جميع من له علاقة بالقصر ،مجتمع في القاعة الكبيرة ،وكتلك الصورة ،الجميع يرتدي الأقنعة ذاتها ،ويحيطون المكان من الجهتين ،تعتليهم منصة ،يقف عليها ثلاثة رجال مقنعون أيضاً .
فُتح الباب الضخم للقاعة ،ودخلت سايانا ،بذلك الثوب الجميل ،يغطي وجهها –طرحة- مزركشة ،تخفي شيئاً من ملاحتها ،وخلفها يتبعها حارسها كارول ،بوجهه المقنع .
وقفت أمام المنصة ،وجرى الصمت لبعض الوقت ،حتى تكلم الرجل الذي يتوسط الرجلين على المنصة :
- يشرفنا حضورك صاحبة الجلالة ،حضورك لاجتماعنا المتواضع ،لنتناقش فيه عما يدور في ذهنك من تساؤلات ،ولنستوضح الأمر ،فالقدر قد اختارك لنا عروس سيدنا المبجل "الفارس" ،ومنقذة مملكة الحيرة ،لتكونِ جوهرة من جواهر الجنان في هذه الأرض المقدسة .
- لم أفهم !
فبدا مصدوماً ،في حين بدأت الهمسات والوشوشات بالظهور .
فقال مبرراً :
- سمعتُ أن جلالتكِ تعرضت لإصابة ،ع**ت شخصيتها ،أليس كذلك ؟
هنا انحنت الهمسات لاتجاه آخر ،حين أردف :
- كما أعتقد أن جلالتكِ لا تزال متعبة بعد ما قضته من عناء الغموض ،لكن رغم ذلك ،جلالتكِ حضرت هذا الاجتماع ،لذا أعتقد أنني وبخبرتي المتواضعة ،أتفهم الأمر ،هل ما أقوله صحيح صاحبة السمو ؟
بدا أنه ينقذها من الموقف الذي وضعت نفسها فيه ،لذلك لم تتمالك نفسها من الدهشة ،وأخذت بعض الوقت ؛لتفكر ،ثم قالت بهدوء :
- إذاً أطلب من سيادتك توضيحاً .
بدت غير مرتاحة لمَ أخرجه ثغرها ،لكنها وجدت نفسها تعود للطريق السليم ،حين خاطبها بهدوء :
- صاحبة السمو ... جلالتكِ يمكنها أن تأمر ،وليس أن تطلب .
ربما جعلها تلتمس مدى الفجوة التي بينها وبينهم ،وذلك يشعرها بالاحراج ،فبقيت صامتة ،وعندما لاحظ ترددها ،قال بالهدوء ذاته :
- صاحبة الجلالة ،كل ما أود من سموكِ معرفتَه ،هو أنكِ ذات نفوذ عالي المستوى ،وتواضع سيادتك ليس موجوداً هنا ،لكن جلالتكِ ستفهم مع مرور الوقت .
قطع الاجتماع ،صوت صرير الباب الضخم ،حاملا معه الضباب ،ليعود ذلك الشعور في جسدها ،ولكنها لم تفقد الوعي كالمرة السابقة ،ربما لأن تدفق الطاقة أصبح أقل عن ذي قبل ،لكن أغلب الأشخاص حولها ،بدؤوا بالسقوط كأعواد الكبريت المرتبة ،فأصبحت تشعر بهالة من الرهبة والهيبة ،وهي تقول في نفسها :
"ترى أي شخصٍ يملك كل هذا الحضور ؟"
حين تمت الإجابة على سؤالها في الحال ،عندما ظهر ظل الشخص ذاته من خلال الضباب ،لكن مع وجود شخصين برفقته .
أخذ يقترب الظل ويقترب ،حتى ظهرت معالم ملابسه الأميرية الفاخرة ،والتي تزيده رجولية وبسالة ،بتلك البنية القوية والمثيرة للاعجاب ،وشعره المصفف بطريقة فريدة ،دلت على ما يخفيه القناع من جمال ،لتجعل المرء متلهفاً ليخلع ذلك الرجل قناعه ،ويظهر وسامته الخلابة ،ليوحي كل ذلك بمدى هيبة وجلال لقب "الفارس" .
وقفت سايانا كالتمثال ،وهي تحدق بذلك الحلم أمامها ،وشعرت بأنها ستفقد وعيها مجدداً ،لكنها لا تستطيع سوا الشعور بالاعياء ،والصداع .
قال أحدهم على يمينه :
- سيد جوزيف مارجل ، سيد ماكاروف داف ،سيد هوفر بارمر ... هل تعلمان عاقبة ما تقومون به ؟
بدا الرجل متردداً ،حين تقدم أحدهم من على المنصة ،وقال ،وهو ينحني معتذراً :
- أعتذر من سمو جلالته ،لكننا أردنا ألا نقلق جلالته بذلك .
- هل تريدني أن أخبرك بخطيئتك ماكاروف ؟ ألا تخجل من نفسك ؟!
- فائق اعتذاري ...
فقاطعه بغضب :
~ اخرس !
تسمرت سايانا مكانها ،رغم تسمرها سابقاً ،لكن ذلك الجو المشحون والمتوتر ،جعلها في الحالة القصوى من الخوف والارتباك .
فقال الرجل على يسار الفارس ببرود :
- أيها المارد الأزرق ،ليس من الجيد إظهار جانبك العكر أمام صاحبا الجلالة .
فارتبك ،بينما فاجأته ،إشارة الفارس له بأن يتوقف ،ليخرج صوته البخوري ،العطر :
- لا بأس ،دعه يغضب عني .
فقط لو يعلم ما ،وكم ،حرك صوته ذاك ،بكلماته الموجزة من كيانها ،ربما الكلمات وحدها لا تصف مقدار الدم المتدفق في وجهها ،وسرعة الدورة الدموية في عروقها ،ومقدار العرق الذي تصبه من أنحاء جسدها ،ومقدار الصاعقة التي عقدت كل حواسها ،من شم ،وسمع ،ونطق ،حتى وصل البصر ،ليجعل كل شيء مشوش ،لكنه يمنعها من فقدان الوعي ،وكأنه –ذلك الشعور- يريد منها أن ترى معاناة حضور الفارس أمامها .
ثم حركت جفونها بوجل ،توجه وجهه المقنع نحوها ،ليتبين أنه ينظر إليها ،وقال بنبرته الرزينة مدعياً الغضب ؛رغم عدم معرفة ذاك المسك لنبرة الغضب :
- وأنتِ ! ... سيكون حسابكِ شيئاً آخر .
لكنها لم تحرك ساكناً ،وبقيت تحدق به بتلك النظرات المرعوبة ،ليوقظها وقع أقدامه وهو يقترب .
حتى لتلك الأقدام نغمات موسيقية مميزة وهي تسير بذلك الاتجاه ،في ذلك الوضع ،وفي تلك الحالة النفسية لها ،لتجعلها تفقد كل ما تستطيع الشعور به ،وهي تنظر ولا تنظر لذلك الكائن ،وصوته وهالته تقترب إليها أكثر وأكثر .
أمسك ذقنها ،وكأنه لا يعير –الطرحة- أي اهتمام ،وهي تبدو مستسلمة ،كالجثة الهامدة ،كالدمية الفارغة ،مصمِمة على تلك النظرات التي تعبر عن شخص يرى الموت أمام ناظريه ،ليرفع رأسها ،وتتواجه نظراتهما مواجهة المعركة ،ويهمس لها بعذوبة :
- فليس من المنطق أن أسامح ظهوركِ أمام رجالي بتلك الطريقة .
ليتها تسقط ،ليتها تفقد الوعي ،ليتها تأخذ استراحة من مشاعرها المتراكضة بعشوائية كالعاصفة لخمس دقائق فقط ،في تلك اللحظة تمنت الموت ،رغم أن أمنيتها بسيطة ومتواضعة ،أمام الكم الهائل من الأشياء التي تمر بها الآن ،لكن عدم القدرة على شيء ما يجعلك تختار أبسط الأمور بعشوائية ،وكأن ذلك ما يقصده بمعاقبتها به ،لكن ما دام هذا ليس عقاباً ،وهو الجحيم بعينه ،فما هو عقابها ؟!
بدا الجميع مرتبكاً ،والشحنات الموجبة والسالبة تتضارب فيما بينهما ،لتولد برقاً ورعداً من حالات عدم الاستقرار ،ليأتي صوت هوفر الضعيف :
- فَـ ... فَـ .. فَخا .. مَتك ... ك .. صا ... حبة ... الـ... جَـ ... لالة ... لا ... يَـ ... لومـ ... سَـ ... سَـ .. عا ... دتكَ ... كَ ... أَ ... أَ أَ ... أر ... جوك ...
حررها ،وتقدم نحو ثلاثتهم ،الذين بدوا في أقصى حالات الرعب ،وأخذوا بالتراجع ،فقال هوفر متراجعاً :
- أَ .. أ ... أعـ .. ني ... سيدي ... أنّ ... هُ ...
قاطعه ببرود :
- أي نوعٍ من الأوامر هذه !
- صـ .. صد ... صدقـ ... ني ... ليـ ... س .... كـ ... كما ... يـ ... ظ ... ن ..
فقاطعه الرجل الذي كان على يمين الفارس :
- لا تهدر وقت جلاته الثمين ،تكلم بطريقة لبقة وواضحة .
- أ ... أ ... أعتـ ...
فأوقفه بإشارة منه ،وكأنه يقول :
"لقد فهمت !"
فوجه وجهه المقنع نحو مساعده ،ليقول الأخير :
- حسناً ،من هنا يلغى هذا الاجتماع .
ثم خاطب التمثال الممتثل بجسده ،لا بروحه :
- ولتعد صاحبة السمو إلى غرفتها .
وكأن عبارته تلك كانت القشة التي قسمت ظهر الفرس ،فانهارت على الأرض كقنبلة وانفجرت .
***