الفصل-1-

1140 Words
لم أتوقع أن ينتهي كل شيء بهذه السرعة، بهذه القسوة. كان الأمر كما لو أن أحدهم نزعني من جذوري وألقى بي في فضاء فارغ. كيف يمكن لمن أحببتها بعمق أن تختار الرحيل مع غيري؟ وكيف يمكن للقلب أن يتحمل خيانة بهذا الحجم؟ الآن، ها أنا أمام مرآتي، أحاول أن أبدو متماسكة، لكن الحقيقة هي أنني مجرد ظل لما كنت عليه. أستيقظ كل صباح بنفس الطقوس: أعد فنجان القهوة الذي يفقد طعمه، أرتدي ملابسي بعشوائية وأتوجه إلى عملي، حيث لا أجد أي شغف فيما أفعله. كنائب مقتصد في مدرسة ابتدائية، مهمتي تتعلق بالأرقام والميزانيات، وهي أمور لم تعد تهمني. المنزل ليس بأفضل حال. والدتي دائمًا ما تسألني: "هل كل شيء بخير؟"، وأنا أجيب بنفس الإجابة التي أصبحت أتقنها: "نعم، كل شيء بخير." وداخل نفسي، أعرف أنني أكذب. أبي، الذي يعيش حياته بهدوء ولا يتدخل في حياتي إلا عندما يشعر أن الأمور قد تفلت مني. أما أختي الصغيرة، فهي تعيش حياتها الزوجية بسعادة، وقد أصبحت زياراتها مجرد تذكير بأن الحياة تستمر للآخرين، بينما أنا متجمدة في مكاني. في لحظات الوحدة، أتذكر كل تفصيل من علاقتنا. كيف كنا نضحك معًا، كيف كانت تمسك بيدي عندما كنا نسير في الشوارع، وكيف كانت نظرتها لي تشعرني بأنني العالم بأسره. ولكن الآن؟ الآن تلك النظرة موجهة لشخص آخر. شهور مرت وأنا أحاول التأقلم، لكن في داخلي شيء ما كان يتحطم ببطء. حتى جاء ذلك اليوم، عندما قررت أنني بحاجة إلى الهروب. لم أعد أستطيع التنفس في هذا المنزل، في هذه المدينة التي تحمل ذكرياتنا في كل زاوية. أخبرت والديّ أنني سأقوم برحلة صغيرة، بعيدًا عن هنا، بعيدًا عن كل شيء. كانت تلك المدينة دائمًا حلمًا بعيد المنال. لطالما رغبت في زيارتها، لكن قيود العمل والعائلة كانت تلاحقني. الآن، وأنا على وشك الذهاب إليها، أشعر بشيء من الخوف، ولكن أيضًا برغبة شديدة في التحرر. ربما، في مكان ما بين جبالها ووديانها، سأتمكن من العثور على جزء من نفسي الذي فقدته." --- "ركبت الحافلة في الصباح الباكر، تحملت حقيبتي الصغيرة وكأني أحمل معها كل هموم العالم. كان الطريق طويلاً، لكني لم أشعر بطوله. كانت عيناي مثبتة على النافذة، أراقب المناظر الطبيعية تتبدل أمامي، وكأنني أهرب مع كل ميل نبتعد فيه عن المدينة. تلك المدينة التي حملت معها كل الذكريات، الذكريات التي أردت أن أنساها، ولو لبرهة. كنت وحدي في الحافلة، رغم وجود الركاب الآخرين. وحدي في أفكاري، في آلامي، في محاولتي للبدء من جديد. كل شيء بدا لي غريبًا؛ الغرباء، الطريق، وحتى نفسي. عندما وصلنا إلى المدينة، كانت أشعة الشمس الذهبية تغمر كل شيء. المدينة التي لطالما حلمت بزيارتها، تلك المدينة السياحية التي لم يكن لي نصيب فيها من قبل، أصبحت أمامي الآن. شعرت برهبة غريبة وأنا أخطو أولى خطواتي على أرضها. هل حقًا سأتمكن من إيجاد شيء هنا يعيد لي ما فقدته؟ بين الجبال العالية والأنهار المتدفقة، شعرت بأنني صغيرة جدًا، ولكن بطريقة جيدة. كأن هذه الطبيعة تحاول أن تذكرني بأن العالم أكبر من كل آلامي، وأن الحياة تمتد إلى ما هو أبعد من حزن قديم. الناس في هذه المدينة يبدون مختلفين، مبتسمين رغم البساطة التي تحيط بهم. ربما لهذا السبب جاءتني الرغبة المفاجئة في الانغماس في تفاصيلهم، في الابتعاد عن ذاتي، ولو لبعض الوقت. أول يوم كان مليئًا بالتنقلات. استكشاف الأسواق الصغيرة التي تبيع كل ما هو محلي، من الحرف التقليدية إلى الأطعمة التي لم أكن أعرفها من قبل. تناولت وجبة في مطعم صغير على ضفاف نهر، جلست وحدي، ولكن لأول مرة منذ مدة، لم أشعر بالوحدة. في اليوم التالي، انضممت إلى مجموعة من المسافرين مثلي، قرروا القيام بجولة جبلية. كنت مترددة في البداية، لم أكن أرغب في التواصل مع أحد، ولكن هناك شيء في ابتساماتهم الدافئة جعلني أترك الحذر خلفي. مع كل خطوة نحو القمة، شعرت أنني أخف. وكأن الجبل يسحب معه كل أثقالي، ويدعني أتنفس بحرية لم أختبرها منذ وقت طويل. وقفت على حافة مرتفعة، نظرت إلى الأسفل ورأيت المدينة بأكملها تحت قدمي. شعرت بالنسيم يلامس وجهي في هذه الأثناء، بينما كنت أقف على الحافة وأتأمل المدينة شعرت بشخص يقترب مني. التفت لأرى فتاة جميلة تبدو في الثلاثينات، ب*عر بني طويل يتماوج مع النسيم، وابتسامة هادئة على وجهها. كانت هادئة ولكن حضورها كان قوياً. وقفت بجانبي وقالت بصوت خافت: 'المنظر هنا يأخذ الأنفاس، أليس كذلك؟' ابتسمت لها ورددت: 'نعم، كأنه مشهد من عالم آخر. كل شيء يبدو بسيطاً من هذا العلو.' جلست الفتاة بجانب صخرة صغيرة، وأشارت لي بالجلوس. ترددت قليلاً، لكنني انضممت إليها في النهاية. كانت لحظات ال**ت بيننا مريحة، لا حاجة للكلمات الكثيرة. بعد لحظات، قالت بصوتها الهادئ: 'أحياناً نحتاج لمثل هذه اللحظات لنتذكر أن الحياة أكبر مما نراه أمام أعيننا.' نظرت إليها وقلت: 'هل جئتِ إلى هنا لتنسي شيئاً؟' ابتسمت، وكانت ابتسامتها مليئة بالهدوء الذي أبحث عنه منذ مدة، ثم أجابت: 'ليس لأنسى، بل لأجد. أحياناً نحتاج أن نغادر الأماكن التي نعرفها لنفهم من نحن حقاً.' شعرت بكلماتها تلامس شيئاً عميقاً داخلي. كان حديثها يبدو مألوفاً، وكأنه يروي قصتي بل**نها. سألتها: 'وهل وجدتِ ما تبحثين عنه؟' نظرت إلى الأفق وقالت: 'ليس بعد، ولكنني قريبة. المناظر الطبيعية تساعدني على تذكر أنني لست وحدي، وأن الصعوبات مجرد جزء من الرحلة. وما دمت أواصل السير، فأنا على الطريق الصحيح.' أخذت لحظة لأستوعب كلماتها، ثم قلت: 'أشعر وكأنني أهرب، لكنني لست متأكدة مما أهرب منه.' التفتت إليّ وقالت بجدية: 'الهروب ليس دائماً سيئاً. أحياناً نحتاج أن نبتعد لنعيد تقييم ما نمر به. الحياة مليئة بالمصاعب، ولكننا نحن من نختار كيف نواجهها. المهم أن نسمح لأنفسنا بالبدايات الجديدة، مهما كانت مخيفة.' جلست بجانبها، وأحسست بأن هذه الفتاة الغريبة، التي لا أعرف عنها سوى القليل، قدمت لي شعوراً بالراحة الذي لم أجده منذ وقت طويل. شعرت بأنني مستعدة، ولو قليلاً، لمواجهة ما ينتظرني، وأنه ربما، في مكان ما داخل نفسي، كنت أبحث عن هذا اللقاء. ابتسمت لها وقلت: 'أعتقد أنني سأحاول البحث أيضاً، كما تفعلين أنتِ.' نظرت إليّ بعينيها الهادئتين وقالت: 'لن تندمي. في كل منعطف، ستجدين شيئاً جديداً عن نفسك وعن الحياة. هذا هو الجمال الحقيقي.' بقينا هناك، نشاهد الشمس تغيب بهدوء خلف الجبال، وفي داخلي شعرت بأنني قد وجدت بداية جديدة، ربما ليس فقط لنفسي، ولكن أيضاً لشخصية أخرى قد تدخل حياتي. --- "في صباح اليوم التالي، استيقظت مع أول خيوط الفجر التي تسللت عبر نافذة الغرفة الصغيرة. شعرت بحاجة للخروج واستنشاق هواء الصباح البارد، وكأن تلك اللحظة على قمة الجبل قد فتحت بابًا جديدًا في داخلي. غادرت الفندق وبدأت أمشي في الشوارع الهادئة، حتى وجدت نفسي أمام مطعم صغير يفوح منه عبير الخبز الطازج والقهوة. قررت أن أدخل لتناول الإفطار. جلست في زاوية هادئة، طلبت قهوتي المعتادة وبعض الخبز والعسل. كنت أستمتع بالهدوء، حتى سمعت صوتًا مألوفًا. 'هل هذه مصادفة جميلة، أم أنكِ تتبعينني؟' جاء الصوت من خلفي بلطف. التفت لأجد نفس الفتاة ، بابتسامتها الهادئة. ضحكت وقلت: 'يبدو أنها مصادفة جميلة حقًا.' جلست على الطاولة المقابلة لي دون تردد، وكأن اللقاء بيننا كان مكتوبًا منذ البداية. كان الجو لطيفا بيننا، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد. طلبت فطورها، وبدأنا نتحدث مجددًا، ولكن هذه المرة بطريقة أعمق. 'لم أتوقع أن ألتقي بشخص من مدينتي هنا،' قالت بينما تمزج سكرها في فنجان القهوة. 'غريب كيف يمكن لمكان بعيد أن يجمعنا.' ابتسمت وأنا أفكر في غرابة هذه الصدفة. 'ربما الحياة تأخذنا في مسارات غير متوقعة لنتعلم شيئًا جديدًا، أو لنلتقي بأشخاص لم نكن نعرف أنهم مهمون.'
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD