في مكتب السيد ليون ،أصوات مزعجة ،وفوضى خارج الباب ،ما جعله يقول بتذمر :
"رباه ! ... ما كل تلك الجلبة ؟"
لكن الباب فتح بعنف ،ودخلت سايانا ،وعلامات الضيق ،والغضب ،والانزعاج ،وهي تقول بعصبية :
- سوف أدخل ،هذا ليس من شأنكم .
وهم الحراس بإبعادها ،لكن ليون رفع يده إشارة منهم بأن يتوقفوا ،وقال بهدوء :
- لا بأس ،دعوها وشأنها .
فانحنى الحراس الثلاثة ، وهموا بالذهاب ،بينما نظرت سايانا إليه بذهول ،وهي ترى وجهه لأول مرة ،وبذلك السحر الخلاب الذي ياسر إليه القلب ،فقال ،تعلو وجهه ابتسامة ماكرة :
- ما الأمر؟ هل وقعتي في حبي ؟
فهزت رأسها ،وقالت ببرود :
- ليس كذلك ،إنما لم أرك دون قناع سابقاً .
- أها ،وما الذي جعلَ سموكِ يأتي إلي شخصياً ؟
- أريد استوضاح بعض الأمور .
- مني أنا ؟!
قالها بانفعال مندهش ،فأجابت بثبات :
- وهل تريد مني الانسحاب الآن ،والبحث عن شخص آخر ؟
- المعذرة صاحبة السمو ،لم أقصد ذلك ...
قاطعته قائلة :
- لا يهم ،ابدأ فقط بتوضيح الأمر .
- ما الذي تعنينه ؟
- فسر كل ما يجري أمامي ،منذ تم اختطافي حتى هذه اللحظة .
ابتسم ابتسامة خافتة ،وأخذ ينظر في عينيها الحازمتين ،المتلألأتين بإصرار ،وقال بهدوء :
- هل تعلم جلالتك ما الذي تقدم عليه ؟
- وكيف لي أن أعلم ،وأنا لا أعلم .
- ها ! تبدين مختلفة عن أول مرة قابلتكِ فيها ... هل أصبتِ مجدداً ؟
- هلا توقفت عن اضاعة الوقت .
فصمت لبرهة ،مبتسماً ،وهو ينظر إلى تلك العينين اللتان تلمعان بإصرار حازم ،وثبات مخيف ،ثم أشاح نظره إلى النافذة ،وقال موضحاً :
- هذه هي مملكة الحيرة ،لا تسألينني لمَ سميت كذلك ،فتلك قصة أخرى ،هي مختلفة عن بعد البشر ،فنحن هنا لسنا بشراً ،وإنما مخلوقات بهيئة بشر تمتلك قوة خارقة ،قوة لا تضاهيها قوة ،لنسيطر على العالم السفلي ،ألا وهو عالم البشر ،كما أنها قوة لا يمكن للإناث من جنسنا احتماله ،فإما يمتن وإما يعشن كبشريات ،ولكنهن لم يستطعن العيش معنا في مكان واحد ،لذلك ترين أن القصر يخلو من النساء ،فجميعهن يعشن في مكان آخر من المملكة ،منعزل تماماً .
- لمَ ؟
- لأنه وكما أخبركِ سيان ،لا يمكن لأحد مغادرة هذا المكان .
- لكنكم تستطيعون ذلك .
- أجل ،لأننا نملك القوة التي تمكننا من تحمل ضغط الهواء بين البعدين ،ذلك الضغط الذي لا يحتمله البشر إطلاقاً .
- اذاً كيف دخلت أنا ؟
- وهنا يكمن ما سأسرده الآن .
نهض ،وجلس على طرف المكتب ،وهو يقول :
- في قديم الزمان ،كانت المملكة تنعم بالسلام والهدوء ،وذلك بسبب كمال قوة الفارس ،لكن مع مرور الأجيال ،ازدادت قوته ،ولم يعد بمقدور شخص واحد أن يمتلكها ،فأصبحت تقسم بينه وبين شخص آخر ،وهي "الموازِنة" ،فتاة نادرة بين جنسنا ،تحمل قوةً تضاهي قوة الفارس وتكملها ،وهي المسؤولة عن توازن المكان المحيط بها ،كان الأمر سهلاً ،فما إن يولد الفارس ،حتى تولد الموازِنة من بين نساءنا ،فيقام زواجهما ،ويكمل كل منهما الآخر ،وينتهي الأمر ،لكن أجدادنا كرهوها ،ولم يتقبلوا وجودها ،فأرسلوها نحو بعد البشر ،لتحل علينا الكارثة ،ويفقد الفارس قدرة السيطرة على قوته ،ويصبح العالم في فوضى عارمة ،ولم نعد نستطيع التوافق فيما بيننا ،ليصبح الحال بنا ما نحن عليه الآن . ولنجعل عالمنا يعود إلى استقراره ،ولنستطيع العيش مع نساءنا ،كان علينا أن تستعيد الموازِنة ،لتعيد التوازن بيننا ،وطبعاً لم يكن البحث عنها أمراً سهلاً ،فهي انخرطت في عالم البشر ،ولم نعد نستطيع استشعار قوتها ،ولا حتى الاحساس بوجودها ،لذا قررنا البحث عنها ،لنزوجها الفارس ،وتعيد السلام إلى بلادنا .
جرى الصمت لبرهة ،حتى سألت :
- وما وظيفة الفارس ذا ؟ وما الاختلاف بينه وبين السيد الأعلى ؟
ابتسم بإعجاب ،وقال :
- لم أتوقع أن تميزي ،فالمعظم لا يستطيع التفرقة بينهما ،لكن السيد الأعلى هو الحاكم ،الذي يدير المكان ،فوقه مرتبة يأتي الفارس ،الذي يحمي المملكة من الداخل والخارج ،وبيده السلطة لإعدام الخونة ،والمتعسفين ،والذين يستخدمون قوتهم بشكل غير سليم ،وكلاهما يملكان قوة عظيمة .
- اذا هو لا يحتاج الموازٍنة .
- هذا ما فكر به أجدادنا ،لكن قوته خارج السيطرة ،وليس من السهل أن يحملها شخص واحد ،لذلك قسمت إلى قسمين مكملين .
أخذت تفكر قليلاً ،ثم قالت :
- وما الذي جعلكم تعتقدون أنني هي ؟
- هممم ! ... ربما لأننا لاحظنا التوازن المحيط في القرية التي كنتِ تعيشين فيها ،لكن الأمر لا يزال صعباً ،فقد فشلنا في التنبؤ بمكانك أكثر من مرة .
- اذا ،كم عدد الضحايا اللواتي متن بسبب ذلك .
تردد ،لم يستطع أن يخبرها بشيء سري كهذا ،فالتفت نحو النافذة ،وقال :
- أعتقد أنني أخبرتكِ ما يكفي ،لذا رجاء دعيني أنجز عملي .
نظرت إليه بتشكك ،هي لم ترد أن تصر عليه ،فهو ساعدها كثيراً ،والآن أصبحت على الأقل تفهم أي مكانٍ هذا ،فهمت بالمغادرة .
***