فتحت سايانا عيناها ،فالتفت حولها الوصيفات الثلاثة بلهفة كبيرة .
~ سيدتي ..
~ سيدتي ..
~ حمداً لله على سلامتكِ سيدتي ...
لكنها لم تكن مستيقظة تماماً ؛لتعرف ما يجري حولها ،حتى وضحت الصورة أمامها ؛ليتبين أنها لا تزال في غرفتها الفارهة ،فنهضت بسرعة ،وهي مذعورة ،لتشعر بدموع عينيها تتسلل من مقلتيها ،فتخبئ رأسها بين ذراعيها بحزن .
همت نحوها الوصيفات بذعر ،وقلق :
~ سيدتي ... هل أنتِ بخير ؟
فرفعت رأسها ،وقالت :
- كم مضى من الوقت ؟
- ثلاثة أيام .
- آه ،لذلك أنا جائعة .
هنا نظرن نحو بعضهن بدهشة ،وهممن مسرعات خارج مضجعها ،ليحضرن الاطباق المجهزة أمامها ،وهن يهتفن لها :
- هيا سيدتي ،تناولي طعامك ،فنحن انتظرنا نهوض جلالتك لتناول الطعام .
لكنها عادت نحو فراشها ،وغطت رأسها بالغطاء ،وهي تقول :
- لا أملك الشهية .. لا أريد الطعام .
فحدقن في بعضهن بحزن ،وأسى .بينما قالت إحداهن :
- سيدتي ،لكنها ثلاثة أيام ،لقد أصبحتي هزيلة ،والسيد لا يريد رؤية جلالتك بذلك الضعف .
لكنها لم تجب ،فهمت الوصيفات بالانسحاب .
وأخذن يتهامسن فيما بينهم :
"ترى ماذا حصل في الاجتماع ؟"
"لا أعلم ،لكن يبدو أنه شيء لا يجعل المرء مسروراً ... أنظري إليها ،إنها في الحد الأقصى من التعاسة"
"لكن ،ماذا علينا أن نفعل ،لا يمكننا أن نتركها على هذه الحال ،سوف نعاقب بشدة "
"هل نرسل في طلب الحارس ؟ .. ربما يستطيع أن يحل المشكلة "
"هل أنتِ مجنونة ،لا أحد يمكن أن يفهمها سوانا ،لا يجب أن يتدخل أي من الذكور"
- ما الذي تتهامسن به ؟
خرج الصوت من الباب ،فاعتدلن في وقفتهن بفزع ،وقالت احداهن بارتباك :
- آه .. لا ، لا ، لا ، لا شيء سيدي ،حقاً .
- كيف هي السيدة الآن ،ألم تستيقظ بعد !
هنا نظرن في وجوه بعضهن بقلق ،فعاد يسأل :
- ماذا ؟ ألم تستيقظ بعد ؟
- امممم ،ليس وكأنها لم تستيقظ ،إنما ...
لكنه قاطعها ،وقال :
- إذا ماذا تنتظرن ،إذهبن وجهزنها حالاً ،فالسيد يريد مقابلتها خلال ساعة .
فهتفن :
~ مـــــــــــــــاذا ؟!
وهنا هرعن نحوها ،وأزحن الغطاء عنها ،وسحبنها بسرعة ،حتى لا تملك الوقت للاندهاش من موقفهن المتهور ،وأصبحت الغرفة في حالة فوضى وهن يهرعنها من كل الاتجاهات ،بالأقمشة ،والأثواب ،وزينة الشعر ،ومساحيق التجميل ،والعطور .
لتفاجئ بقذفها في حوض الماء المليء بأوراق الزهور ،وبعد بضع دقائق ،كانت تنظر إلى شخص آخر في تلك المرآة ،شخص مختلف عنها تماماً .
طرق الباب أخيرا ،فاختبأن الوصيفات خلف السيدة ،ودفعنها نحو الأمام ،لتستقبل حارسها المقنع ،فينحني ،وهو يقول :
- حان الوقت .
ويهم بفتح الباب ،لتنظر نحو مكان اختباء وصيفاتها بدهشة ،فيشرن لها بالتقدم ،لتعود وتنظر نحو الباب المفتوح أمامها بخوف شديد .
