الفصل الثالث عشر

2838 Words
فتاة ستوكهولم . الفصل الثالث عشر . - ١ - الأحد. ٩ يناير ٢٠١١. الليلة السابعة والأربعون. كانت ليلة عاتية، بزغ فيها القمر خالياً من الضياء تماماً، كشبح معتِم ت**وه الندوب.. وكانت درجات الحرارة شِبه السيبيريّة، لا تختلف كثيراً عن ليلة شتوية في كوكب يسكن خارج المجرّة.. ساخراً قهقه ”يوسف“ على ذكرى عابرة، أتته وهو مُمدّد على سجّاد البهو في الظلام؛ فهَدَر بعدها بهمهمة غير مفهومة قبل أن ينهض.. ذكرى بربريّة كادت أن تَحِزّ رقبته يوماً ما؛ فتغلغلت أنامله بين وسائد الكنبة الراقدة جواره، ليجذب علبة سيجاره المعدنية.. طمعاً في تبديد حالة الزهق أشعل منها واحداً، وإتجه في عناء إلى القبو المظلَم المحبوسة فيه رهينته ”سلمى“.. في إستئذان طرق الباب أولاً قبل أن يفتحه؛ وهي عادة بدأ في ممارستها منذ أيامٍ قليلة.. وعلى إيقاع الصوت المُهتريء؛ الذي خرج من خلف الباب أشبه بالفحيح، دلف ”يوسف“ إلى الداخل حاملاً صُرَّة ذكرياته داخل عقله، وزوبعة والده الفكرية في جيبه.. من منظور دُخانه البخوري المُتصاعد من سيجاره إلى أعلى ستراهم؛ ”سلمى“ راقدة على كنبتها شبه غافية أسفل بطاطين، يتراقص فوقها ضوء شمعتين ثبَّتتهما في طبق مُحَطّم.. وفي خلفيتها كان ”يوسف“ راكباً كُرسيه مُفعِمَاً قدميه براحة، لم يجدها إلا في ظهر مسند الكنبة : — ”سلمى“!.. ”سلمى“!!.. إنتي ما أكلتيش ليه؟!.. الأكل مش عاجبك؟!.. تحبّي أغيّرهولك!!. — لأ شكراً.. بس.. ماليش.. نِفس.. دلوقتي!!. نطقتها ”سلمى“ بفَمٍ يسعل بعد كل كلمة تقريباً.. وجهها زاد شحوبه كثيراً، فأظهر إحمرار الأنف بقوّة.. بعدها، أخرج ”يوسف“ العِدَّة من جيوبه؛ جاعلاً التليفون يمسح المكان بموسيقى كلاسيكية، والأچندة السوداء تبرز من بين يديه : — طب تحبّي أقرالك شويّة؟!. — زيّ.. ما.. تحِبّ!. مسح ”يوسف“ بعدها غضاريف أنفه المحمومة بتُرابه ال*****ني، قبل أن يقرأ بصوتٍ «مِرهرَط» من صفحات السوداء المتقوقعة بين يديه : — { ٢٦ يونيو ١٩٩٥.. جاهدت اليوم في الرجوع إلى الڤيلّا.. الشوارع كانت زحمة بالعناصر الأمنية.. حالة إستنفار أمني مبالغ فيها، لدرجة إنهم وقّفوني في أربعة كمائن أثناء عودتي من الشغل.. كنت وقتها تعبان وسعيد في نفس الوقت.. سعيد لأن إدارة البنك رشّحَتني لمنصب مدير إدارة الإئتمان، في فرع من فروع البنك بإنجلترا.. كم كنت أتمنّى، وأنتظر تلك الهدية بفارغ الصبر.. أخيراً سأنتقل للعمل في إنجلترا. دخلت الڤيلّا وناديت على مراتي فلم أجدها!.. إلى أعلى صعدت وغيَّرت هدومي وأنتظرتها.. نِمت قليلاً على غير إرادتي فأيقظتني هي.. على الكنبة الموجودة في غرفة النوم جلسنا سوياً.. قُلت لها المفاجأة، إلا إنها رفضت.. رفضت على غير المتوقع، وتحَجَّجَت بإبننا وجامعته!!.. عرضتُ عليها تكملة دراسته في إنجلترا، باعتبار أن هذا سيكون أنفع له؛ ولكنها أصرًّت على الرفض رغم إني عرضت عليها تركه هنا، لغاية ما يخلَّص دراسته أولاً وبعد ذلك يحصَّلنا.. لم أجد سبباً مُقنعاً لرفضها صراحة؛ فهو لم يعد صغيراً الأن!!.. كما أنها فرصة لن تُعَوَّض.. بالإضافة إلى أني لن أسافر من غيرها. تركتني لوحدي في الغرفة لساعة.. لعنت فيها لحظة ميلاد إبننا ألف مرّة.. لكم أصبحت أكرهه وأتخِنق منه فى ذلك الوقت.. عاد إلى الڤيلّا في بداية الليل وطلب أن يتكلم معي!!.. في صالون الڤيلّا جلسنا أنا وهو وحدنا.. لا أطيق صوته.. لا أطيق رؤيته.. لا أطيق رائحته ولكنّي تحدّثت.. أخبرني حينها بأنه يريد موافقتي على الزواج من زميلته ”ريحانة“ بعد أن أقسم لي بأنه يعشقها ومتيَّم بها.. رفضت بشدة ولم أدري لماذا فعلت هكذا!!.. صرخ في وجهي فضــــــــ,,,,, }. — ”سلمى“!!.. إنتي صاحية؟!. — أها.. صاحية.. كَمِّل!. — أنا فاكر اليوم ده كويس، كأنّه إمبارح.. أنا لِسّة حتى كنت بفكّر فيه قبل ما أجيلك!!. تحشرج صوتها الخافت بـ«كُحّة» ناشفة بعد أن مسحت أسفل أنفها المُعتَلّ، وهي تنطق : — إ، شمــ، عــ، نى!!. — أصلي حاولت أنتحر يومها.. كرهت حياتي ساعتها، وكرهت نفسي، وكرهته هو كمان.. بسّ فشلت للأسف زيّ ما فشلت في كل حاجة حاولت فيها.. فشلت حتى في الإنتحار!!.. كنت دايما أسمع إن اللي بينتحر ده شخص ضعيييييف، وجبااان!!!.. بس تصدّقي أكتشفت إنه بيبقى لحظتها أشجع واحد في الدنيا.. تخيّلي كده بتنهي حياتك بإيدك!!.. حاجة صعبة أووووي... صعبة فوق ما تتخيّلي.. ومهما كانت طريقة الإنتحار سهلة، هيفضل برضو القرار صعب وتنفيذه أصعب صدّقيني. متنهّداً سكت ”يوسف“ لوهلة، ثم أطرق بفكره بعد أن غاص في كرسيه متذكّراً : — يومهاااا!.. يومها أخدت كراڤتّتين من الدولاب، وربطتّهم في بعض.. وقفت بعد كده على الكرسي في البلكونة، وربطّتهم في «جَنش» الفانوس اللي كان متعلّق في سقف البلكونة.. لفّيت المشنقة حوالين رقبتي بسّ ماكانش عندي الشجاعة إنّي أزقّ الكرسي، مش عارف ليه!... مش عارف ليه كان نفسي يشوفني وأنا متعلّق كدة تاني يوم الصبح، وهو رايح شغله.. حاولت ساعتها كذا مرّة بسّ برض ماقدرتش.. بعد شوية فكَّرت في طريقة تانية.. جريت على الحمام ومسِكت الموس، وقطعت شرايين إيدي الشمال.. هتستغربي لو قولتلك إنّي ماحسّيتش ساعتها بأيّ وجع!!!.. بسّ للأسف.. أمّي خبــــــــــــ,,, . تحرّك ”يوسف“ بنصفه العلوي نحو الأمام، ليرى ما إذا كانت لا تزال ”سلمى“ تسمعه، أم غابت في نعاسها.. نادى عليها مِراراً؛ فلم ترُدّ.. لكزها من خلف الكنبة بعد أن نهض؛ فلم تستجب.. إقترب منها أكثر، ثم رَبَّت على خَدَّها المتواضع في شحوبه، قبل أن تلسعه جبهتها البرُكانية.. سريعاً ودون تفكير إندفع نحو واجهة الكنبة من الأمام، وإنحنى على ركبتيه.. هل أدمع أم أنها خيالات الشموع؟!.. لا أعرف حقّاً؛ فالرؤية أضحت هلاميّة داخل تلك الزنزانة الظلماء، المغلّفة بطبقات الصقيع. إنكفأ ”يوسف“ إلى الأمام أكثر، واضعاً إحدى أذنيه فوق ص*رها؛ فسمع نبضاً غير منتظم.. نبضٌ أوشك على الوقوف نهائياً.. لقد تمَرَّد قلبها أخيراً، وبالغ في هدوء ض*باته معلناً حالة العصيان الروحي.. ورغم ذلك لا تزال جميلة وهَشَّة كحلوى «غزل البنات»، التي كان يأكلها مع حبيبته ”ريحانة“ فيما مضى.. التنفّس أصبح بطيئاً وعسيراً في تلك الرطوبة؛ فحملها دون وعي على ذراعيه كالطفلة.. حملها وطار إلى غرفته العلويّة وسط ظلامٍ دامس، لا يريد أن ينقشع.. أسكنها سريره أولاً، ثم هبط إلى الجراچ في سرعة البراغيث على جسد متسوّل لا يجد له مأوى.. سريعاً حمل عدة ألواح خشبية من صندوق بالي أخفى ملامحه الغبار، ثم صعد إليها مجدّداً.. في المدفأة الحجرية المحجوزة في رُكن الغرفة، ألقى حِمله قبل أن يُشعل فيه النيران. الظلام يُخَيِّم علي الڤيلا، ورغم ذلك كان ”يوسف“ أشبه بالنحلة الشغَّالة.. جذب بِضعة مُكعَّبات ثلجية من ثلَّاجة البيرة خاصّته، ووضعها في آنية قبل أن يسكب عليها الماء.. وبسرعة الصوت أو ربما أكثر، تحرّكت قدميه في رشاقة لم يعهدها على نفسه من قبل.. صعد إلى أعلى ثانيةً، ثم جلس على الأرض جوار السرير بعد إلتقاطه لكومة «فانِلَّات» داخلية بيضاء، كانت رابضة في قاع دولابه.. وسريعاً جعل منها كمَّادات تناوبت على جبهة ”سلمى“ في إنتظام.. يسراه كانت تعانق يسراها، ويمينه تداوم على تبديل الكمَّادات كل ثلاث دقائق أو أقل!!!. *** . - ٢ - في غيمة من الصباح أفاق ”عزمي“ من غفوة، قضاها قهراً على كنبة غرفة مكتبه.. غفوة كالحة، ألهبت عظامه وحطَّمَت أوصاله، قبل أن تشجّ روحه إلى نصفين.. جلس بعدها على حافة الكنبة، ثم حَكَّ خَدَّيه بأصابع إكتسبت خصائص محراث زراعي.. وكالعادة، زحف إلى كرسيه خلف المكتب، وضغط زرّاً ضئيلاً مُعلَّق أسفل حافته.. بعدها دخل العسكري الخصوصي، ثم نطق بلهجة لا تختلف كثيراً عن أسلوب إنسان آلي تمّت برمجته جيداً : — أؤمر سعادتك!!. في هيبة الأباطرة، سحب ”عزمي“ محفظته أولاً، ثم أفرطت حنجرته في خلق أمواج صوتية لا يتحمّلها الأ**ّ : — إمسك يابني.. روح هاتلي أيّ حاجة للبرد بسّ تكون قويّة، أحسن دماغي هتتفرتك... إستنّى!.. وإبقى قول لأيّ حَدّ يجيبلي قهوة سادة بسرعة.. واقف ليييه!!.. ما تروووح!!. تحرّك بعدها العسكري نحو باب المكتب وكاد أن يخرج، لولا نداء الـ”عقرب“ له ثانيةً.. نظر ”عزمي“ للمحتوى الدُخاني، ولم يجده كافٍ بالنسبة له؛ فأضاف آمِراً : — وإبقى هاتلي معاك كمان علبتين سجاير.. ما تتحرّك بسرعة يا بني آدم، واقف ليييه!!. أخيراً خرج العسكري، وعاد ”عزمي“ ثانيةً إلى وحدته.. على ضوء الأباچورة الكئيب، فتح دُرج المكتب وإلتقط ماكينة حلاقة معدنية، ومرآة صغيرة في حجم كَفّ اليد.. وسريعاً بَدَّل الموسى بأخر نظيف، وبدأ في إزالة شعيرات ذقنه النامية خفيفاً، باحترافية قصّاص أعمش : — أديني بتنيل أحلق على الناشف أهه عشان تستريّحي!!.. على الله تكوني مبسوطة!!.. نسوان ولاد قديمة عايزين الض*ب بالجزمة.. منه لله اللي دبّسني فيكي وشار عليّا إني أتجوّز، ما أنا كنت عزبانجي وعايش مبسوط أربعة وعشرين قيراااط!!!. عبارات خاطب بها نفسه بصوتٍ خفيض قبل أن يلتقط مُلقاطاً صغيراً، ويبدأ في تسوية شاربه.. ظَلَّ في عمله المُقدّس هذا إلى أن حضرت القهوة أولاً، ثم جاء العسكري حاملاً كيس بلاستيك ثانياً.. وضعه الأخير سريعاً على المكتب، وترك الـ«فَكَّة» المتبقية قبل أن ينصرف.. وأخيراً إقتلع ”عزمي“ آخر شعرة نافرة في شاربيه، ناطقاً في جهير عندما سمع طرق الباب : — أدخُل!!. بُناءً على إذنه، دلف المعاون حاملاً دوسيه أبيض، وضعه سريعاً على المكتب قبل أن يجلس؛ ف*نَقَّلت نظرات الـ”عقرب“ بين صفحاته، ثم تحدّث بتوجيهاته : — تمام خَلّي عينك على الواد ده، أكيد هيوصّلنا لحاجة مهمّة!!. أزاح الملف بعدها بإهمال، وأكمل : — عملت إيه في قضية البِتّ المخطوفة!!. نطق سؤاله، وهو يسحب ثلاثة أقراص «كونچيستال» من الكيس، الموضوع أمامه على المكتب، ثم جرعهم برشفة ضامرة من القهوة : — تمام سعادتك.. تقرير المعمل الجنائي، أكِّد إنه خَطَّها فعلاً.. بسّ للأسف ما قدرش يحدّد إذا كانت كتبته بإرادتها، ولّا في حَدّ أجبرها على كتابته!!. على إيقاع كلمات المعاون، أخذت ”عزمي“ وسوسة خفيفة جعلته ينظر في مرآته الصغيرة، ليتأكد من هَندَمة شاربه.. زفر بعدها ضيقه قبل أن يفتح عِلبته ساحباً سيجارتين؛ واحدة إستقرّت في فمه، والأخرى سكنت يدّ المعاون : — تمام!.. يبقى هنفضل ماشيين في القضيّة زيّ ماحنا، البنت إحتمال تكون مخطوفة فعلاً، وفي حَدّ أجبرها إنها تكتب الجواب ده!. أطرق ”عزمي“ لوهلة مُخرِجاً كربونه الدُخاني، قبل أن يُكمِل متسائلاً : — عملت التحرّيات بنفسك زيّ ما قولتلك؟!. — تمام سعادتك!!.. رُحت التُرَب بنفسي، وإستجوبت كل الناس اللي هناك.. كلهم أكّدوا نفس الكلام اللي بَلَّغت سعادتك به قبل كده.. بسّ في حاجة سعادتك!!!. — حاجة إيه!!.. إتكلّم!!.. عاوز تقول إيه؟!. — كان في واحد هناك شكله غريب.. بسّ الناس كانت بتحترمه أووي، وبيقولوا عليه كبيرهم.. ماتعرفش سعادتك بقى بيشتغل إيه!!.. مُقريء!!.. حارس!!.. واحد من المجانين والمجاذيب اللي هناك، الله أعلم!!.. سألت الناس عنه قالولي إنهم وعيوا عالدنيا لقوه.. إسمه الشيخ ”منصور“.. ”منصور العراقي“.. الناس بتقول إن بنته هربت مع عشيقها، وناس تانية بتقول أنها إتخ*فت هي كمان زيّ ”سلمى سلامة“، ده غير إبنه ”ثائر“ اللي طَفَش من البلد كلها بعد الفضيحــ,, . — طب ماحاولتِش تستجوبه!!. — حاولت سعادتك، بسّ ماكانش بينطق خااالص!!.. ماحدّش من اللي هناك شافه قبل كده بيتكلّم!!.. بس كلهم بيقولوا إنه عارف أسرار الميتين اللي تحت واللي فوق!. شَبَّك ”عزمي“ أصابع يديه في بعضهما بعدما إستند بمرفقيه على سطح مكتبه، ثم طأطأ برأسه إلي أسفل ناطقاً في إرهاق : — طب تمام!!.. روح أنت دلوقتي على مكتبك، ولو في جديد إبقى بَلّغني على طول. نطقها ”عزمي“ ولم تمرّ الثانية، حتى غادر المعاون مُغلقاً الباب خلفه.. بعدها، رفع سَمَّاعة التليفون؛ ولكنه لم يجرِ إتصالاً.. سريعاً عرض عن المكالمة، وإكتفى بخ*ف نظرة مارقة إلى ساعة يده.. نظرة على إثرها تقَلَّصَت عضلاته، وهو يرتدي الچاكيت الشتوي المعلّق على الشَمَّاعة الأرو جوار مكتبه.. ورغم إرهاقه من البيات على الكنبة الهزيلة ما يقرب من أسبوع، إلا أنه إتجه لسيارته.. سيارة «شاهين» تعود للعصر الطباشيري، رُمادية اللون إلا من بعض السحجات الطفيفة في أغلب أنحاءها.. وبحرفيّة ساحر هندي مخضرم، فَكَّ طلاسم بابها الـ«مِضَعّضَعّ» بواسطة مفتاحه الغابر، ثم تحرّك.. نحو مقابر «الإشارة» في الشرقية، إتجه.. شارداً كان يتحكّم في عجلة القيادة البليدة لأكثر من ساعة.. ربما كان شروده في القضية!.. وقد يكون بسبب خلافاته مع زوجته ”بسمة“!!؛ ولكن لا أعتقد انه كان بسبب الصدى السياسي للشباب الثوري!!!. وصل إلى هناك بعد عناء عقلي مُضني، لعن فيه أغلب سكّان الكُرة الأرضية والكرات المجاورة لها.. خرج من السيارة مرتدياً نَظَّارة شمس، رغم غياب الضوء خلف السحب وسار قليلاً بحذائه الأ**د، فغَربَل الحصى الرملي الذي كان يسبح فيه بقدميه.. عِدة دقائق توعَّك فيها حذائه إلى أن وصل لمقصده أخيراً.. إنتظر ثوان إلى أن أتاه المُريد عارضاً سماجته في سخاء : — البقاء لله يا باشِة... كلّنا لها.. تحبّ جنابك أفتحلك المدفن، عشان يلحق يتهوَّى شويّة!!. نطقتها جُثَّة متعفّنة، لا تختلف كثيراً عن زُملاءها المتحلّلين بالأسفل.. عارٍ تماماً، إلا من «جلّابية» فستقي؛ أو هكذا كان لونها قبل أن تصبح مزيجاً بين ثلاثة ألوان، الغالب فيهم هو الأ**د : — ونِعمَ بالله!.. بقولّك يا راجل ياطيب.. تعرف حَدّ هنا إسمه الشيخ ”منصور“!!. — خييير يا باشِة!!.. هو سعادتك مباحث ولا مؤاخذة!!. نطقها متوجّساً مرتاباً قبل أن تأتيه الإجابة ساخرة في تلقائية مصطنعة : — لأ، مباحث إيه يا راجل يا طيّب؟!.. الحكاية كلها إن أبويا الله يرحمه كان موصّيني عليه قبل ما يتكّل؛ فدوّرت عليه وعرفت إنه تقريباً هنا!!. — مظبوط كلامك يا حضرة.. لو عايز تبعتله فلوس، إدّيهاني أنا وأنا هوصلّها له!!. — تسلم يا راجل يا أمير.. أنا بس كنت عايز أعرف، هو هنا من إمتى؟!.. أهله مين؟!.. بيتكلم مع مين؟!.. كده يعني!!. قالها ”عزمي“ وهو يناوله عشر جنيهات «مِهَربِدَة»؛ فإلتقطها النحيف بيدٍ منقوشة بالصدفيّة قبل أن يرُدّ : — والله سعادتك اللي نعرفه إنه راجل غلبان وفي حاله!.. بسّ مش بيتكلّم أبداً معانا!!.. الناس بتقول أنه كان من عائلة كبيرة فيها ييجي حوالي ٢٢ أخّ؛ دايماً يتخانقوا مع بعض بسبــ,,, . شاعراً بعدم جدوى الحديث، قاطعه ”عزمي“ ليسأله في تأفّف بعد أن بصق أمامه على الأرض مرّتين : — ليه، هو أخرس؟!. — لأ يا بييه.. في ناس شافوه بيتكلم مع اللهُم إحفظنا.. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم!!. أخرج ”عزمي“ سيجارتين من عِلبته، ثم ناول إحداهما لفمه والأخرى للنحيف؛ الذي يشبه الهاربين من مستعمرة «جُذام» غير مرخّصة : — طب هو مالهوش أهل؟.. ماحدّش بيسأل عليه يعني!!. وضع الرجل السيجارة خلف أذنه، لتكون حليفته مع شاي ساخن بعد وجبة غداء «مِرَبرَبَة» : — انا هنا بقالي أكتر من «خماشر» سنة، وعمرنا يا بيه ما شوفنا حَدّ بيزوره خالص.. مفيش بسّ غير ولاد الحلال اللي هنا بيبعتوله حاجة يتقوِّت بيها كل يوم، مقابل إنهم ياخدوا خشب العِشّة بتاعته.. مساعدة يعني يا بيييه، ما هو أصله مابقاش محتاجها بعد ما إتعارك مع ولده وطرده برّة العِشّة!.. والله ولده ده يا باشِة كان شاب إبن حــ,,,, . — طب وماتعرفش ألاقي فين عَمّ ”منصور“ ده دلوقتي؟!. — هتلاقيه سعادتك قاعد عالمصطبة اللي بعد المدفن اللي هناك ده!!.. هو دايماً بيقعد هناك قدّام العِشّة، يض*ب في القطط كل شويّة.. والله يا بيييه من بعد ما الناس أخدوا منه خشب السقف بتـــ,,,,, . شكره ”عزمي“ وتحرّك للوجهة المشار إليها من النحيف.. دقيقة فاترة لدغته فيها عقارب الساعة، إلى أن وصل إليه مُغبَّراً.. أفنى سيجارته سريعاً، وقذفها بعيداً بعد أن جلس جواره.. لحية بيضاء ما زال السواد يتخلّلها بسيطاً، وتلفيعة صوف أ**د تعود نشأتها لعصور ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى كُوفيّة من نفس اللون والعصر.. ويعلو رأسه عِمامة بُنيّة تربّعت على شعره الأبيض، مثلما يتربّع هو على مصطبته الحجريّة : — صباح الفلّ يا حاجّ!!. قالها ”عزمي“ مناولاً سيجارة له، فلم يجد ردّاً.. مرتجِلاً أعاد عِلبته لجيبه ثانيةً، بعدما أسكن السيجارة في زاوية فمه اليسرى : — في بنت إسمها ”سلمى“، كانت بتيجي تزور قبر أبوها هنا كل فترة.. شوفتها قبل كده يا حَاجّ؟!. نطق بها الـ”عقرب“ عارضاً عليه صورتها، بعدما أخرج تليفونه من الح**رة الداخلية لمعطفه : — يا حَاجّ البنت دي إتخ*فت من فترة.. ساعدني بأيّ معلومة!.. إعتبرها زيّ بنتك!!. كان الردّ عنيفاً من الشيخ ”منصور“؛ حيث حرَّك رأسه إلى اليمين ناظراً لـ”عزمي“ بإهمال، ثم لمعت عيناه لثانية أو ربما إثنتين، وعاد لوضعيته ثانيةً : — أنت راجل كبير ومش حِمل بهدلة.. أنا قولت أجيلك بنفسي، بَدَل ما أبعت أجيبك عندي في القِسم.. وساعتها هعرف أخلّيك إزّاي تتكلّم!!. خاطبه بها ”عزمي“ متأهّباً للنهوض، ويائساً من الحصول على معلومة : — ماتحاولش تدوّر عليها!.. أبوها كان راجل طيب.. الله يرحمهم!!. أخيراً أزال الشيخ ”منصور“ التُراب من على حنجرته الع**دة.. عباراته كانت سبباً لجعل الـ”عقرب“ يجلس ثانيةً، ثم ينطق مشدوهاً : — الله يرحمهم!!.. قصدك إيه!.. وبعدين إيه علاقة إن أبوها كان راجل طيب بإني مادوَّرش عليهم!!.. بُصّ!.. هتعملّي فيها مجنون هجيبك عندي.. وبرضو هعقلّك بطريقتي!!. — إوعى تفتكر إنّي خايف منك.. ما خلاص!!.. راحت اللي كنت بخاف عليها، وفاكر أني بقسوتي دي بحميها!!. غيظاً مسح ”عزمي“ وجهه بكلتا يديه، ثم زأر بصوتٍ عتيق : — أنا آسف يابويا.. حقّك عليا!.. بس فهّمني بالراحة كده وواحدة واحدة.. تعرف إيه عن ”سلمى“!!. أسدل الشيخ جفنيه، وطأطأ برأسه إلى أسفل حتى كادت تسقط من على كتفيه، ثم أشار بعيداً تجاه أحد الشواهد الكئيبة، الراقدة جوار قبر والد ”سلمى“ : — عند اللي بيتعذّب هناك.. لا رَحَم في الدُنيا ولا عايز يرحم في الآخرة.. إسألوووه!!.. هو الوحيد اللي عارف!. زادت عباراته المحمولة برائحة فمه الكريهة، **اخ أذنيّ الـ”عقرب“ لزوجة.. بعدها، نظر ”عزمي“ ناحية الشاهد المُشار إليه، وعبثاً سأل قبل أن ينهض عازماً على الإنصراف : — أسأل مين؟!.. دي ناس ميّتة!!.. أسأل ميّت!!. — هو مات.. بس ديله لِسّة صاحي!!.. ديل نِجِس زيّه!!. . لم يرُدّ ”عزمي“ بعدها، وقد تأكد نهائياً من لوثته المجنونة.. نهض وقاد قدميه إلى هناك، حيث أشار الشيخ ”العراقي“.. إقترب من المدفن مُشعِلاً سيجارة، وشحذ حواسه ليستطيع الإنصات بوضوح، ثم نظر بعدها حيث يجلس الشيخ محدّثاً نفسه في سخرية : — عذاب إيه، وديل إيه النِجِس!!.. همّا بيدفنوا هنا «أبراص» ولا إيه!!!. البرص، أو أبو بريص.. يُعتبر من الزواحف الصغيرة، ويمتلك جسماً قصيراً وأطرافاً متطوّرة.. ينشط ليلاً، ويكتسب توازنه من ذ*له، وله قدرة عجيبة على فقدانه، والتخلّي عنه أيضاً إذا ما أمسك به حيوانٌ مُعارضٌ له؛ كما أنه يتغذّى على الحشرات!.. ويُقال أن الفئران والقوارض والخنازير تمثّل تهديداً قويّاً له.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD