سحبت المرأة طفلها من ذراعه وضمته إلى ص*رها :
- " ( سمير ) ! "
- " هه ؟ "
- " سوف نبيع بيتنا ونرحل إلى المدينة ، هل تعرف ؟ "
- " أعرف . "
- " من أين تعرف ؟ "
- " بل سمعت ، عندما كنت تتكلمين ليلاً مع أبي في الأعلى ! "
أدركت المرأة أن الطفل سمعهما طوال الليل ، فأردفت :
- " وسنشتري لك دراجة بثلاث عجلات . "
نسي الطفل كل شيء وسأل ببهجة :
- " مثل دراجة ( مسعود ) ؟ "
- " مثل دراجة ( مسعود ) . "
- " لا أريدها من نوع دراجة ( علي ) . "
- " طيب . "
- " لكن يجب أن تكون زرقاء . "
- " كما تريد أنت ! "
- " هل سيحسدني بقية الأطفال على دراجتي ذات الثلاث عجلات ؟ "
- " طبعاً سيحسدونك ! "
- " وإذا عثروا على أبي في المدينة ؟ "
- " لا يمكنهم العثور عليه . "
- " وكيف نعرف ؟ "
- " المدينة كبيرة . "
- " هل هي عملاقة إلأى هذا الحد ؟ "
- " عملاقة جداً . "
- " ألا يعرف فيها أحد أحداً ؟ "
- " لا يعرف . "
- " متى سنذهب ؟ "
- " عندما نبيع بيتنا . "
- " لمن سنبيعه ؟ "
- " لمن يشتريه . "
- " فلنبعه غداً فوراً ! "
ضحكت المرأة وقالت :
- " لكنه لا يباع فوراً . "
- " متى يباع إذن ؟ "
- " عندما يشاء الله . "
جاء صوت ( حبيب ) من الأعلى :
- " العافية ! "
نظر ( سمير ) إلى أبيه بسرور .
بينما قالت ( سارا ) :
- " لمَ لا تأتي ؟ "
نزل ( حبيب ) ببطء ، وتربع على الفراش ، فراش المرأة ، وقال وهو يشم بنهم علبة السجائر التي في يده :
- " ليلاً ، في حلمي . . . خيراً إن شاء الله . . . "
رددت ( سارا ) ، و( سمير ) :
- " خيراً إن شاء الله . "
- " رحلنا إلى المدينة ! "
التفت ( سمير ) إلى أمه بانفعال :
- " أمي ! "
- " حبيبي ؟ "
- " هل تتحقق الأحلام ؟ "
- " أغلبها يتحقق . "
صفق ببهجة :
- " هييييه . . . سوف نرحل ! لو يباع هذا البيت فوراً ! "
احتضن ( حبيب ) ابنه وقال :
- " سوف يباع ، البيت سوف يباع ، وفي أحد الأيام نستقل القطار توووت . .تشو تشو . . . .تش تش . . . .توووووووت ! "
لم يكن الطفل قد رأى القطار لكنه سمع عنه كثيراً ، مع ذلك سأل :
- " ما هو القطار بابا ؟ "
شرح ( حبيب ) بجدية :
- " القطار ، عدة عربات متصلة ببعضها ، تسير على سكتين حديديتين متوازيتين ، ويكون طويلاً . . . "
- " كيف يسير ؟ "
- " باه تشي ، باه تشي ، باه تشي . . . "
- " ألا يصفِّر ؟ "
- " يصفِّر . "
- " كيف ؟ "
- " تووووووووووت توت توت توت ! "
- " هل يزحف مثل ثعبان أ**د ؟ "
- " يزحف مثل ثعبان أ**د خرافي . "
- " ألا يلحقه شيء ؟ "
- " لا يلحقه شيء . "
- " ولا الشاحنة ؟ "
- " ولا الشاحنة . "
- " الجيب ؟ "
- " ولا الجيب . "
- " السيارة الصغيرة ؟ "
- " ولا السيارة الصغيرة . "
- " الطائرة ؟ "
- " ولا الطائرة ، لكن مهلاً ، الطائرة تلحقه ، بل وتسبقه إذا أرادت . "
- " الرصاصة ؟ "
- " والرصاصة تلحقه . "
- " بابا ! "
- " هممم . "
- " هل يقف القطار عندما يصل إلى المدينة ؟ "
- " يقف . "
- " هل القطار ذو روح فيقف ؟ "
- " ليس ذا روح ، لا يقف من تلقائه ، هم يوقفونه . "
- " من يوقفه ؟ "
- " سائق القاطرة التي تجر القطار . "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
تركتهما ( سارا ) و نهضت ، فأشعلت بابور الجاز ووضعت إبريق الشاي فوقه ، ثم فتحت خرقة المائدة ، ووضعت عليها خشبة العجين التي يستعملونها كطاولة ، وقسَّمت الخبز :
- " ما أجمل ما اشتريته البارحة من باذنجان وطماطم وفلفل ، ولحمة مفرومة ، كنت سأطبخ لكم محشي باذنجان ، وفيما كنت أتعارك في الغابة تبعثرت كلها . "
- " تشترين غيرها اليوم .
- " بإذن الله سأشتري حاجيات المحشي ، كما سأقابل المختار لأبحث معه مسألة بيع هذا البيت ، فقد أصبت بكراهية شديد من هذه الأنحاء . "
قال ( سمير ) :
- " وأنا أيضاً . "
ضحك ( حبيب ) و( سارا ) .
شربوا الشاي خلال ساعة ، ثم تركت ( سارا ) الأب والابن وحيدين في البيت ونزلت إلى الطريق .
كانت قد صارت بطلة في البلدة في خلال يوم واحد ، وصار كل من يصادفها في الطريق من الأصحاب والأصدقاء والمعارف ، بل حتى ممن لا يعرفونها ، يقولون لها : " حمداً لله على السلامة " ، وكانوا يضيفون بعد أن يلتفتوا يمنة ويسرة :
- " سلمت يداكِ ، ما أحسن ما فعلتِ يا سيدة ( سارا ) ، فليفهم أنه ما كل الطير يؤكل لحمه ! "
لم يعد لدى ( سارا ) أي ميل لهذا الكلام أساسا مهما قالوا ، ومهما فعلوا سوف تبيع بيتها دون أن تسأل عن السعر ، بأي ثمن ستبيع وستضع المال في جيبها ، وسترحل مع ابنها ومع الرجل الذي أحبته إلى البعيد ، هناك في البعيد المدينة ، وفي المدينة زحام ، زحام لا معارف فيه ، ولا من يتحدث عنك بسوء من خلفك ، زحام مستغرق في شغله وعمله ، فإذا ما استأجروا بيتاً في أحد الأحياء المحيطة بالمدينة !
سألها المختار بعد أن استمع إليها مطولاً :
- " وهل لك أحد المدينة ؟ "
فابتدعت ( سارا ) :
- " لي يا عمي المختار ، لي خالتي ، وبنات خالتي . . . وأنت أدرى بأنني زهقت ، وضقت ذرعاً بالقرف والقيل والقال ومضايقات الناس لي هنا على مدى سنوات طويلة ، اصطحب ولدي ، وأذهب إلى مدينة كبيرة وأريح رأسي على الأقل من الثرثرة . "
- " وإذا جاء زوجك في يوم من الأيام ؟ "
ابتدعت أيضاً :
- " سوف أعطيكم عنواني عندما أذهب ، لكني لا أظن أبداً بأنه سيعود ، الرجل الذي لم يسأل ولو بسطرين خلال هذه السنوات ، لا بد أنه مات . "
- " لا يعلم الغيب إلا الله . . ماذا أقول لك ؟ ليفتح الله طريقك ويسهِّل لك . مني هذا القدر فقط . "
رغم كون المختار من الحزب الديمقراطي ، إلا أنه لم يكن يحب ابن حزبه ( أنور ) الأعرج مطلقاً ، وكان أكثر ما يكره فيه تجاوزه على العرض والشرف .
قال كمن يفشي سراً :
- " هذا الأعرج الكلب لن يريحك إذا بقيت هنا . . . لذلك فإن رحيلك أنسب . المدينة كبيرة . وفيها إلى جانب غسل الغسيل أعمال أخرى أكثر من هنا بكثير . "
ظهر خلال ثلاثة أيام راغبون كثر في شراء بيت ( سارا ) لا راغب واحد ، وبعون المختار بيع البيت لمن دفع سعراً أعلى ، وتمت كافة إجراءات البيع كيفما اتفق ، ولما استلمت ( سارا ) ثمنه ، جلبته وأرادت تسليمه بالكامل إلى ( حبيب ) .
جلس ( حبيب ) وسط الغرفة القرفصاء ، ثم تربّع ومدَّ ساقيه جانباً ، نظر هكذا إلى كيس المال الذي قدَّمته له ( سارا ) ، وقال :
- " ما هذا ؟ "
- " ألم نبع البيت ؟ هذا ثمنه . "
- " لماذا تعطيني إياه ؟ "
- " ليبقَ معك !
دفع ( حبيب ) كيس المال بظاهر يده وقال :
- " ليس من عادتنا أن نمد يدنا إلى مال المرأة ! "
ثم أخرج من جيب بنطاله كمية من المال ، رُزماً من فئة الخمسين ليرة ، ومن فئة المئة ليرة ، ومدَّها إلى المرأة .
نظرت المرأة إلى المال بدهشة وقالت :
- " خيراً ؟ "
- " أموالي !
- " ما بها ؟ "
- " لتبقَ معك . . . لتبقَ هذه الأموال أيضاً معكِ !
فهمت المرأة الرجل ، فعمدت هي أيضاً مثله تماماً ، ودفعت المال بظاهر يدها وقالت :
- " عندنا أيضاً لا يمكن أخذ مال رجل لم يعقد زواجه علينا ، فليبقَ مالك معك الآن ، وليبق مالي معي . اتفقنا ؟ "
- " اتفقنا ! "
******