الفصل العاشر

1226 Words
فتاة ستوكهولم الفصل العاشر . - ٢ - كعهدها، تَلفَّعَت ”تحية“ ملاءتها البنّية حول رأسها، بعد أن أخفت تضاريسها الدهنيّة داخل عباءتها السمراء.. وفيما بعد، تأبَّطت قفصاً خشبيّاً وهناً على وهن، تحت ذراعها الضخم وخرجت.. «الإباجيّة!!»؛ وتحديداً مسجد السيدة «نفيسة».. تأوّهت أحمالها في حافلة ساقتها قدميها إليها، وقهراً **دت فيها إلى أن وصلت هناك مرهقة.. إفترشت صندوقها على حصيرة، وُضعت على الرصيف المُقَرمَد ثم ندرت؛ توزّع سندويتشات الفول النابت على مُريدي الضريح من الفقراء.. سريعاً أنهت حملتها الخيريّة، ودَعت ربها أن يجعل ليالى إبنتها دفئاً وسلاماً عليها. لبِثَت ”تحية“ هناك ساعة أو بعض ساعة، إلى أن عزمت على التضرّع جوار الضريح؛ فحملت أوزارها المترهّلة وسارت إليه.. تضرّعاً وتوسّلاً إلى ربها دَعَت.. خوفاً وشوقاً إلى إبنتها، خَشعت طويلاً.. كان يجلس جوارها نفرٌ من البشر، عمَّمَت رأسه العِمَّة الأزهرية.. جلباب أبيض وقفطان سماوي، كان هما ملبسه؛ بالإضافة إلى غياب سالفيه طويلاً - وبلا رجعة - في أحراش اللحية الليفيّة.. فنطق الشيخ بصوتٍ خفيض : — {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. فكّت ”تحية“ أصابعها العريضة؛ التي تحيط بأحد أعمدة الضريح النحاسيّة، ثم أرهفت عينيها بالدموع.. ولأول مرّة كانت تشعر بثِقَل حملها.. مقهورة، مكلومة، مغلوبة على أمرها، كانت هي حالتها تلك اللحظة.. نطقت والدموع تفيض من عينيها، ولا تجد سِدرَة منتهى تركن إليه : — بدعي له.. بدعي له والله يا عَمّ الشيخ، بسّ تِعِبْت!.. تعبت أووي!!.. حاسّة إنّي بجري في صحراء لوحدي، وماحدّش حاسِس بيّا!!. قيل في الأثر؛ أن كل من يلبس العِمَّة الأزهرية، وتشرئِبّ أعناقه من الجلباب والقفطان، ويستطيع مسح قدميه في لحيته الطويلة!.. فهو شيخ ويُعامل كأولياء الله الصالحين : — إستغفري ربّك، وأصبري!!.. إن الله مع الصابريــــــــن.. الذين إذا أصابتهم مصيبة قاااالوا إنّا لله وإنّا إليه راچعوووون!. — ونِعمَ بالله.. بسّ مش قادرة أصبر أكتر من كده!!.. بنتي!.. بنتي وحشتني أووووي يا عَمّ الشيخ!!. — ربنا هيحفظهالك طول ما بتدعي لها.. إدعيلها بسّ وسيبيها على الله!.. إرمي حمولك عليه!!. صوته كأنه يخرج من أعماق بئر سحيق؛ بالإضافة إلى زيًه الذي دعا الطمأنية إلى قلبها، المهتوك عرضه هلعاً على إبنتها.. هائماً نهض الشيخ من جوارها، وتركها تُكمِل وصلة التعبّد إلى الضريح.. وبعد أن دَعَت ربّها مِراراً، مسحت ”تحية“ يديها في الخشب المفرود بين الأعمدة النحاسية، ثم تبرّكت بها على وجهها وعباءتها.. وبمخلّفاتها السمينة، غادرت المدفن وعادت أتوبيسيّاً إلى منزلها.. مثال حيّ على أن بوسع الفيل، التحدّث وركوب المواصلات. وصلت لبيتها العَرِم بقدمين، تسرح الدوالي فيهما بلا هوادة.. ثم خلعت غطاء السيارة، الذي رافق جسدها في رحلة الجهل. الجهل!.. منبع الغواية!!.. لم يجد «الرچيم» ما هو أقسى منه، ليبلينا به.. سريعٌ، وسهل، وأرباحه مؤكّدة.. يطمس به ال*قول أولاً، ثم تتشقّق أساريره من الضحك ثانياً.. أقسم لربّه بالعِزّة والجلالة المقدّستين؛ بأنه ليغويَنّهم أچمعين.. الغواية بالجهل!!.. الصفقة المضمونة في الرهان الأزلي. إحتمت ”تحية“ في المطبخ من الزمهرير؛ حتى سمعت صوت إ***ج باب الشقة بالمفتاح الصدأ، تتبعه دَقّة رشيقة تعرفها أذنيها جيداً.. ”كريم“ ومعه الـ”ربيع“.. لم تكن قادرة على الترحيب العامر حينها.. سريعاً قبَّلَت يديها في الجلّابية التي ترتديها؛ لتزيح بعض الصلصة جوار البقع الزيتية الباهتة، ثم جلست ولم تهنأ الأرداف بنعيم الدفء طويلاً.. دَقَّة إضافية طرقت الباب، بعد أن جلس ثلاثتهم ورابعهم ”هدى“ في صالة البيت.. كانت دَقَّة حثيثة من شخصٍ فتحوا الباب، ولم يجدوه.. شخصٌ أخلف وجوده جواباً ورقيّاً من الجوابات، التي يزين أطرافها الشريط الأحمر في أزرق المعروف؛ فإلتقطه ”كريم“ بأنامله المصفرّة من أثر تدخين صوامع الخشب الأبيض.. وبروحٍ مستضعفة في الأرض، عاد به ثانيةً إلى مرقده.. إلحاح ”تحية“، جعله يفُضّ الظرف في عجالة سريعاً.. فتحه وقرأ الورقة المحبوسة داخله، بتركيز عُشَّاق الـ«داتورة» : — «وحشتيني أووي!!.. وحشتيني أوي يا أمّي.. ووحشني ”كريم“ و”هدى“ جداً.. سَلّميلي عليهم كتييير اووي.. وإطمّنوا عليّا!!.. أنا بخير.. ”سلمى“!» نزل السَهْم عليهم بعد القراءة؛ حيث تربّعت ”تحية“ على الكنبة، وولولت طارقة بيديها على فخذيها كثيراً.. في حين آثر ”كريم“ ال**ت لفترة، حتى تحدّث ”ربيع“ بصوتٍ مضطرب : — يا جماعة، لازم نبعت الجواب ده بسرعة للظابط!!.. أكيد ممكن يساعده في إنّه يلاقيها!. تلقائياً زحفت أنامل ”كريم“ نحو عِلبة السجاير خاصّته.. طرقة خفيفة على أسفلها، حتى أفصحت العبّوة عن مكنونها التبغي، وكانت عِلبة الكبريت هي المشعل.. سريعاً سحب نفساً مُقطرناً، ثم كبته داخل قفصه الص*ري لثانية أو ربما إثنتين. حدّثنا «د*كارت» سابقاً؛ أنا أشُكّ إذن أنا موجود!.. أعتقد أنه آن الأوان لتصحيح عبارته قليلاً، وأظنّها يجب أن تُستبدَل بالأدقّ.. أنا أشُكّ إذن أنا مريض.. ماذا لو كان حديث الضابط عن أخته صحيحاً؟!.. ماذا لو كانت قد طّفَشَت من البيت فعلاً؟!.. بسرعة الصواريخ الباليستية، تدافعت التساؤلات على عقله الصامت.. وحرقاً في محصوله الخشبي، حاول الوصول لإجابة تبعُد عنه آلاف السنين الضوئية.. لماذا فعلت ذلك، وهي ليست مغصوبة على شيء؟!.. ألم يأتِ رأيها في الزواج من ”ربيع العربي“ عن إرادة حرّة؟!!.. ما هي الحرّية؟!.. متى يتمّ وصف الفعل على أنه نِتاج إرادة حرّة؟!. — قوم بينا بسرعة يا ”كريم“ نلحق الظابط في القسم!. ترجرج لُغد ”ربيع“ وهو يهمّ بالإنصراف بعد أن نطقها.. حفنة من اللِبّ السوري، تناشد روحه الآن للقزقزة.. يتحسّسها في جيبه بأطراف أصابعه كلما توتّر؛ كمن يتحسّس طبنجته ولا يض*ب بها، ولكن حَنْث العهود لم يكن من خصاله أبداً.. زمّ ”كريم“ شفتيه، وعَقَد لجام جأشه قوياً وإقترح : — طب!.. طب ما تستنّى شويّة!!. يمكـــــــ,,, . — هنستنّى إيييييه؟!.. لازم الظابط يشوف الجواب ده حالاً!!.. صدّقني، أيّ تأخير أكيد مش في مصلحتها!. على طريقة ”برايل“ سار ”كريم“ بقدمين، تتخبّطان كثيراً نحو باب الشقة، وفي خلفيّته زميلٌ يدفعه دفعاً إلى الأمام.. نحو القسم، إتجها الثنائي وتركا ”تحية“، تقضي ساعاتها نواحاً ونحيباً.. المبنى الطوبي!!.. تسلّل الأخ في خلفيّة ”ربيع“، وطلبا الإذن لمقابلة ”عزمي“، وأعقاب السجائر تتساقط من يده؛ كتساقط الثلوج في يناير الـ«إسكيمو».. رويداً طرق العسكري باب المكتب : — مساء الخير يافندم.. أنا ”ربــيـــــــــع“!.. ”ربيع“ خطيب ”سلمى“ اللي إتخطـــــــ,,,, . — أه.. أه.. أهلاً وسهلاً.. خير!.. في حاجة جديدة حصلت!!. إستويا كلٌ منهما على عرشه الخشبي، الكائن أمام مكتب ”عزمي“ بيه.. بعدها، نطق ”ربيع“ وقد بلغت الروح التراقي بنقدٍ مستتر : — والله إحنا اللي المفروض كنّا نسأل سعادتك عن الجديد!!. نطقها زافراً كربونه المُؤ**َد بعد أن رسم «٨٨» بحاجبيه، ثم أكمل مشيراً لما في جيب صديقه المُ**َت : — إحنا لقينا الجواب ده حضرتك قدّام باب الشقة من شويّة!!.. فقولنا نيجي ونجيبه لحضرتك، يمكن يساعدكم في إنّكم تلاقوها!!. ضيّق ”عزمي“ عينيه؛ وهو يطالع المحتوى الورقي لفترة، حاول فيها فكّ شيفرة «داڤنشي» الصارخة أمامه.. وفي هيبة أبطال الأساطير، أشاح بوجهه بعد أن ستر الورقة جانباً داخل أحد الملفّات، المصطفّة أمامه على سطح مكتبه : — تمام.. زيّ ما توقّعت.. أختك طَفَشِت يا عَمّ ”كريم“، مش مخطوفة!!. صرخ ”ربيع“ بابتسامة سخرية صفراء، متنقّلاً بنظراته بين الـ”كريم“ والـ”عقرب“ قبل أن تزأر حنجرته بالنباح : — تطفش إيه سعادتك؟!!.. بال*قل كده، إيه اللي هيخلّيها تبعت جواب، تكتب فيه وحشتوني أووي وهي طفشانة؟!!.. بتتسلّى مثلاً!!.. مش منطقية خالص حتى!. لعبة الشطرنج، لم تَطُل كثيراً بينهما.. كان ”عزمي“ يودّ إغلاق ملفّ القضية نهائياً، لوجود ما هو أهمّ.. زوجته أولاً، وصدى سياسي، لشباب ثوري جثم فوق ص*ره مؤخراً.. قَطَّب جبينه وبدا مثل «Client Eastwood»، قبل أن تفوح شفتيه برحيق عقله المأفون : — على العموم، إحنا هنبعت الورقة دي للمعمل الجنائي الأوّل؛ وهو هيقول لنا إذا كان خطّها ولّا لأ!!.. ويشوف طبعاً، إذا كان في حَدّ ضغط عليها، عشان تكتب الجواب ده؛ ولّا كاتباه بمزاجها!!!.. عالعموم ماتقلقوش!.. شرّفتوا!!.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD