعه؛ فلفتت نظري ورقة صفراء قديمة.. كنت أعتقد إنها فاتورة.. فتحتها ولا أدري لماذا عملت كده!!.. الورقة كانت عبارة عن جواب عاطفي رومانسي من زميل لها أيّام الجامعة.. كان عليها توقيعه.. لماذا تحتفظ بيها لِحَدّ دلوقتي!!.. أتفهَّم أن لها ماضي.. ولكن!.. ولكن لماذا لم تحرقه أو ترميه!!.. بِتّ أفهم الأن إصرارها علي تسمية إبننا بذلك الإسم.. بدأت أكره نفسي من ساعتها.. لماذا لم يتأثر حبي ليها!!!.. لماذا لم أكرهها!!.. ما زلت أشتاق لصوتها، حتى وهي جالسة أمامي بتتكلّم معايا.. أعشقه وأعشقها}. أنهى ”يوسف“ قراءة عِدّة صفحات من المذكّرة السوداء، ثم أعاد القنديل إلى مكانه بعد قيامه من جلسته أرضاً.. وتلقائياً بدَّل شمعة نصفها ما زال ينبض بالنيران بواحدة جديدة.. بعدها، مدّد ظهره على الأرض أمام زنزانة ”سلمى“، ثم توسّد كلتا يديه خلف رأسه.. عيناه تسبح شروداً في سماء القبو محاولة توصيل عباراته لأذنيّ ”سلمى“ : — إيه رأيك؟!.. ”سلمى“!!.. أنتي نمتي ولّا إيه!!. — لأ أبداً، معاك.. بسّ بحاول أتخيّل وأفهم!.. هو شكّ إنها بتخونه؛ أنت بقى ذنبك إيه!!!.. وبعدين ده مجرد شَكّ مش أكتر.. يعني!.. يعني اللي أنا عايزة أوصلهولك.. إن إحنا مثلاً كبنـــ,,, . أسفاً لم تكمل كلماتها.. حجراً على رأيها، لم يعطها ”يوسف“ الفرصة لذلك.. إذا نظرت لهم من سقف الغرفة، ستجدهم أشبه بحَرفيّ «T» مرسومان أفقياً على أرضية المكان.. كلٌ منهما نائم على ظهره وراحتيه خلف رأسه، وناظران إليك في الأعلى.. وبعد ثانية أو ربما إثنتين، مالت رأسه إليها ناحية اليسار قليلاً، وكانت زاوية الإضاءة تمنعها من إستبيان ملامحه : — طب كمّلي أكلك بسّ الأول!.. مش دي البطاطس اللي طلبتيها!!. سحبت ”سلمى“ أحد الجنود الصفراء الموجودة بطبقها وأكلت.. لم يكن معتاداً على دخول المطبخ وتحضير الطعام، حتى أن معدته كانت تلعنه كثيراً بسبب الـ«دليڤري».. فأسدلت ”سلمى“ جفنيها وسرحت بذهنها لثوانٍ، نطقت بعدهم : — بآكل والله أهه.. بسّ أنا في حاجة مش فهماها!!.. هو ليه ماطلّقهاش بعد ما شاف الجواب!!.. وليه مارضيش حتى يعرّفها إنه شافه!!. على إيقاع تساؤلها، إعتدل ”يوسف“ على مؤخرته، وإمتص قليلاً من زجاجته الحبيبة.. بعدها كان سيجار «Cafe Cream»، يتأرجح بين أنامله.. المكان مغلق ولن يستطيع بعثرة دخّانه في الهواء؛ فأسكنه زاوية فمه اليمنى، وأعاد كفّيه إلى مكانهما خلف رأسه : — هعرف منين!!.. منا زيّي زيك، معرفش ليه ما ماطلّقهاش ولا رضي حتى إنه يعرّفها!!!.. تحبّي أكمّل؟!!. نحو واجهة القفص، إندفعت ”سلمى“ مرتكزة على ركبتيها بعد أن إعتدلت هي الأخرى، ثم أحاطت أناملها الرقيقة بالقضبان الحديدية، وطلبت : — لأ، مش دلوقتي!.. قولّي الأوّل عملت إيه لما شوفت حبيبتك بالصدفة، وعرفت إنها خلّفت ولد وسمّيته على إسمك!!. تلخيصاً لردّة فعله؛ عينان مغمضتان يتوهجان بإبتسامة، تسارع في دقات القلب، إضطراب غير ملحوظ في الجهاز التنفّسي.. وهمساً أجاب كعاشق متيّم : — مش فاكر الموقف بالظبط.. بسّ اللي فاكره كويس، هو إحساسي ساعتها كان عامل إزّاي!!.. إفتكرت يومها كل الذكريات اللي كانت بينا في لحظة!.. حسّيت كده إنّي مُتّ وبتحاسب، وشريط حياتي بيتعرض قدّام عيني.. مش عارف إذا كنت كرهتها عشان إتجوّزت غيري ومارضيتش تستنّاني!!!.. ولّا كرهت نفسي عشان مش عارف أنساها، وعشان لِسّة ضعيف قدّام حبها.. مش عارف ليه كان نفسي أجري عليها، وأخبّيها جوّا حضني.. وفي نفس الوقت، كان نفسي أترمي في حضنها وأفضل أعيّط.. كان نفسي أقول لها سامحيني، وحقّك عليا!.. كان نفسي أطلب منها إنها تفضل جنبي، وماتسيبنيش أبداً.. مش عارف أوصلّك إحساسي أنا عارف!. تدريجياً هدأت ”سلمى“ على مؤخرتها، وأزالت أصابع كانت تعتصر حديد القضبان.. نصفها العلوي خرّ على أحد الجوانب الفولاذية؛ وحزناً هَوَت دمعة منها، حاولت الإنتحار سقوطاً من عينيها؛ ولكن الأنامل الرقيقة لا زالت تجيد مسح وجنتيها ببراعة.. ربما كان صوتها أقوى ما فيها تلك اللحظة؛ فهمست لتسأل بفحيح لا يكاد يُسمَع : — معاك صورة ليها!!. متثاقلاً خلع ”يوسف“ سلسلة فضّة، كانت تحيط برقبته لسنين، ثم نهض.. وبطيئاً سار نحو القنديل؛ ليسحب شمعة من الكيس القماشي ورفعها إلى الفانوس المعلّق.. وتحرّك بها مشوّشاً بعد أن قبَّل فتيلها بنار شبيهتها، ثم جلس مستنداً بظهره على القضبان.. وفي خِفّة مقصودة، تنقّلت السلسلة من يده ليمينها.. كانت عبارة عن قلب ذهبي سهل الفتح؛ الجهة اليمنى كانت صورة ”ريحانة“ بجمالها الصاخب، واليسرى لشخص إرتجف صوته مجيباً : — جابتهالي هديّة في أوّل «Valentin» عدّى علينا.. هتصدقيني لو قولتلك إنها ما تغيّرتش من ساعتها؟!!.. طب هتصدّقيني لو قولتلك، إن دي أوّل مرّة أقلع فيها السلسلة من رقبتي!!!. بروحٍ مهلهلة كملابس مجاذيب الحُسين، نهض وفتح الباب مسيطراً على دموعه بقوة فاقت ”شمشون“ الجبّار.. لم يكن ”يوسف“ لحظتها يقبل أن تراه ”سلمى“ تحديداً؛ وهو في أعتى لحظات ضعفه بكاءً، وربما لهذا أراد الإنصراف : — شكراً!!.. شكراً على البطّانية والمرتبة!!.. تصبح على خير!. أخذت ”سلمى“وضع الجنين في أشهر الحمل الأولى، وإحتضنت يدها اليمين.. جاعلة من اليسرى وسادة فوق الوسادة القطنية، المشاركة لها في نفس السجن.. قد تكون نامت سريعاً، وربما تكون شردت قليلاً؛ ولكن عساها أن تكون قد تأمّلت طويلاً!!!. . *** . - ٥ - إنخفاض درجة الحرارة في مكتب ”كريم“، ناطح سقيع القطب الشمالي ذلك النهار.. تزجيةً للوقت، ضمّ جانبي الچاكيت أكثر على ص*ره، وإتجه نحو شُبّاك الغرفة.. بعدها، زَمَّل فمه بسيجاره مصرية من أجود أنواع الخشب الحُبيبي، ثم تاه في سماء عقله.. ما زال لا يدري المعنى الحقيقي للحرّية؛ وقد يكون ذلك هو سرّ شروده.. أمعقول ان تكون هي ما ذكره «إجنازو سيلون» حقّاً حين قال.. {الحرّية هي إمكانيّة التشكيك، هي إمكانيّة إرتكاب أخطاء، هي إمكانيّة البحث والتجربة، هي إمكانيّة قول لا؛ لأيّ سلطة أدبيّة أو دينيّة أو فلسفيّة}!!.. شَكَّل الدخان الرمادي بُقع نيكوتينية في الهواء، وعلى صوت ”ربيع“ كانت الإفاقة : — إيه يابني، بَنده عليك بقالي ساعة!!. — معلش ما اخدتش بالي!.. كنت بتقول حاجة!!. أجاب بها ”كريم“ عائداً بشبشبه المُجتهد نحو كرسي مكتبه.. وفي قلق واضح، أزاح ملفً أصفر يعتلي سطح المكتب أمامه، ثم تعَكَّز بمرفقيه على المكتب بعد أن إشتبكت أصابعه إشتباكاً ملحمياً بسبب البرودة : — شوفت اللي حصل!!.. عشان تبقى تصدّق كلامي بعد كده!.. كشف المكافآت إتمضى خلاص، وأسامينا مش نازلة فيه!!.. ومش إحنا بس، ده أغلب موظّفين المجلّة أساميها مش موجودة فيه برضو!!!. — عادي يعني يا ”ربيع“، ماتكبَّرش الموضوع!!.. ما أنت عارف الميزانيّة!!..الراجل الصراحة عمره ما بيبخل على حَدّ، طول ما الميزانيّة بتسمح!!. أخرج ”ربيع“ ورقة بيضاء من الـ«أورنيك» الأزرق الجاثم فوق الرَفّ العلوي الواقف أمامه، ثم عاد إلى مكتبه في حالة هلوسة خفيفة تقريباً.. بعدها، إقتنص قلماً من علبة الأقلام التي أمامه، وبدأت ثورته : — ميزانية إيه يا عَمّ أنت كمان؟!.. هي الميزانية دي علينا إحنا بس!!.. إستغفر الله العظيم.. ياخي ده أنا قرأت الكشف أكتر من مرة!.. مش نازل فيه غير قرايبه وشويّة الـ«ألاضيش» بتوعه!!. عَقب كلماته الأخيرة، مارس ”كريم“ هوايته المفضلة ولَزِم ال**ت.. قد يكون خوفاً!!.. وقد يكون إقتناعاً برأيه!!.. وربما كان جهلاً محضاً!!..علبته لا زالت تحتاج لمن يقضي أجله بالتنفّس الصناعي منها؛ فوضع أحد جنودها البيضاء بين شفتيه، وتحديداً في الزاوية اليسرى : — المهم!!.. إحنا هنتجمّع إنهارده قدّام باب الشركة، عشان عاملين وقفة إحتجاجيّة ضده وطبعاً أنت هتكون معانا!!.. هكتب إسمك دلوقتي في الكشف اللي هنرفعه للنقـــــ,,, . حتماً لن تكون الإنتفاضة الوصف المناسب لردّة فعل ”كريم“.. في أقل من «فمتوثانية» قفز واقفاً، ثم إنسلخ كطلقة «٩ ملّي» نحو مكتب الزميل.. وفي سرعة البرق إستخدم يده في إخفاء ملامح ورقة بيضاء، دُوّن أعلاها «إضراب» : — أنت بتعمل إيه يا ”ربيع“!!.. هو أنا ناقصك أنت راخر!!!.. مش كفاية الهَمّ اللي أنا فيه!. جامعاً شتات عقله، إعتدل ”ربيع“ في كرسيه، ثم أسند ظهره إلى الخلف.. ودَّ لحظتها لو كان بمقدوره قزقزة فدّان لِبّ سوري كما كان يفعل؛ ولكن : — أنا آسف والله يا ”كريم“ إعذرني.. هو لسة مفيش أخبار عن ”سلمى“ برضو؟!. — لأ لسة!.. كل ما أكلّم الظابط يقولّي ماتقلقش، إحنا شايفين شغلنا.. أنا تعبت خلااااص، وبقيت مش عارف أعمل إيـــــــــــــــه!!. سار (ربيع) بصديقه نحو مكتبه، بعد أن نطقها الأخير في تنهيدة كادت أن تحرق الأخضر واليابس.. أجلسه أولاً ثم ربّت علي كتفه ثانياً، في محاولة منه لتهدأته : — خير، إن شاء الله خير!!.. هتظهر قريب والله، صدّقني!!.. أنا عارف بقولك إيه!.. عارف إن الداخلية إيدك منها والقبر، بسّ ما تقلقش وأصبر.. مفيش في إيدينا حاجة غير إننا نصبر ونستنّى!!. بهذا الحديث الرشيق أثلج ”ربيع“ ص*ر زميله؛ فأخذ الأخير يردّد الأدعية بوجَل إلى أن إطمأن قلبه قليلاً : — ها، قولت إيه!.. أكتب إسمك معانا بقى في الكشف؟!!. — لأ معلش.. بلاش أنا والنبي يا ”ربيع“!.. إعفيني الله يخليك.. وبعدين صدّقني الراجل ده كويس، على الأقل أحسن من اللي كان قبله!!.. ده مفيش مرّة حَدّ تِعِب وإحتاج أجازة إلا لما وافق له عليها.. وبعدين إعمل إحترام لسنّه يأخي!.. ده أدّ أبوك!!. تفهّم ”ربيع“ الحديث جيداً.. في يأس أحكم الكوفيّة حول رقبته، وإتجه نحو مكتبه ثانيةً قاصداً عِدّة المزاج.. كيس السكّر، وعِلبة الشاي الكرتونيّة، و«كُبَّاية» زجاج شفّاف دون يدّ، ومل*قة تحول لون مغرفتها إلى النحاسي الداكن.. بعدها، أخرج الغلّاية من الدرج السفلي بمكتبة الملفّات وبدأ التحضير : — لِحَدّ إمتى هتفضل كل ما تتوجع من ض*ب الجزمة، تترحّم على ض*ب الشبشب!!.. على العموم إنت حُر.. براحتك.. وماتخافش، لو حَدّ سألني عليك هقول له إن الحجّة تعبانة شوية ولازم تكون جنبها!!. — تسلم. أنهى ”كريم“ المحادثة وخلع الچاكيت.. سار إلى الحمام مُشَمِّراً لقميصه، ثم توضأ بنيّة صلاة الظهر.. وكانت السورة المقروءة في الركعة الأولى هي «الكافرون» : — {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}. أيقصدها تحديداً أم أنها الصدفة!!.. أم أنها إنعكاسات عقله الباطن؟!. الصدفة!!.. تعدّدت أسماؤها الفقهيّة.. لُقّبَت قديماً بض*بة الحظّ، وأخيراً بالزهر وألاعيبه.. مذهب الفاشلين في حياتهم اليومية.. عقيدة راسخة في أذهان المتواكلين على الظروف.. عقيدة متخلّفة، أساسها الجهل وعمودها الفقر. أنهى ”كريم“ صلاته وأشعل الحبيبة، ثم ظفرت مؤخرته بكرسي المكتب ثانيةً.. بين إيجاد تفسيرٍ مقنعٍ لغياب أخته، وبين المعنى الحقيقي للحرّية تأمل.. من خلال الدوائر الدخانية المرسومة بزفيره تأمّل.. هل غيابها - إذا كان مقصوداً - حقاً من حقوق حرّيتها؟!.. لو كانت الإجابة نعم؛ إذن فهو حُر أيضاً في البحث عنها.. أتقاعسه في العمل حرّية أيضاً؟!.. إذا كان كذلك؛ فلما اللوم على رجال المباحث لفشلهم في العثور على أخته!!.. ثم هل إرضاؤه لمديره يجوز تسميته تقاعس!.. المدير الذي إختارته السلطة الأعلى ورضوا به ليكون قائداً!!.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD