الفصل الحادي عشر

1520 Words
فتاة ستوكهولم الفصل الحادي عشر . - ١ - خيّم الهدوء المُرخي للأعصاب حول أرجاء ڤيلّا ”يوسف“، على الرغم من توسّط الشمس عنان السماء.. هدوءٌ مُبَالغ فيه لم ي**ره إلّا نهوض «سيمبل» من مرقده، وإتجاهه نحو ذقن سيده الغافي قليلاً.. وكعادته، ل*قه بل**نه اللزِج كثيراً، حتى إنهارت الشعيرات النامية في وجه الأخير.. وبصفعة من يده، هرب الكلب طويلاً قبل أن يخرج منه خوار الصعداء.. إتكأ ”يوسف“ بعدها على مؤخّرته المسطّحة أرضاً على سجاد البهو، المطروح في أرضيّة الڤيلّا المعتمة.. وعبثاً سحب القنّينة المعدنية من جواره وثمل الشعير، ثم أشعل سيجاره الرفيع المميّز برائحة البُخور قبل أن يُصَفِّر لكلبه؛ فركض الأخير وتكدَّس بفروه بين يديّ سيده.. الزهق بلغ أشدّه لحظتها، وكاد أن يشُجّ رأسه إلى نصفين. على سبيل التسلية، أحاط رقبة «سيمبل» بكلتا يديه، ثم نفَّث زفيره المحموم بدخان الكُحول في وجهه.. كانت ملامح الس***ة ترسم وجهه دائماً حين ينظر لكلبه؛ فسعل «سيمبل» بعدها من أثر الدخان قبل أن يعوي عواء المسكين للسعة مقصودة من سيجار ”يوسف“، زيَّنَت رقبته لشهر فيما بعد بحرقٍ سطحي.. وسريعاً آوى إلى زنزانته العجفاء، بعد أن تَعَفْرت فَمّ مالكه بالضحك المشخور. بعدها، حلب ”يوسف“ جذوة سيجاره ونهض متّجهاً إلى غرفته.. ومن بين الملابس المرصوصة خلف ضلفة دولابه، إنتقى بذلة رمادية وقميص يضاهي سواده غِلّ من يرتديه.. إنساب فيهما وإتجه إلي سيارته المارقة؛ فإندلعت الأخيرة مُزمجرّة على أسفلت الحي إلى أن وصلت به إلي وجهته.. «Fetcher Banque».. سريعاً حَوَّل فوائد الوديعة إلى حسابه الجاري، ثم عَرَج إلى «Drinks».. النمط المعتاد آخر كل شهر؛ حيث يقتاد من هناك عدة زجاجات، كحولها مُقَطَّر بعناية ثم يعود بها إلى سيارته مجدّداً. الكحول.. الإثم الأعظم عند المصريين.. بعضهم أقرّ بحرمانيته وحَلَّل الحشيش؛ وبعضهم إختاره رفيقاً للدرب أُسوةً بالخواجات.. فئة تتخذه وجاهة إجتماعية ومظهراً للتحضّر، وأخرى تراه وسيلة للصبر على بلاوي الحياة. إندفع ”يوسف“ بالسيارة **هم مدبّب نحو الجراچ.. فتح إحدى الزجاجات، ثم أطفأ لهيب الوَحشة التي دبّت في قلبه.. خاوية تركها وترجَّل إلى الـ«بار»، واضعاً آثامه السائلة فيه، ثم صعد أخيراً إلى غرفته حاملاً «مِشت»، ملأه إلى قمّته من سوداء يبلغ تركيزها ٣٩%.. في فتور جذب الإسطوانة، التي يستنشق بودرته عليها بعد أن عَلَت أعضاءه كرسيه، وبهدوء رتَّب سطوره الأربعة فوقها.. بعد ذلك، أمطر فمّه بسيول الكحول بعد عاصفة بنّية، ض*بت شعيرات أنفه بقوة حتى كادت أن تقتلعها؛ فإحتمل السيل زبداً رابياً في معدته. أين الـ«ريتريڤر»؟!.. أين هو ذو الفِراء الذهبي؟!.. ثقيلاً كدبّابة سوڤيتيّة تعود للحرب العالمية الثانية، نهض من فوره وبحث عنه.. بصوتٍ مبحوح، نادى عليه كثيراً.. وبخطواتٍ غير متّزنة رسمت أرجاء الڤيلا، باء بحثه أخيراً بالفشل.. لم يترك غرفة إلّا وشربت عينيه منها أملاً في العثور عليه.. لقد رحل الوفي، آملاً أن يجد الشارع أحنّ عليه من سيّده. أخذت ”يوسف“ بعدها سِنة خفيفة على الكنبة المتدلّية.. غفوة لم تكن بالحسبان.. على غير إرادته، نهض راجياً ماءٍ دافيء، يحن به الدُشّ عليه. الثلاثاء. ٢٨ ديسمبر ٢٠١٠. الليلة الخامسة والثلاثون. — هيكون راح فين!!. ألقتها شفتاه على ”سلمى“ بعد أن جلس على كرسيه رافعاً قدميه العاريتين إلى خلفية كنبة، جلست عليها الأخيرة ناظرة إلى أسفل قدميها.. إضطربت أحبالها الصوتية وأردفت بشفتين ترتعشا قليلاً : — أنا أسمع إن الوقت ده من السنة بيبقى موسم الجواز عند الح*****ت!.. ممكن يكون هرب عشان كده!!. أغمض ”يوسف“ عينيه، وفرك شعره بيمينه قبل أن يتفوّه : — أهلك أكيد مطمّنين عليكي دلوقتي!. أدارت ”سلمى“ وجهها نحو اليمين، وأردفت : — أكيد.. لكن هو أنت ليه صحيح، أصرّيت إنّي أكتبلهم الجواب؟!!. سكت هُنيهة و«شَنشَن» سريعاً محاولاً الإمساك بمُخاط، يخشى مرتفعات أنفه.. صوته كان مُبالغ في الإنخفاض، وربما كان ذلك بسبب الكحول : — عادي يعني!!.. تقدري تقولي كده، جَدعَنة منّي!!. أسندت ”سلمى“ رأسها على مرفق يدها اليسري النائم على مخدع الكنبة، ثم رفعت قدميها قليلاً لينالا بعض الدفء أسفل البطّانية : — أنت طيّب أووي على فكرة!!.. تصدّق أنا مش عارفة إسمك إيه لِحَدّ دلوقتي!!.. بيتهيألي كده إنه ممكن يكووووون!.. ممكن يكووووون!!.. مش عارفة!.. بس حاسّة كده إنه إسم مُرَكّب. كاشفاً أساريره لفترة، ضحك ”يوسف“ بعدها ضحكات متتابعة؛ كالإنزالات الجوّية خلف خطوط العدو.. وبيمينه دارى فمه حتى لا تفوح بأسرارها الكُحولية، ثم نطق : — طريقة كلامك بتفكّرني بطريقة كلام ”ريحانة“ خالِص.. بحِسّ إن فيها كده هدوء وسذاجة مش طبيعية!!. نهضت ”سلمى“ وإلتقطت طبق بطاطس أهملته لساعة غصباً عنها، ثم عادت به إلى جلستها ثانيةً : — ممكن أسألك سؤال؟!. — إتفضلي. — ندمان على إنك ماتجوّزتهاش؟!.. يعني لو إفترضنا إن الزمن رجع بيك، كنت هتعمل إيه؟؟!!. في حيرة متصاعدة، نهض ”يوسف“ وترنّح قليلاً خلف الكنبة.. باحثاً عن الإجابة أشعل بخوره الرفيع، وإمتص نيكوتينه عبر شفتيه قبل أن ينطق : — مش عارف!!.. مش عارف والله يا ”سلمى“!!.. أنا كل اللي كنت عايزه ساعتها إنها تستنّاني شويّة، لغاية ما أعرف أدبّر أموري.. لقيتها بتقولي أنت ضعيف، عشان ما وقفتش لأبوك!!. وضعت ”سلمى“ واحدة محمَّرة في فمها، ثم لوَّكَتها قليلاً وهي تتحدّث : — طب لو رجعِت دلوقتي وقالتلك إنها بتحبك؛ هتعمل ساعتها إيه؟!!. أعلن الطقس بعد سؤالها هطول أمطار كحوليّة داخل معدته، تصاحبها رياح بُنية عصفت بأنفه؛ فجاء بعدهما : — ما كفاية أسئلة بقى!!.. أنا ماشي!. تنهّد ”يوسف“ وهو ينطقها في ألمٍ لا ينضب؛ لضغطها - بغير قصد - على دِمّل يتفشّى في قلبه.. وفي عجالة إتجه نحو الباب، ولم يتسنَ له الخروج : — أنا آسفة.. أسفة خلاص مش هسأل تاني والله!!.. بس ممكن تخلّيك قاعد شويّة؟!!. بخطواتٍ متردّدة عاد ”يوسف“ ثانيةً إلى مرقده.. أحكم الچاكيت على ص*ره أولاً، ثم تدثّر ببطانية مماثلة لما إختفت ”سلمى“ تحتها.. بطيئاً ظهرت أصابعه من تحت الغطاء بعد أن إجتَثَّت سيجاره من طيات جيبه، وبصوتٍ لا يكاد يُسمع بالأذن المجرّدة نطق : — تحبّي أقرأ لك شويّة!!. أسدلت ”سلمى“ جفون باردة كثلّاجات الموتى، قبل أن تجيبه بصوتٍ أشبه بفحيح أفاعي «بورما» : — يا ريت!!.. بسّ ممكن تعلّي صوتك شوية!!. إقتلعت يده الأجندة السوداء من طيات جيبه، بعد أن إستعار القنديل من على الحائط قليلاً.. أدار موسيقى هادئة على تليفونه أولاً، ثم أجلسه على الأرض جوار قدميه ثانياً.. وبدأ القراءة ممّا تحمله راحته اليسرى على ضوء شمعة، توهّجَت ناراً في اليمنى.. وقابضاً على سيجاره بأحدى زوايا فمه؛ كأحد «Cow Boys» السينما الأمريكية أفصحت حنجرته : — {٦ يوليو ١٩٩٢.. عدت من الشغل اليوم سعيداً.. أخيراً قدرت أحقّق حلم زوجتي.. كانت تتحدّث لصاحبتها حين دخلت البيت حاملاً في جيبي مفتاح الڤيلا، التي طالما تمَنَّت إنها تعيش فيها.. انتظرتها لدقائق.. قعدت في الصالون كعادتي وانتظرتها لتنهي مكالمتها مع صاحبتها.. خروجها زعلانة من المطبخ هو ما ألهمني.. لقد جاء الوقت أخيراً لأكون أنا السبب في إسعادها.. قرّبت منها وأخرجت المفتاح مبتسماً.. ولكني ذُهلت بعدها ولم أُظهِر السبب.. لا أدري لما تظاهرتْ قدّامي بالسعادة.. كانت تلِحّ عليّا كثيراً لأشتريها لها، ومع ذلك تتصنّع الفرحة أمامي.. أستطيع التفرقة عندما أنظر إلى عينيها بين السعادة الحقيقية والفرحة المزيّفة.. لماذا لم تبدِ إنفعالاً حقيقياً، عندما كنت أُخطّط طريقة الإنتقال لهناك!!.. ولماذا لا أغضب عندما تغلط في إسمي وتناديني بإسم إبني اللي أصرّت تسميه على إسم حبيبها؟!.. لأول مرّة منذ زواجي منها أبكي.. الوقت أصبح بطيئاً وأنا راقد في سريري لغاية ما سمعت صوت إبني.. دخل البيت فرحان بنجاحه في المـــ,,,.}. — أنا سقعانة.. سقعااااانة أوووي!!. هكذا نطقت ”سلمى“ بعد أن تحوّل بياض جلدها إلى زُرقة حِقداً على لون فستانها.. نهض بعدها ”يوسف“، وأفرطت أنامله في إلتقاط عِدّة شموع ضخمة من الكيس القماشي.. أشعلهم أولاً ثم أعطاهم لها؛ ليساعدها في تدفئة جسمها قليلاً.. إنصرف بعدها من الحجرة سريعاً، ولم ينسَ فرد بطّانيته على جسدها.. مرّت نصف ساعة تقريباً على ”سلمى“ وهي تتنعّم بحرارة شموع، يتراقص ضوءها على أنغام الموسيقى الخارجة من تليفونه المُمدّد على الارض.. حاملاً «كُبَّاية» شاي دافيء بيمينه وإسبرينة في الأخري، عاد ”يوسف“ في جزع.. ناولها إياهم من الخلف قبل أن تعتلي فحولته كرسيه ثانيةً : — ميرسي!. نطقتها بعد أن أحكمت أصابعها حول «كُبّاية»، وضعتها أسفل وجهها مباشرةً؛ فأطعمت أنفها ووجنتيها من البخار المتصاعد من مشروبها قبل إبتلاعها لإسبرينة، طَفَت سريعاً على شاي توهّج بالدفء داخل معدتها : — كمِّل.. وقفت عند لما دخلت أودته وكان بيبكي!!. أخذ ”يوسف“ وضعيته بعد أن ظهرت المُفكِّرة بين يديه، ثم على الأنغام الهادئة المنبعثة من تليفونه أكمل : — {الوقت أصبح بطيئاً وأنا راقد في سريري، لغاية ما سمعت صوت إبني.. دخل البيت فرحان بنجاحه في المدرسة.. أيّ أبّ سيطير من الفرحة لو جاب إبنه مجموع مثل هذا، ولكني لم أفرح.. ٩٤% درجة ممتازة، ولكن لا أراها كذلك!.. لا أرغب في سقوطه، ولكني لم أرغب في أن يحصل على كل ذلك التفوق.. تفوُّق فرحت به مراتي كثيراً، وكادت أن تطير من الفرحة.. لماذا لم تفرح هكذا عندما أخبرتها إنّي إشتريت الڤيلّا اللي كانت بتحلم بيها؟!!.. خرجت من غرفتي وسألته عن درجاته.. وربما أكون قد زوّدتها عندما قلـــــــ,,,,}. — ”سلمى“!.. ”سلمى“!.. أنتي نمتي!!. ترنحت خطواته البطيئة نحوها، وبأطراف أنامله مسح خدّها الأيمن بعد أن صعدت يمينه أولاً، إلى خصلاتها البنية وهبطت أخيراً لرقبتها.. شاحبة بجمال، كان منظرها وهي نائمة.. عيناه تنهب من رحيق وجهها؛ فدنا متردّداً بأنفه من شعرها ثم إستنشق، تماماً كما كان يفعل مع ”ريحانة“ حين تغضب منه.. أحكم الغطاء حولها جيداً؛ فغابت هي أكثر في نعاسها العميق.. بعدها، خلع الـ«أيس كاب» الكُحلي، ثم كلّل به رأسها البارد.. لا زالت جميلة ورقيقة، رغم وهنها وضعفها.. ولكن لماذا تزداد جمالاً وحُسناً، كلَّما وقعت عينيه عليها!!.. بطيئاً ورقيقاً صبغ وجنتها اليمنى بقبلة من شفتيه الزرقاوان قبل أن ينهض، ودامعاً غادر القبو بعقلٍ مضطرب وروحٍ مهلهلة.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD