فعل الصخب الطفولي الذي جرى في الزقاق فعله في ذلك اليوم نفسه . .
لقد أخرج ( سمير ) الصغير ابن ( سارا ) إلى باب الحوش ، ولو لم تأت أمه المتعبة بعد قليل وتدخله إلى الداخل ، لربما كان سرعان ما أعاد مصادقة ابن ( شريفة ) لكي يتمكن من امتطاء دراجته . سحبت ( سارا ) الطفل من ذراعه بعنف إلى الداخل ، وأغلقت الباب . أما الطفل فقد دخل إلى البيت مرغماً ، وعيناه إلى الخلف ، وعقله عند الدراجة . ألم تكن هذه الدراجة دراجة ( زينيل ) ؟ لماذا أعطيت لأولئك ؟ هل أعطيت لهم بشكل دائم ؟
أم اشتروها جديدة ؟
آل ( شريفة ) قوم فقراء ، كيف يشترون دراجة عملاقة مثل دراجة ( زينيل ) بزرد وكشافات وزمور ؟ أبوه أيضاً سيشتري له واحدة ولكن عندما يرحلون إلى المدينة البعيدة ، البعيدة جداً !
فلا يتباهى ( علي ) هكذا .
أبوه سيشتري له دراجة زرقاء مثل هذه الدراجة تماماً . الزرقاء أجمل من الحمراء ، طبعاً أجمل ، وإن لم يصدِّق ( علي ) فليسأل أمه . تحدث أبوه وأمه كثيرا وحتى ساعة متأخرة من تلك الليلة عن كيفية الخروج من البلدة ، أما هو فلم يهتم لحديثهما ، إذ كانت الدراجة التي أحضرتها شريفة لعلي تشغله وتهمه ، هل هي دراجة ( زينيل ) ؟
إذا كانت كذلك فلماذا أعطيت لهم ؟ وإذا لم تكن كذلك فمن أين وكيف اشتروها ؟
سمع الحديث كله عن كيفية هروب ( أبيه ) من هنا ، وأين وكيف سينتظرهما ، سمع لكنه لم يفهم ، المهم لديه الدراجة ، دراجة ( زينيل ) الحمراء . لماذا جاءت لهؤلاء بالذات ؟
كان والداه مستمرين في الكلام :
- " بعد منتصف الليل ، أي عندما تنام البلدة ، وتخلو دور السينما من روَّادها ، أرفع أخشاب العلية . "
نظرت ( سارا ) إلى الرجل بانفعال : " أخشاب العلية ؟ "
ضحك ( حبيب ) : " طبعاً . "
- " متى فككتها ؟ "
- " في الحقيقة أنا لم أفكَّها ، الأخشاب مهترئة متآكلة ، أنا نزعت المسامير فقط . . . "
- " لماذا ؟ "
- " هل هناك لماذا ؟ لكي أستطيع الإفلات عند أية مداهمة مفاجئة ! "
- " حسنا ، ولماذا لم تخبرني بهذا أبداً ؟ "
قال ( حبيب ) بعد أن شمَّ بغرور علبة السجائر التي في يده :
- " لا يصح أن يثرثر ذوو الخصوم والأعداء . "
- " أي أنك شككت بي ، ولم تثق بي أليس كذلك ؟ "
- " لو كان الأمر كذلك لما أخبرتك الآن . "
- " حسناً ، وماذا بعد ؟ "
- " أرفع أخشاب العلية ، وأهبط إلى الزقاق كالخيال . .معي ؟ "
- " معك . "
- " أنتظركم ، هناك دغلة كبيرة على طريق الجبل ، هل تذكرينها ؟ "
- " أذكرها ، قبل الوصول إلى المفارق الأربعة . "
- " تماماً ، أنتظركم هناك ، من سيهتم بأمري ؟ "
- " خاصة ، وأن تلك المسألة قد أُغلقت ، فقد أعلموا الجهات العليا بتفتيش البيوت ، وعدم العثور على الهارب المطلوب . . . وبحسب قول المساعد الأول فقد انتشر عناصر البحث والتحري في القرى السفلية ، وسوف يبحثون هناك ! "
- " ليبحثوا ، ولكن . . . "
نظرت المرأة في شك :
- " ماذا ؟ "
- " لا شيء . "
أصرَّت :
- " بل ماذا ؟ "
- " إنك تزعجينني ! "
- " لماذا ؟ "
- " المساعد الأول ، المساعد الأول . . . "
أدركت المرأة أنه لو لم يحبها لما غار عليها ، فقالت :
- " الدنيا كلها في كفة ، وأنت في كفة ! اجعلها كالحلقة في أذنيك : ليس لي رجل آخر سواك في هذه الدنيا . هل تفهم ؟ "
بالرغم من ذلك قال ( حبيب ) في شيء من المرح :
- " حقا ؟ "
- " أقسم بالله . "
- " بالله ؟ "
- " بالله ، تا لله ، هل اقتنعت ؟ ألست مسلماً يا هذا ؟ "
- " اقتنعت ، إني مسلم ، وموحّد بالله . . . "
- " حقا ؟ "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
- " . . . . . . . . . . . . "
سمع ( سمير ) هذا كله لكنه لم يفهمه .
أو بالأصح فهمه بشكل ما :
فأبوه سوف يرفع أخشاب العلية عند منتصف إحدى الليالي ، وسوف يقفز بهدوء من طرف العلية إلى الزقاق الخلفي ، وليس من باب الحوش ، وسوف ينتظرهم خلف دغلة في مكان بعيد في الجبل ، ثم سوف يستقلُّون ما يتيسر لهم ، سواء سيارة صغيرة أو عربة ، ويرحلون إلى المدينة البعيدة ، فقدت حتى الدراجة الزرقاء التي ستشترى له في المدينة البعيدة أهميتها .
المهم الآن دراجة ( زينيل ) الحمراء ذات الثلاث عجلات التي جاءت لآل ( شريفة ) !
لماذا جاءت ؟
هل أعطاهم إياها ( أنور ) الأعرج ؟
لماذا أعطاهم إياها ؟
هل أعارهم إياها ؟
ألن يستعيدها ؟
لم يهضم حصول ( علي ) قبله على دراجة بثلاث عجلات : - " أنا أيضاً ستكون لدي واحدة ، وزرقاء ، طبعاً زرقاء ، الزرقاء أجمل من الحمراء ، إذا أعطاهم إياها عمي ( أنور ) الأعرج فهي قديمة ، أبي سيشتري لي واحدة جديدة ! . . . "
تجسَّد في ذهنه ( علي ) ابن ( شريفة ) ، وكأنه يعترض عليه :
- " سيشتري ! "
رد :
- " طبعاً سيشتري ، ولم لا يشتري ؟ "
رد عليه بوقاحة :
- " لأنه ليس لد*ك أب ! "
أجابه بظفر :
- " أنت تظن ذلك ! "
سأله الآخر بعناد :
- " هل لد*ك أب ؟ "
ورد ذلك في عناد أشد :
- " أجل لدي ! "
صاح فيه :
- " كاذب . . . "
وصاح هو :
- " أنت أنت الكاذب ! "
عقد الآخر حاجبيه وقال :
- " طالما لد*ك أب ، فأين هو ؟ لماذا لا يخرج إلى الزقاق مثل كبقية الآباء ؟ "
لو لم تنتبه إليه أمه في الوقت المناسب وتهزه من كتفه في تلك اللحظة ، لربما صرَّح بمكان وجود أبيه .
- " فيما تفكر ؟ "
قال كمن أحس بالذنب :
- " لا شيء . "
؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟
- " كيف لا شيء ؟ "
رد :
- " هكذا . "
ماذا لو قال أي شيء ؟
إنه يعرف أمه التي تعرف ولعه المجنون بالدَّراجّة ذات الثلاث عجلات . .
قد تصطحبه معها غداً خشية من أن يخرج إلى الشارع ، مع أنه يجب أن يظل غداً في البيت ، ويجب أن يعرف من أين حصل آل ( شريفة ) على تلك الدراجة وكيف ولماذا ، وهل حصلوا عليها بشكل دائم ، أم اقترضوها لبضعة أيام ؟
يجب أن يعرف ذلك كله ، لأنهم يجب أن يعلموا بأنه ستكون لديه هو أيضاً في القريب ، وفي القريب العاجل جداً دراجة ذات ثلاث عجلات مثل هذه تماماً ، إنما زرقاء اللون !
أجل ستكون لديه دراجة ، ويجب أن يعرف علي ذاك هذا .
يجب أن يعرف هذا ولا يغتر .
ثم أنهم . . .
سوف يرحلون من هنا إلى البعيد غداً أو بعد غد . .