بدا ضوء النهار في القرية شيئًا جديدًا غير مألوف، تناثرت رائحة الأزهار وانسكبت لتملأ الرئات، وبدت الأشجار الخضراء والحقول النضرة كلوحة خيالية، تفرقت أشعة الشمس الذهبية على جنبات القرية معلنة بداية يوم جديد ناشرة الدفء على الأرض، علت زقزقة العصافير خارجة من أعشاشها بحثًا عن الرزق واستقبال يوم جديد، ومضى الفلاحون بالماشية نحو الحقول، الغناء يص*ر من أفواه النساء النشيطات وهن عائدات بالجرار الفخارية بعد أن ملأنها بالمياه من النهر الصغير، دب النشاط في القرية كالعادة اللهم إلا من دار "سمير" قد خيم الحزن عليها، و**ت لا ينم عن حياة.
-شعر "سمير" بالبرودة فجمع بعض الأخشاب ووضعها فوق الموقد، وجلس يدخن على النارجيلة "الشيشة" أعدت زوجته طعام الإفطار واقتربت منه في رثاء، أما يكفي ذلك الدخان الذي يفتك برئتيك! لقد أصبحت تتناول الكثير منه في الآونة الأخيرة.
-أزاح الصينية من أمامه قائلًا وذهنه غارق في عالم آخر: ومن يشتهي الطعام أو الشراب يا "أمينة"، دعيني أخلو بنفسي وحيدًا، فلم أفق بعد من صدمة العمر.
"من يشتري الكلام من تاجرة الكلام يا أهل الدار؟" كان هذا صوت سيدة عجوز تتكئ على عصاها وهي تطرق بها على الباب الخشبي المفتوح، ودلفت إلى الداخل دون استئذان.
-امتعض سمير لتصرفها، لكنه ابتسم مغمغمًا تفضلي يا أماه، فالطعام جاهز.
-أشكرك يا ولدي أنا بائعة الكلام، هل تشتري مني؟
-نظر إليها في دهشة: وهل أصبح للكلام مقابل؟
-الكلام له ثمن منذ قديم الأزل، الناس يشترون ويبيعون بالكلام يا ولدي، يقولون ما شاءوا ويفعلون ما شاءوا، وكما قيل قديمًا "الصيت ولا الغناء" فالحرب تبدأ بكلمة، والنجاح يأتي من كلمة، الخداع بكلمة، والخيانة من كلمة، الكلمة تقتل أناسًا وتحيي آخرين.
-أوه يا سيدتي، الخيانة! لقد ضغطتِ على الجرح قبل أن يلتئم.
-ما بك يا بني؟ وجهك يوحي بالعبوس، وجسدك ينبئ عن قلب أثقلته تباريح الحياة.
-سأشتري منك الكلام يا خالة، أخبريني عن الصداقة الحقيقية.
-اعتدلت العجوز في جلستها وقالت باسمة: الصداقة! عملة نادرة أوشكت على الانقراض، وما الصديق لصديقه سوى ذلك الجدار الذي أستند عليه، يحمل عثراته على كاهله كما السقف، يستر عوراته ويحجب الأعين عن رؤيته من**رًا، يتزمل به من برودة الأيام، ويظله من أشعة الغدر.
-ذرفت عيناه بالدموع وتساءل بصوت باكٍ: وماذا إن أسقطني الجدار، وأزاح السقف وعرضني لأعين الشامتين، ماذا إن هرعت إلى الجدار لأتدثر به فأسقط الحجاب عن الأعين وجعلها تمزق ضعفي وترى جرحي؟
-لا خير فيه ولا فيك إن بكيت عليه، لا تلعن الأزمات يا ولدي فهي تكشف الأقنعة الزائفة.
-صداقة عشرون عامًا، نأكل سويًا ونشرب ونمرح، حتى إذا ما تعثرت خطواتي وغرقت في الديون ذهبتُ إلى صديقي وملجأي وسندي، استندت عليه، بكيت وما أدراك ما دموع الرجال! أخرجت ما في جعبتي من حزني، تجردت من ثياب القوة المزعومة، تعريت من كل الأقنعة التي ارتديتها أمام الجميع إلا هو، ظننته أخي، بل أنني قصصت عليه أوجاعي وأظهرت له ما أخفيته عن إخوتي، تظاهر بالرثاء وأخرج من جيبه أمولًا وقد زعم أنها كل ما يملك، على الرغم من أنني أدرك كذبه وأعلم أنه يقدر على دفع المبلغ بأكمله وتخليصي من هذا الكابوس المزعج، إلا أنني كنت في غاية السعادة لأنه مد يده بالعون لي.
كانت هذه الديون إثر تجهيز عش الزوجية لابنتي، ولما ثقلت خطاي، ودخلت في نوبة مرض أفقدتني القدرة على العمل مما جعل الديون تتراكم علي، فذهبت إليه وأعطاني نصف المبلغ إلى أن أشفى وتعود الأمور إلى نصابها الصحيح، لكن مضت الأيام وطلب صاحب الأجهزة بقية حقه، عرضتُ على صديقي أن أبيع بيتي، كنت أظن أنه يرفض ذلك وأنه سوف يدفع لي بقية المبلغ لقدرته على ذلك، ولأننا كنا نقتسم اللقمة سويًا، لكنني لاحظت ابتسامة خبيثة ارتسمت في أعماق قلبه، شعرت بها، تلاشت الصداقة من قلبه أمام عيني كما يذوب الثلج على النار، بدا الطمع في عينيه طمع الليث الجائع في فريسة سمينة مقيدة، وأردف قائلًا: نعم الرأي، فأنا بحاجة إلى أموالي التي أعطيتك إياها، أعلم أن موعد السداد لم يأتِ بعد، لكنني في أمس الحاجة إلى حقي، فكلٌ بحقه أولى.
-أظلمت الدنيا في عيناي، هل هذا صديقي حقًا؟ هو من يطالب بحقه قبل ميعاده! إذًا فلا لوم على الغريب، لكن صديقي لم يكتفِ بهذا فحسب، بل ذهب إلى المشتري واتفق معه على البيع وكأنه صاحب البيت وليس أنا، استغل قلة حيلتي وغرقي في الديون وباع البيت بثمن بخس لأكتشف بعد أسبوعين بأنه ربح من وراء ذلك البيع ما يزيد عن أربعين ألف جنيه، أي أنه أقرضني عشرة آلاف وأنقص ثمن البيت عشرون ألفًا وربح أربعون، هذا صديق الطفولة ورفيق الدرب في السراء والضراء، ولم يكتفِ بهذا فحسب، بل ظل يجوب البلدة مرددًا بأنه من وقف بجواري ولولاه لسجنت وشّرد عيالي.
-تن*دت العجوز تنهيدة ألم وقالت في حزن اجتاح قلبها وبدا على وجهها: هذا ليس صديقًا إنما ذئبًا بشريًا، يتوارى خلف قناع زائف، مثل هذا هو من يلوث الصداقة ويدنسها، لا تخدعك المظاهر يا بني، واعلم أن معظم البشر يرتدون أقنعة زائفة، يتبركون بها.
-لكنني لم أكن أتوقع منه كل هذا، لقد خذلني وأفقدني الثقة تجاه الجميع.
-ربتت على كتفه في حنان: هون عليك يا بني، واجعل علاقتك بالناس كعلاقتك بالنارجيلة التي تدخن عليها، تعلم أنها تؤذيك لكنك تتمتع بها وتحبها، وإذا ما زاد عليك ألمها وأذاها فاعتزلها، لكن كن صريحًا معها كصراحتها معك، ونصيحتي إليك، دع ما مضى فلقد مضى، سيعوضك الله إن أخلصت النية، ستمضي الأيام وتختلف الأدوار، الصفعة التي لا تقتل هي ما تنبه صاحبها وتجعله يأخذ حذره، فتعاليم الأيام أفضل من دروس الكتب والجامعات، انهض يا بني وعش ضعفك أمام الله وحده، واخرج إلى الجميع بكامل قوتك، فالبشر لا يرحمون ضعيفًا، واعلم يقينًا أنه لا يدوم إلا الله، وانظر إلى النعم المحيطة بك، لك زوج تحبك وتساندك، وغيرك لا يجد، دار وإن كانت من الطوب اللبن إلا أن هناك من يقطن الكباري والأرصفة، وهناك من يقطن في المستشفى والسجن، لا تسكر بصرك عن النعم ولا تلعن الأزمات، فلولا الأزمة التي حلت بك لآمنت ذلك الصديق الو*د على أبنائك وحينها لا يكون عوض أو ثمن لهم، فكل ما يأتي في الأموال يعوض.
وقال لزوجته: _مضى ثلاث سنوات على فراقنا، لا أدري لماذا استثار عطركِ أعماقي في هذا الوقت المتأخر من الليل؟! حينها فقط أيقنتُ أن الشتاء قد عاد وعادت معه رائحة الذكريات الملطخة بخيباتنا! برودته لا ترحم أفئدة دعسها الفراق.
مر العمر وأنا أقطع أميالًا من الإبحار في طريق نسيانك، لكن مرور رائحة عطرك من مجرى أنفي، كان دليلًا قاطعًا على أنني لم أخطُ خطوة نحو اجتيازك! أنتِ ما زلتِ هنا، رغم غيابك، ورغم انقطاع الحديث بيننا إلا أنه يقام بيني وبيني كعادتي! أتدركين حجم الأحاديث التي تقام بيننا خيالًا، لذا أنتِ هنا.
فتحتُ صندوق ذكرياتنا، به هداياكِ التي أهديتنيها، كانت مغلفة بلون أحمرَ لامع، ظننته في بداية الأمر أنها م**ية بالحب، هكذا يقال أن هذا اللون دليل الحب!
لكنني اكتشفت فيما بعد أنها **يت بدماء روحي الساقطة في جُب الوحدة.
أمَا كان هذا الشتاء قريبًا هو الشيء المفضل لدي؟! أما كانت رائحته تجذبني؟ وأجوائه تأسرني؟ ماذا حدث؟ كنت أحتسي القهوة وأنا أحادثكِ فتمتزج بمرارتها، بعبث حديثك، وثرثرتك العفوية البريئة، ف*نسكب بروعتك في أعماق روحي.
"إن اللحظات الجميلة التي ندونها في حياتنا ونسعى كي نوثقها بوقتها، وتفاصيلها، ونشعر بالسعادة في كنفها، في الغالب ما تكون هي الض*بات المميتة التي تغرس في أفئدتنا يومًا ما، ونُساءل أنفسنا: هل هؤلاء الأشخاص كانوا رفقاء أرواحنا؟ وكيف هُنّا وهان فراقنا؟!! وكيف تبددت الذكريات الجميلة ولم يبقَ سوى صور باهتة تمزق أوصال قلوبنا، فالتمعن في التفاصيل والذكريات يفتك بالمرء من الداخل"
ما هذه الورقة؟ إنها رسالة منك ما زالت تحتفظ برونقها وبريقها رغم أنكِ أعطيتنيها منذ تسعمائة وثلاثة عشر يومًا! قلتِ فيها "أن الحياة لا تمر من دوني! ولا يتسنى لك العيش خارج أحضاني، لأنه لا يتسنى للسمكة العيش خارج البحار!"
وما زال البحر لا يدري أين سمكته! وما زال يشعر بالغربة، رغم كثرة الأسماك من حوله لم تستطع إحداها تعويضه عنها.
الآن أغلق الصندوق، وأسدل الستار على تلك المسرحية التي انتهت منذ عامين، لكنها لم تنتهِ بداخلي، فغدوت وحيدًا أشاهدها كل دقيقة، في صحوي وفي نومي، مسرحية أنا بها القاضي، والمتهم، والمحامي، والحضور، والشهود، أنا بها الشئ ونقيضه، أنا بها كل الأشياء.
وأنتِ ألستِ هنا؟ ألن تأتي؟! إذًا لا شيء هنا ما دمتِ غائبة؛ فما فائدة اللاشئ وسط كل شيء؟