تقدمت بخطوات بطيئة ،واحدة تلو الآخرى ،وكأنها ت**ب بعض الوقت لنفسها ،تبعها كارول في الحال ،وهي تشعر مع كل خطوة للأمام باقتراب نهايتها .
ومع مرور الوقت ،أصبحت تتبع حارسها ؛لعدم معرفتها بالقصر بعد ،ليدخلها دهليزاً مظلماً ،يهيأ لكَ أنك تعبر طريقاً من الأشباح ،ليفتح باباً بعيداً كل البعد عن القصر ،ويدخل النور،إلى قاعةٍ مليئة بالأثاث الفاخر والمزخرف بالذهب ،والحيطان المرصعة بالجواهر ،والزهور المتلألئة في كل مكان ،لتبهر بتلك اللوحة البديعة من الفخامة والبذخ .
صعدا سلماً رخامياً ،يحيطه زخرفة بديعة من الذهب المتلألئ ،والأحجار الكريمة النفيسة ،من زمرد ولؤلؤ ،والماس ،وأصداف بحرية نادرة .
ورغم طوله ،إلى أنها في تلك اللحظة شعرت بالهدوء والسكينة ،لتملك في نفسها الشجاعة مع كل خطوة لأعلى ،حتى أفسحت مساحة السلم الصغيرة لأرض معشوشبة من الخضار الصافي ،الذي يفضح النضارة ،لتزينها صفحة مزركشة من الأزهار النادرة ،والورد التي تأسر النفس لها .
وقفا عند باب ضخم ،مزخرف بالذهب ،تزينه فراشات محنطة ،بأبهى الألوان ،فتملكتها الدهشة ،حتى أغمضت عينيها لذلك النور الباهر ،الذي يخرج من الباب شيئاً فشيئاً .
أخيراً ظهرت غرفة ،لا تقل جمالاً عن سابقتها ،مذهبة ،براقة ،لامعة ،وتزهر الأزهار فيها بنضارة فائقة ،ومرتبةٌ في تناسق بديع .
انحنى الحارس كارول ،أمام رجل مقنع آخر ،بدى أنه أحد مساعديه ،وهو يقول بأدب :
- لقد أحضرت جلالتها كما أمر صاحب السمو .
- أحسنت ! لكنكَ تأخرت .
ثم وجه نظره نحوها ،وقال :
- اتبعيني يا صاحبة السمو .
استدار ،لتتبعه باستسلام ،وانقياد تام ،ونظرت نظرة أخيرة نحو حارسها الذي بقي واقفاً عند الباب ، وأخذت تبلع ريقها بارتباك ،حتى قال :
- من هنا صاحبة السمو .
وكشف عن ستارة من الستان الشفاف ،بلون بارد زاهي ،لتدخل من خلالها ،ويقابلها هو ،يقابلها بظهره ،وهو يجلس على كرسيه المذهب قبالة الطاولة الدائرية الصغيرة .
لم تشعر كما شعرت سابقاً ،باندفاع طاقته الهائلة نحوها ،لكنها لاحظت أنه يرتدي قناعاً مذهباً هذه المرة ،ليبدو أكثر أناقةً وجمالاً .
ليس وكأنها لم تشعر بشيء ،لا تزال طاقة طفيفة مرعبة ،تجعلها متسمرة مكانها ، تنظر إليه بترقب ووجل ،دون أن تساعدها أي من حواسها ،وكأنه أحكم السيطرة عليها تماماً .
خرج صوته معاتباً بهدوء :
- لقد تأخرتِ !
فاندفع الدم في جسدها كالبركان ،وما زادها ذعراً ،حركته وهو يعدل كرسيه ؛ليقابلها وجهاً لوجه ،بذلك الوجه المقنع .
- سمعتُ أنكِ نمتِ لثلاثة أيام ،هل أنتِ بخير ؟
ارتبكت أكثر ،رغم رغبتها بالصراخ في وجهه الآن ،لكنها لم تملك الجرأة ،حتى خرج صوتها بشيء من الانزعاج :
- لا يحق لكَ سؤالي عن ذلك .
شعرت لوهلة أنه لم يكن صوتها ،هي لم تكن في الوضع الذي يسمح لها أن تتكلم ،لكن من أين أتتها تلك الجرأة ؛لتخاطب شخصاً لا تملك فرصة أمامه بتلك الطريقة .
بدى أن المارد الأزرق انزعج ،وشعر بالغضب ،ليقول :
- سيـ ...
لكنه قطعه بإشارة منه ،وهم بالنهوض ،لتظهر على وجهها علامات الخوف ،وشعرت بقدمها تعود للوراء ،ومع ذلك لم تتحرك ساكناً ،ليقف أمامها ،وتشعر بهالته المخيفة خدرت جسدها - أو شيئاً منها حتى - ليمسك ذقنها ،ويرفع رأسها ،لتواجهه بعينيها ،وهو يقول بذلك الهدوء :
- يا الهي ،أنتِ تثيرين إعجابي بتلك الجرأة النادرة .
فخرج صوتها بحزم :
- أبعد يد*ك القذرتين عن وجهي .
جرى بعض الصمت ،وهي تشعر بشيء من الانتصار ،حين أفلت وجهها ،وأخذ يقبض ويبسط يده بجانبه متمالكاً نفسه ،فهتف أليس :
~ سيدي ،لا !
وقبل أن يكمل ،أتتها صفعته ،لتصطدم بالحائط البعيدة عنها بضعة أمتار ،وتشقها ،لتسقط على الأرض ،ونصف وجهها مسلوخاً ،يقطر دماً ،وأخذت تسعل ،وتبصق الدماء ،وهي لا تشعر بنصف وجهها ،من شدة الألم .
قال بنبرة حازمة ،بينما يقف مكانه ،دون أن ينظر إليها :
- آسف ،ليس وكأنني أردت ذلك ،لكن هناك حدود لمخاطبتي .
لكن سعالها من أجابه ،ليقترب منها ،وهي تخفي وجهها بيدها ،وينحني نحوها ،ويضع يده قريباً من موقع الإصابة ،ليخرج منها ضوء دافئ ،جعلها تشعر بالراحة ،وأن وجهها يعود إليها ،ليكتسي بالجلد مجدداً ،وقال بهدوء :
- فأنا لا أريد امرأةً مشوهة .
وما إن اختفت الجروح ،وعاد وجهها لجماله ونضارته ،وشفيت تماماً كالسحر ،حتى أمسكه بلطف ،ووجهَهُ ليواجهه ،فيلمح دمعة من عينها السليمة مسبقاً ،تحاول التسلل بكل جهد ،فمسحها بأنملته ،وقال بحنان :
- لا تبكي !
لكن عيناها تلألأت بالدموع ،وأخذت بؤرتاها بالارتجاف ،فسحبها نحوه بلطف وحنان ،ليجعل كتفه ملاذاً ؛تخفي وجهها فيه ،وتجهش ببكاء صامت ،ويمسح على رأسها بمودة ،بينما أمسكت يداها قميصه من الخلف بعفوية ،وأخذت تزيد الضغط عليه ،وكأنها لا تريد منه أن يرحل .
نظر أليس في ماركوس بدهشة ،بينما بدا الأخير منزعجاً ،ليشيح وجهه للاتجاه الآخر بغضب وضيق .
مضت بضع دقائق ،شعر بعدها بيديها وهما تفلتان قميصه ببطئ ،ليدرك أنها غطت في النوم من شدة البكاء ،فحملها ،ليمضي بها إلى الداخل ،ويقف في وجهه ماركوس ممانعاً :
- ما الذي تفكر فيه ،لا يمكنكَ أن تبقيها هنا .
-هل تريد مني الذهاب إلى الخارج ،وأنا أحملها ؟
- يمكننا أن ندع حارسها ينقـ ... لُـ .. ها ..
وصمت ،وهو ينظر نحو سيده ،الذي –ودون حتى رؤية ملامحه- بدا غاضباً ،فانسحب ،ليترك له الطريق فارغاً ،ويضعها على فراشه بهدوء ،ويغطيها بلطف ،ويتأمل وجهها النائم ببراءة في صمت وسكون .
- سيدي ! ...
أتى صوت أليس :
- عليكَ الخروج الآن .
فهم بالخروج من مضجعه ،ليرى ماركوس وإمارات عدم الرضى ظاهرةُ على وجهه .
***