وربما لن يعودوا إلى هنا ثانية . .
وطالما أنهم لن يعودوا ، فيجب أن يعرف علي أن لـ( سمير ) أباً ، فإن لم يعرف ذلك الآن ، فإنه سيظل يقول في نفسه كلما خطر ( سمير ) بباله حتى ولو بعد سنوات . .
ذاك لم يكن له أب في وقت من الأوقات !
له أب خطير وشجاع ، ثقب جدار السجن وفر وجاء بعد سبع سنوات من المطاردات والمغامرات . .
أضف إلى أنه أطول قامة من جميع الآباء في هذه البلدة ، وساعده أقوى . يستطيع أن يضرب جميع الآباء في هذه البلدة .
هجم عليه في السجن خمسة أشخاص فلم يكترث بهم ، وبلكمة واحدة لكل منهم . . .وأطاح بهم .
فيما كان أبواه يتحدثان بسعادة وحب هامس حتى منتصف الليل ، عن السفر ، وعن المدينة البعيدة ، وكيف سيعيشون فيها ، كان هو دائم التفكير في الدراجة ذات الثلاث عجلات التي جاءت لابن شريفة ، بحيث لم يعرف كيف غفا هناك في ساعة متأخرة من الليل ، ومتى وكيف حملته أمه ومدَّدته في مكانه على الأريكة ؟
كان أول ما فعله عندما استيقظ صباحاً ، أن نظر حوله ، فشاهد أباه وأمه ملتفين ببعضهما يغفوان في فراش واحد مثل سائر الآباء والأمهات .
لم يهتم بذلك ، نهض من الأريكة بهدوء تام ، ومشى على رؤوس أصابعه نحو باب الغرفة ، ففتحه برويَّة وخرج إلى الحوش ، دون أن يسحب الباب ويغلقه محدثا جلبة ، من عادة أم علي حلب البقرة في هذه الساعة !
اجتاز الحوش بهدوء .
نظر إلى الخارج من ثقوب مسامير الباب . .
كان الوقت مبكراً جداً ، لذلك لم يكن يوجد أحد في الخارج . .
لكن باب حوش آل ( شريفة ) كان مفتوحاً . .
ومن خلال الباب المفتوح ظهر حوش آل ( شريفة ) . .
وفي الحوش بدت الدراجة الحمراء ذات الثلاث عجلات ! ! !
مسحت الدراجة الحمراء كل شيء من ذهنه . .
ملأت عليه كيانه ، هل أعطاهم إياها ( أنور ) بك الأعرج ؟ بشكل دائم ؟ لماذا ؟ هل ستُشترى دراجة جديدة لـ( زينيل ) ؟
حتى لو كانت ستشترى له ، لماذا أُعطيت هذه لهذا القذر ؟
أبوه أيضاً سيشتري له دراجة ألا يصدقون ؟
لا يصدقوا .
أبوه أقوى من الجميع في هذه البلدة ، يستطيع أن يضرب أي واحد . طرح خمسة أشخاص أرضاً بلكمة لكل منهم وهرب من السجن يا أولاد ! بعد تردد بسيط فتح الباب وخرج إلى الخارج . أبوه وأمه لا يستيقظان في هذه الساعة . هل الدراجة الحمراء دراجة ( زينيل ) يا ترى ، أم أنهم اشتروها جديدة ؟
كان ص*ره يعلو ويهبط وقلبه يخفق بشدة .
بركضة خفيفة سرعان ما يذهب ويشاهد ويعود ، لكنها كانت تشبه كثيراً دراجة ( زينيل ) ، وقد لا تكون هي ، وإذا لم تكن هي ، فمن أين حصلوا على المال فاشتروها ؟
مشى على رؤوس أصابعه وذهب إلى باب حوش ( شريفة ) . .
توقف .
نظر إلى الدراجة الحمراء ذات الثلاث عجلات عن كثب . .
إنها دراجة ( زينيل ) ، يا إلهي الرحيم ! ! ألا يعرفها ؟ إطاراتها العريضة ، زمورها ، حتى الصدأ على مقودها إنها دراجة ( زينيل ) ، ربما أعطاها ( أنور ) الأعرج لعلي ليغيظ أمه ( سارا ) .
إذا أعطاها فليعطها . . أبوه سيشتري له أجمل منها . . بل وزرقاء . . والزرقاء أجمل من الحمراء . . وماذا يعني اللون الأحمر ؟
إنه لون الدم . .
الإنسان ترتبك أحشاؤه من لون الدم . .
كان كلما شاهد الذبائح في الأعياد . . أعياد الأضحى ، ترتبك أحشاؤه ، ويشعر بالغثيان .
- " اوووه . . . ( سمير ) . أهلاً وسهلاً ! "
نظر وقد عاد إليه وعيه . .
إنها ( شريفة ) وفي يدها **رولة لبن ، وقد خرجت من الإسطبل واقتربت منه دون أن يشعر .
سألها على حين غرة : " لمن هذه ؟ "
أجابته : " لـ( علي ) ! "
عاد يسألها : " من أعطاه إياها ؟ "
ردت : " لا أحد ، اشتراها له أبوه . "
سألها : " متى ؟ "
أجابت في صبر : " بالأمس . "
دخل ، واقترب من الدراجة بحسد وضغط على زمورها ، ولكن هل يمكنها خداعه ؟ هذه الدراجة دراجة ( زينيل ) !
أردف : " بكم اشتراها ؟ "
- " والله لا أعرف ، هل بمئة وخمسين أم بمئتين ؟ "
ارتفع الدم الساخن إلى رأسه ، فاحمرت وجنتاه : " أنا أيضاً ستكون لي واحدة ! أمي ستشتريها لي ! "
لم تفلت المرأة طرف الخيط فسألته : " متى ؟ "
- " عندما نذهب إلى المدينة البعيدة ، عندها سيشتري لي أبي دراجة زرقاء . "
انطلق السهم من القوس ، سكت الطفل بخوف ، أما المرأة فتصرفت متغابية وسألته : " متى ستذهبون ؟ "
- " ليس غداً ، بعد غد ، سينتظرنا أبي . "
- " ؟ ؟ ؟ "
- " لا شيء لا شيء أبي لم يثقب السجن ولم يهرب ! "
- " إذن فسوف ترحلون بعد غد ؟ "
امتطى الدراجة .
استشفت ( شريفة ) أموراً فسألته : " لماذا لا يذهب معكم ، ولماذا سينتظركم في الطريق ؟ "
- " لإن أبي هارب ! "
قاد الدراجة وعبر بها الحوش مرة واحدة وعاد أدراجه : " أنا أقود هذه أفضل من الجميع ، فقط ( زينيل ) ، أقودها أفضل من ( زينيل ) أيضاً ، لكن . . . حسناً ، ماذا ستفعلون بدراجة علي ذات الثلاث عجلات القديمة ؟ "
- " أخذها أبوه وباعها ، ووضع مالاً فوق ثمنها واشترى هذه ، إذن سيشتري لك أبوك واحدة أيضاً عندما ترحلون إلى المدينة البعيدة ؟ "
مُسحت الدنيا كلها من ذهنه وهو يمتطي الدراجة الحمراء : " سيشتري لي طبعاً ، وسيشتريها زرقاء ! "
- " الزرقاء أجمل من الحمراء ، أنا أحب اللون الأزرق ، وأنت ؟ "
انفعل الطفل وقال : " أمي قالت لنأخذها حمراء ، أما أبي فقال زرقاء ، طبعاً ، هل أمي تعرف أفضل أم أبي ؟ ألا يعرف الآباء أفضل من الأمهات ؟ "
- " إذن فقد ثقب أبوك جدار السجن وهرب ؟ "
عاد إلى صوابه فقفز عن الدراجة بخوف ، وقال بارتباك شديد : " لا ، أبي لم يثقب السجن ، ولم يهرب ويأت ، ولن ينتظرنا في الدغلة . لقد خدعتكِ ، أبي . . . "
وبارتباك شديد ، غادر المكان مسرعاً .
علمت ( شريفة ) أموراً كثيرة من حيث لم تتوقع ، ألا يعقل أن يكون في ثرثرة الطفل شيء من الحقيقة ؟
وضعت **رولة اللبن على درجة السلم وخرجت إلى باب الحوش وفي رأسها تتصارع الأفكار والخيالات . وكان باب حوش آل ( سارا ) مفتوحاً على مصراعيه ، لم تكن ( سارا ) تترك هذا الباب مفتوحاً هكذا مطلقاً ، بالكثير الكثير كانت تواربه فقط .
مشت على أطراف أصابعها صوب باب حوش ( سارا ) المفتوح . .
توقفت . .
وبعد أن راقبت المكان جيداً ولجت إلى الداخل . .
كان باب الغرفة مغلقاً . .
اقتربت بقلبها الشديد الخفقان وأصاخت السمع :
كانت ( سارا ) توبخ ابنها بعنف ، وللحظة طرق سمعها صوت رجل أجش ، هناك أحدهم في الداخل ، إذن فقد انزلق لسان الطفل ، حذار من أن يكون المجرم المطارد هو زوج ( سارا ) الذي لم يعد منذ سبع سنوات .
برق الأمل العظيم عيناها فجأة ، وسال ل**بها ، واشتد خفقان قلبها ، إذا كان الأمر كذلك ، وأخبرت عنه وساعدت في إلقاء القبض عليه ، فهناك في النهاية مكافأة تقبضها !
سارت في طريق المخفر متناسية كل شيء .
خطر ببال الطفل باب الحوش الذي تركه مفتوحاً ، لو يخرج ويغلقه . . .
ارتجف .
لكن يجب إغلاق الباب ، قفز فوق الأريكة ، وأزاح الستارة البيضاء وكمن نظر إلى الخارج فلاحظ أن باب الحوش مفتوح . صاح : " باب الحوش مفتوح يا ماما ! "
هرعت ( سارا ) مرتبكة إلى حيث ابنها ، ونظرت فرأت وانفعلت وصاحت : " إياك أن تكون أنت قد خرجت إلى الخارج وتركته مفتوحاً ؟ "
قال في خوف : " لا . "
سألته في شك : " كيف فُتح إذن ؟ "