الفصل الاول
لا تحكم على أحد قبل أن ترى ما حل به، (طارق ابراهيم) طالب بالفرقة الثالثة بكلية اللغات والترجمة، طالب مجتهد ذو خلق أو كنت طالبا قبل أن يحدث ما حدث.
في يوم صيف حار في الرابعة عصراً بعد أن انتهيت من تدوين محاضراتي التي اعتدت على أن لا أهمل إحداها يوماً، دلفت إلى حجرة المكتبة أستعير بعض الكتب ورأيت مالا يحمد عقباه، يا إلهي! ما الذي يحدث هنا؟ فركت عيناي غير مستوعب لما أراه! الدكتور الجامعي معلمي وقدوتي يتبادل القبلات مع من؟ رئيسة قسم الترجمة ، كانا يحظيان بمكانة مرموقة بين الجامعة نظراً لعقلانيتهما وثناء الجميع عليهما، لوهلة تسمرت قدماي وأصيب جسدي برعشة أفقدته القدرة على الحركة، عقلي عاجز عن المقاومة، هممتُ لأن أغلق الباب إلا أنه رآني، كان للدكتور فضل هيبته ومكانته العلمية لكن كل ذلك تساقط أمامي.
ارتعدت أوصالي وهو يحدق إليّ بدهشة وغضب وهو يعدل من هندامه، في حين التفتت رئيسة القسم بخجل وقد احمر وجهها، أسرعتُ إلى الخارج قبل أن تأتيني رسالة هاتفية من الدكتور فضل قائلاً (إن علم أحدهم بما حدث فلن أتوانى لحظة واحدة عن الفتك بك) .
_لم أذهب إلى الجامعة في اليوم التالي وعزمت على عدم البوح بما رأيت، ليس خوفاً منهما وإنما من قبيل الستر .
_كانت نظرات الدكتور فضل ترتكز في عيناي أينما حللت وكأنه يتوعدني، قبل أن تأتيني رسالة بريدية من الجامعة بأنني قد فصلت لسوء سلوكي .
_جحظت عيناي بهلع عندما قرأت مضمون الرسالة فأسرعت إلى الجامعة لأجد والدي وبعض الجيران الذين يشهدون لي بالصلاح، سرعان ما أمسك بي رجال الأمن وأنا أحاول الخلاص منهم دون جدوى، عم الصياح في المكان بشكل فوضوي فحضر رئيس الجامعة واصطحبنا إلى مكتبه ، دخلت أنا ووالدي وأربعة من الجيران.
_قام رئيس الجامعة باستدعاء الدكتور فضل ورئيسة القسم وفتاة تدعى (سلمى) الأولى على الجامعة.
_تسائلت في نفسي ما شأنها بأمر مثل هذا ، لقد عزمت على أن أسترهما لكنهما أطاحا بمستقبلي فلن أقف مكتوفي الأيدي ، سأقول الحقيقة ويحدث ما يحدث.
_تحدث رئيس الجامعة بوقاره المعهود وبراعته في الحوار : "السادات والسادة أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة والسادة الضيوف ، كما تعلمون جميعاً أنني عاهدت الله أن لا أظلم أحداً فما قولك يا طارق فيما نسب إليك من أنك حاولت التحرش بزميلتك (سلمى رشيد) في السادس من نوفمبر في تمام الساعة الثانية والنصف؟
_عقدت حاجبي بدهشة ماذا؟ لقد تفهمت الأمر لقد استعانوا بها كي ألبس جرما لم أقترفه ، جال في خاطري الكثير من الأسئلة، أدركت أن الكلام لا يغير من الواقع شيئاً فاكتفيت بال**ت .
_نظر والدي بغضب والدهشة تعلو وجوه الحاضرين فأعادها رئيس الجامعة ثانية، أجبته قائلاً أقسم لك يا سيدي وأنت أكثر الناس علما بتفوقي واحترامي أن ذلك لم يحدث قط ، وما حدث أنني رأيت الدكتور المحترم فضل ورئيسة القسم يتبادلون القبلات الحارة و......
_قاطعني الدكتور فضل بحدة : ا**ت أيها الو*د كيف تجرؤ على هذا الهراء سوف أشكوك بتهمة السب والقذف في الأعراض بشهادة الجميع.
_عمت الثرثرة قبل أن يتابع رئيس الجامعة حديثه: هل تعي خطورة ما تقصه ؟ إنهما من أكثر المدرسين خلقاً كما أن زميلتك شهدت ضدك ورفضت توصيل الأمر للشرطة فالتفتت إليها قائلاً: أرجوك يا سلمى أنت الوحيدة القادرة على نجاتي من ذلك المأزق أخبريهم بالحقيقة هل حدث ذلك؟
_لاذت بال**ت فسألتها رئيسة القسم بحدة : هل حاول هذا الذئب البشري التحرش بك ؟
_انتقلت الأعين من وإلى سلمى الجميع يتربصون تلك اللحظة الحاسمة التي تحدد مصيري ومستقبلي، دقات قلبي تدق مسرعة وكأن أضلعي تقفز من مكانها ، أبتلع ريقي بصعوبة فقالت سلمى نعم وخرجت مسرعة وهي تبكي.
_صحت في الجميع قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل، تقولون عنهما أنهما أكثر الناس خلقا وعلماً ، لا تدركون أن الجميع يرتدون أثواب الفضيلة، يتوارون خلف اللحى ، يتظاهرون بالتقوى ويخفون ورائهم أقنعة زائفة يتخذونها شعائر لهم يتبركون بها، لا يشرفني الانضمام لتلك المنظومة الفاسدة ، بينما يطأطأ الجميع رؤوسهم بخجل لا أحد منهم يصدقني.
_اشتهرتُ في القرية بالمتحرش، لم يصدقني أحد كيف يصدقون طالبا فقيراً ويكذبون علماءً أثرياء ، البقاء للاقوى يا عزيزي.
_أغلقت الأبواب في وجهي بعد أن جاء تقرير الجامعة بأنه لا حق لي في الانتساب إلى اى جامعة، فلم يعد بوسعي ما أفعله فاستقللت قارب أحد الصيادين وحملت بعض الطعام ومضيت لا اعلم وجهتي ، شارد الذهن لا أعلم على من ألقي باللوم ؟ هل سلمى ضحية مجبرة مثلي أم ماذا لا يهم كل ذلك .
_خمس ساعات مضت وأنا أمسك بالمجاديف أقطع أميالا وحيداً صامتاً ومعذباً ، بداخلي غضب يعجز هذا البحر بأمواجه وهيمنته أن يطفئه .
_تقلصت عضلاتي إثر التجديف لمدة طويلة فسرت بمحاذاة الشاطئ إلى أن وجدت غابات كثيفة،متلاصقة بجوار بعضها البعض، ملتفة الأغصان ، نزلت من القارب وجلست في ظل شجرة فسرعان ما ذهبت في سبات عميق.
_استيقظت في الخامسة مساءً فهيات مكاناً مناسباً وتناولت بعض الطعام، جمعت بعضاً من الأخشاب المتراكمة وأنشأت كوخاً صغيراً يأويني من برد الليل وشمس النهار ، أشعلت النار والتفتُ حولي لأجد كلباً جائعاً ينظر إلى ويهز ذ*له فألقيت له بعضاً من طعامي فسرعان ما التهمه بشراهة حتى شبع ونام بجواري.
_ظللت أربت على ظهره وأقص عليه ما حدث وكأنه صديق لي يرافقني بعد ما انقطع شحن هاتفي الجوال.
_يوما تلو الآخر نشأت علاقة وطيدة بيني وبين الكلب، أصطاد العديد من الأسماك وأشويها على النيران مع بعض فاكهة جوز الهند، وينام الكلب يحرسني بعد أن أعطيه بقايا الطعام.
_لم أعد أعرف في أي يوم نحن الايام تشبه بعضها، لا جديد يذكر ولا قديم يعاد ،ذات ليلة باردة ص*ر عواء ذئب قوي على مرأى مني كأنه اشتم رائحتي ، أصابني الفزع من أنيابه وهو ينظر نحوي بغضب ويهم بالانقضاض علي، فما كان من الكلب إلا أن أسرع نحوه ونشأت معركة شرسة بينهما انتهت بفرار الذئب بعد أن فقد إحدى عينيه فضلاً عن الدماء التي تسيل من رقبته ، وبعض الجراح في وجه الكلب الذي آثر الموت على تركي ، احتضنته وضمدت جراحه ول**ن حالي يردد " من المؤسف أن تكون أنت حيواناً وبعض البشر يرتدون أقنعة الشرف ، عجباً لح*****ت أكثر وفاءً من البشر" .
في صباح اليوم التالي سمعت صوت جلبة من الرجال، فنظرت من نافذة الكوخ لأجد ثلاثة يحملون فتاة فاقدة الوعي بعد أن قيدوها وألقوها على الشاطئ، يهمسون بحذر سنغتصبها في ذلك الكوخ ، أمسكت عصا كبيرة ووقفت متربصاً لهم، نهض الكلب خلفي ونبح بصوت عالٍ تجاههم ، أشهرت بالعصا في وجوههم فتركوها وفروا هاربين بقاربهم من حيث أتوا.
_حملتها إلى الكوخ كانت ملابسها مبتلة وفمها مقيد **ائر جسدها ، نزعت عنها القيود وأشعلت ناراً لأدفئها ، حاولت إفاقتها إلا أنها لم تستفق فألقيت عليها بغطائي وجلست بجوارها.
_بعد مرور ساعة فتحت عينيها بثقل ونظرت في هلع وارتجاف وهي تصيح أرجوك لا تؤذيني.
_اهدئي يا عزيزتي أنت بأمان هنا لقد هرب اللصوص.
_نظرت بخوف من انت وأين أنا؟
_ انا ادعى طارق لا تقلقي لكنني لا أدري أين نحن ،ظللت اهدئ من روعها ناولتها كوباً من الشاي فاطمئنت قليلاً ومن ثم أخبرتني بأنهم قاموا با****فها أثناء خروجها من الجامعة.
_لحسن الحظ أنها كانت من القرية المجاورة لقريتي كما أن والدها رجل أعمال كبير اعرفه جيدا كما يعرفه الكثيرون غيري ،
فأخبرتها من أنا وقصتي تعاطفت معي لصنيعي معها وأنني لا يمكن أن أكون مجرما ، بحثت عن هاتفها وأخرجته من معطفها كان مبللا بعض الشيء ولم يتوقف لحظة عن إصدار رنينه .
_قصت على والدها ما حدث وسط قلقه الشديد وخروج رجال الشرطة والموظفين عند والدها للبحث عنها ، سرعان ما جاء والدها وبعض العمال اطمأنوا عليها وشكروا جهدي لما فعلته معها ،علم والدها قصتي فقرر مساعدتي .
_أخرج هاتفه والتقط صورة جماعية ونشرها عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي معلقاً " المتحرش كما تقولون عنه انقذ ابنتي من التحرش والخ*ف ،وظل بجوارها يوماً كاملاً دون أن يقترب منها ، ابحثوا عن المتحرش فيما بينكم ولا تظلموا الشرفاء "
انتشرت الصورة على المواقع بشكل كبير نظراً لمكانة رجل الأعمال" محمود عاقل" الذي صحبني معه إلى منزله الكبير وأهداني جائزة كبيرة للغاية، وعمل مرموق في إحدى شركاته ، قبل أن تزف ابنته نورا لي البشرى بأن الدكتور فضل قد لقي حتفه اليوم أثناء حادث انقلاب سيارته برفقة رئيسة القسم التي اعترفت بكل شيء في المستشفى واستكملت حياتها بكرسي متحرك لأنهم قد بتروا قدميها، تم تكريمي من الجامعة واعتذارات الجامعة متمثلة فى رئيسها وأعضاء هيئة التدريس ملأت الجرائد والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أعلنت سلمى اعتذارها أنه تم تهديدها بالفصل من الجامعة واعتذرت لي ، فالحذر كل الحذر من الظلم .
بقلم "سعد السعودى"
_أضواء القناديل الزيتية تخيم على جدران القرية من جديد كعادة أهلها كل عام في بداية شهر رمضان المبارك، يدخر كل منهم قبله بعض المليمات التي تمكنه من إشعال قنديل أمام بيته طوال الشهر، الزينة الورقية تعلق في شوارع البلدة الصغيرة التي تقع في محافظة "سوهاج" الحركة تجوب أنحاء القرية، يستعد كل منهم لاستقبال هذا الشهر الكريم كل عام، الفقراء مسرورين يقطعون أنحاء القرية في حركة دائبة، يمنون الأنفس ب**ب المزيد من الرزق الذي ينهال عليهم طوال الشهر، الأطفال يمسكون بالفوانيس الزجاجية، يمرحون وقد غرس بداخل كل منها شمعة صغيرة تبعث بالنور والسرور في القلوب.
_اعتاد الناس على العطاء في هذا الشهر، القلوب القاسية ترق وتلين، صوت التراويح في المسجد يبعث في الروح طمأنينة.
_أنهى الحاج "كمال" الكنفاني بناء التنور من الطوب اللبن لصنع الكنافة التي ينتظرها جميع من بالقرية من العام إلى العام، حشد من المهنئين يجوبون القرية بأفضل عبارات التهنئة على غير العادة، حيث كانت القرية تبدو ظلماء بعد صلاة العشاء وكأنها خالية من البشر، مشهد رمضاني بسيط اعتاده أهالي القرية لكن يبهج القلوب.
_الحاج "فرحات" المسحراتي الكفيف من أكثر الناس فرحًا بقدوم رمضان، كيف لا وهو شهر الرزق بالنسبة له! يمر قبيل الفجر ينادي على أهل البلدة، لا يدع كوخًا ولا دارًا إلا وينادي على أهلها " يا أهل الله، تسحروا فإن في السحور بركة" يحمل الدف على رقبته وحقيبة في يده، يمد له بعض الأهالي يدهم من النوافذ محملة بما في بيوتهم من طعام أو فاكهة، فيشكر الله ويشكرهم ويضعه في حقيبته، يمني النفس بجمع المزيد من المال في نهاية الشهر كعادته، رغم أنه كفيف البصر إلا أن صلاح قلبه وقربه من الله، جعله يحفظ كل شبر في البلدة عن ظهر قلب، "ا***ى ليس في البصائر، وإنما في القلوب، إذ لا يضر عمى البصر ما دام القلب مبصرًا"
_ذات ليلة ظلماء، أمطرت السماء واشتد الهواء فأطفأ العديد من المصابيح الزيتية المعلقة على قمم الأشجار، خلت القرية من الناس وتدثر الجميع في فراشهم، عدا الحاج "فرحات" المسحراتي، الذي سار بخطوات متثاقلة، يجوب الوحل بقدميه، لم تمنعه الأمطار الغزيرة والسيول عن مواصلة عمله، وظل ينادي على أهل القرية.
_كان المعلم "صابر" صاحب المقهى، يجلس في غرفته بالطابق الثاني لمنزله يحتسي الشاي، لقد كان رجلًا غليظًا، طويل القامة، ممشوق القوام، عريض المنكبين، ذو شارب حاد يتدلى فوق شفتيه، يخشاه جميع من بالقرية نظرًا لغلظته وقسوة قلبه، يتجنبه الجميع خوفًا من بطشه، كان يمضي بعصاه بين الناس يض*ب الأرض بها فيدب الخوف في القلوب، كان يلقب بزعيم البلدة، يحل المشكلات حسب ما تهوى نفسه ولا يشغله إعراضه عن الحق من عدمه، إذ لا يجرؤ أحدا على اعتراضه.
_جلس يحسب ما **به من مال، فأغضبه صوت الحاج فرحات المسحراتي، فنظر من شرفة حجرته ونادى بغضب: أيها الأعمى، ابتعد عن هنا.
_ابتلع الرجل ريقه بصعوبة: كل سنة وانت طيب يا معلم، أنت تعلم أنه شهر الرزق بالنسبة لي و.......
_قاطعه بحدة: قلت لك ابتعد عن هنا أيها الأعمى وإلا قطعت رقبتك.
_ا***ى عمى القلوب يا معلم، أسأل الله لنا ولك الهداية.
_خرج بعض الناس من نوافذهم وهم يقولون في خوف: لا تغضب يا معلم "صابر" هو لا يقصد، هيا يا شيخ "فرحات" عد لدارك الآن.
_غمغم الحاج فرحات في نفسه الجميع يخافون من رجل لا يخاف الله، لا يصوم ولا يصلي، يهضم حقوق غيره، ويمنع الناس رزقهم وينزع الأمان عن حياتهم، تبًا لهؤلاء الجبناء، فلم يكترث لهم وظل يدق على الدف فاستشاط غضب المعلم صابر وقذف كوب الشاي الساخن على وجه الرجل الذي سقط أرضًا وتورم حاجبه من الكوب الزجاجي، وسط ضحكات المعلم صابر، وحزن قلوب سكان الشارع الذين لا يجرؤون على التفوه بكلمة واحدة.
_قام الرجل يبكي ويجمع أغراضه التي سقطت وابتلت من أثر الطين، ثم التفت إلى المعلم صابر قائلًا: أتجرؤ على رجل ضعيف له رب قوي؟! إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك، أسأل الله أن يسلط عليك من هو أقوى منك.
_مضى في طريقه عائدًا إلى منزله، اغتسل وذهب إلى المسجد يصلي ويدعو الله بالهلاك للمعلم صابر الذي لا يكف عن ظلمه، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يمنعه من المرور من ذلك الشارع.
كان ما يفسد جو رمضان على البلدة، هو وجود المعلم صابر فلم يسلم منه الفقراء الذين كان يشاركهم رزقهم، وما حصدوه من الأثرياء، وفرض الإتاوة على سائقي الدواب الذين ينقلون البضائع بالأجر.
_ذات عصر يوم، جلس المعلم صابر أمام مقهاه الذي يقع في الناحية الشرقية للبلدة، وهو ما يُحتم على المارة المرور من أمامه، لوقوعه في المدخل الرئيسي، يضع إحدى قدميه فوق الأخرى في كبرياء وغرور، يحتسي الشاي، ويدخن على النارجيلة "الشيشة" وبجانبه وقف صبيانه السبعة يمسكون بالعصي منتظرين عودة الركب بالدواب، حاملين عليها الأمتعة وما حصدوا من هدايا نفيسة أعطاها لهم تجار البلاد المجاورة الذين ربحت تجارتهم، إذ لا يمر ركب إلا ويفتش فيأخذ المعلم صابر ما يروق له، ولا يقدر أحد على اعتراضه أو ينبس بكلمة.
_كان من بين هؤلاء الركب إخوة ثلاثة أقوياء من تجار البلاد المجاورة، أتوا للمرة الأولى يبيعون التمر والعسل للقرى، استوقفهم صبيان المعلم صابر للتفتيش ولنيل نصيبهم من البضائع، رفض الإخوة الوقوف بين يدي المعلم ورجاله الأقوياء، فنهض المعلم غاضبًا وقذف بالنارجيلة في وجه أحدهم إلا أنه تفاداها، وأصابته جذوة فحم في يده، فش*هت أصابعه.
_غضب الإخوة وقفزوا من فوق الدواب على حين غرة، وأمسكوا بالعصي من أيدي الرجال، وركلوا بأرجلهم في بطونهم، ونزلوا بالعصي على رؤوسهم ورأس المعلم صابر، وسط فرحة كبيرة من أهل البلدة الذين وقفوا يصفقون لهؤلاء الشجعان الثلاثة الذين فعلوا في مرة واحدة ما لم تفعله بلدة بأكملها طوال العمر، لم يتركهم الرجال إلا بفقدان الوعي، وتركوهم راقدين بلا حراك، وذهبوا.
_أصيب المعلم صابر بشرخ في جمجمة المخ، و**ر في العمود الفقري جعله يكمل حياته على كرسي متحرك، فكان يعتصر قلبه ألمًا على ما حل به وبرجاله الذين مات معظمهم بعد صراع مع المرض، وبقي البعض الآخر عاجزين، يتوسلون إلى الناس لإعطائهم شربة ماء لا يقدرون على القيام لتناولها، لأنهم استخدموا نعمة القوة في الشر.
_تذكر دائمًا أن هناك من هو أقوى منك، فلا تستخدم قوتك إلا في الحق، وإياك والغرور فإنه يعمي القلب ويأخذ بصاحبه نحو الهاوية، وإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك.
القصة الثانية
"لكل إنسان نصيب من اسمه ، ولقد أسميتك صادق فاجعل نصيبك الأكبر من اسمك في الصدق، فهو رأس مال لا يفنى وإن فنيت الأجساد وقبضت الأرواح، تظل السيرة الحسنة ما دامت السماوات والأرض" .
_كانت هذه نصائح والد صادق الذي لا يكف يوماً عن إعطائها له قبل أن يترك له أراضي واسعة وبيوت شامخة البنيان، يعرفه جميع من بالقرية نظراً لثرائه الفاحش وذكائه الصارخ، نشأ صادق وتربى في النعيم الذي تركه له والده، بعد أن قسم التركة عليه وعلى إخوته قبل وفاته ، كان رغم كبر سنه إلا أنه يتمتع بصحة جيدة، بخيل للناظر إليه أنه في الأربعين من عمره وليس في الثالثة والخمسين.
_تمكن من شراء نصيب أختيه كما تمكن من شراء العديد من البيوت والأراضي حتى صارت البلدة يطلق عليها"قرية صادق " ولم لا وقد أصبح يمتلك ما يزيد عن نصفها ، إلى جانب امتلاكه العديد من مزارع الماشية ، فكان المص*ر الأول للحوم في محافظة قنا، لا يغمض له جفن حتى يمتلك أرضاً جديدة يضمها لحيزته.
_يقع بالجوار منه أرض يمتلكها ورثة الشيخ عمران الذي كان إمام المسجد و يعلم اطفال القرية القراءة والكتابة، حاول صادق مرارا وتكرارا امتلاك هذه البقعة التي تقع في الناحية الشرقية للبلدة والتي بامتلاكها تصبح الناحية الشرقية ملكاً له، إلا أن عروضه رغم اغرائها قوبلت جميعها بالرفض التام .
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_نهض صادق واقفاً ترتسم على شفتيه ابتسامة واسعة: عليكم السلام ومد يده مصافحاً بترحاب شديد تفضل يا جاري العزيز، ثم ضغط على زر صغير يعتلي مكتبه الخشبي فسرعان ما دخل العامل فالتفت صادق نحو الرجل قائلاً: هل تود أن نتناول الفطور أولاً؟ أم نتناول القهوة؟
_قضب الرجل حاجبيه وتحدث بصرامة ، لم آت إلى هنا لتناول الطعام والشراب أنت تدرك جيداً السبب الرئيسي في وجودي هنا.
_ابتسم صادق ابتسامة ماكرة قبل أن يشير إلى العامل، أحضر كوبين من القهوة الخاصة بي ولا تسمح لأحد بالدخول.
_أغلق باب الحجرة فنظر صادق إلى الرجل بدهاء: ما الأمر يا أستاذ أسعد ؟نحن جيران ولا يليق بنا أن نتعامل هكذا.
_أخذ الرجل شهيقا طويلاً قبل أن يقول لا داعي لقلب الطاولة في الحديث ، لو انك تراعي الجار حقه لما سمحت لأغنامك التي يشرف على رعايتها خمسة رجال، أن تفسد زرعنا وليست المرة الأولى أن يحدث ذلك، متى تنتهي تلك اللعبة السخيفة؟
_نظر صادق باشمئزاز : أتعلم يا استاذ أسعد؟ لا يجرؤ أحد على التحدث معي هكذا لكنني ألتمس لك العذر.
_قهقه بصوت يوحي بالسخرية: هل تظن نفسك قوياً لهذه الدرجة؟ يا عزيزي أنا أشفق عليك من نفسك الأمارة بالسوء ، فالإنسان منا ما هو إلا بضع أوعية دماء قد تراق بين لحظة وضحاها فيجد المرء نفسه قد هَوى إلى حيث اللاعودة أبدأ.
_ارتشف رشفة من كوب القهوة وتطلع إليه بهدوء: لقد عرضت عليك كثيرا أن أبتاعها منك بأغلى الأثمان وأنت تعي جيدا أنني أقدر على أخذها غصبا ، لكنني لا أريد ذلك إكراماً لجثمان الشيخ عمران في لحده.
_ليس بالجديد عليك أن تفعل ذلك، كما لفقت تهمة زور ل " ناصر الجبالي " واغتصبت أرضه دون وجه حق، لم تكترث لوالده المسن وعياله وهم يشردون أمامه ، في حين أشفق عليه أحد الغرباء من القرية المجاورة وأسكنه بيته، وأنت تتظاهر بالشهامة والمروءة بأنك من أخرجته من السجن، وتخفي في نفسك ما تبديه من وجه ملائكي ، كم نفس ظلمت إلى الآن، ألم تر أخوتك وأبنائهم الأطباء والمهندسين وأخلاقهم.
_اهتزت الحجرة بتصفيق صادق قبل أن يقول ساخراً: يا إلهي لقد انتابني القشعريرة، هذه الكلمات تلقيها لتلاميذك في المدرسة، أما أنا فالكلمة العليا عندي هي المال ، المال يا عزيزي يمحو الشرف والفضيلة وكل هذا الهراء الذي تقوله ، أما عن أرضك سآخذها حتماً، وأولادي الذين تقارنهم بأبناء إخوتي هم الآن في المرحلة الثانوية عما قريب سيحصلون على شهادة البكالوريوس بجامعة الطب لكنها ستكون من جامعة نيويورك، سيكونون أفضل من بالقرية، سيرثون الجاه والمال كابرا عن كابر.
_ حدق بعينيه : لقد أعمى المال الحرام عينيك ، لقد لطخت المال الحلال الذي ورثته بمالٕ حرام ، أما عن أرضي فأنا أؤثر الموت على تركها ولن تطأ قدمك شبراً منها ما دمت حياً.
_جن جنون صادق وأمسك بياقة أسعد وصرخ في الأمن بغضب استدعوا رجال الشرطة فوراً وقيدوا ذلك المجرم بإحكام وأمسك بمزهرية الورد من أمامه وض*ب رجل الأمن في رأسه فسالت الدماء من جبهته وأخرج صرة من النقود ودسها في معطف أسعد ، حضر رجال الشرطة على الفور ليجدوا الرجل ينزف بالدماء من رأسه وصادق يصيح بهم ألقوا بالقبض على هذا الو*د الذي سرق نقودي وعندما حاول رجال الأمن القيام بعملهم قام بالاعتداء عليهم دون شفقة ، حرروا الواقعة ، سرقة بالإكراه وتعدي على موظف أثناء تأدية عمله.
تماسك أسعد وهو يردد حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم رد مظالمنا حسرة وخيبة يراهما في أبنائه نصب عينيه.
_انتشر الخبر في أنحاء البلدة ، كيف للاستاذ أسعد المعلم الفاضل ابن الشيخ عمران إمام المسجد أن يرتكب جرما كهذا ؟ أسرعت زوجة أسعد وأخوته يرجون صادق أن يعفو عنه، وأسعد يرفض بيع الأرض وهو يقول لهم لقد فصلت عن العمل وهذه الأرض هي كل ما تبقى لنا ولن أفرط في شبر واحد منها .
_لكن صادق تحايل عليهم وساومهم على شراء الأرض بثمن بخس مقابل إطلاق سراح أسعد الذي تفاجأ بخروجه من السجن قبل أن يمضي أسبوع واحد من ثلاث سنوات عقوبة كان من المفترض أن يقضيها ، كاد أن يقتل زوجته وأخوته عندما علم بالأمر ، لكن ما كان له من حيلة وقد حدث ما حدث.
_اشترى منزلاً صغيراً يحويهم جميعاً بالكاد ، وكلما مر على أرضه يشعر بغصة في حلقة.، ويتمتم بدعوات بينه وبين الله.
_اعتاد صادق اقتناء العصي الثمينة من الخرزان الإيطالي المزينة من الأعلي ببعض الأحجار الكريمة ويختتم أسفلها بالجلد، كما اعتاد ارتداء ثوبه الصعيدي الكامل من جلباب واسع من أفخر أنواع الأقمشة، تعلوه عباءة مفتوحة مطرزة الحواف، بينما يغطي رأسه عمامة بيضاء زاهية كتيجان الملوك، مما يجعل كل من يراه يهابه ويحسب له ألف حساب، وتمر السنوات وصادق يزداد ثراء بحق وغير حق ، لا يلقي بالا سوى امتلاك شيئاً جديداً .
_بعد مرور عامين على تلك الحادثة، للمرة الأولى يدخل المسجد الذي قد أنشأه والده فبالرغم من مرور تلك السنوات وبناء المسجد على أرضه وأنه لم يبخل عليه قط من تزين وإمداده كل ما يحتاجه من فرش وغيره، كما أوصاه والده إلا أنه للمرة الأولى يدخله ،" من المؤسف أن تكون محاطاً بكم لا بأس به من نعيم لكنك لا تستخدمه في الهدف الذي خلق له "
_ للمرة الأولى يرى نفسه ضعيفاً ، أسند رأسه إلى الحائط ، كأنه ينفض عن ذاكرته غبار الألم وجلس بجوار أسعد الذي يقرأ القرآن ولا يلتفت إليه كأنه ليس موجودا، سقطت الهيبة أرضاً ،تبعثرت القوة المزعومة و*دت أشلاء ، وجهه العبوس ينبئ عن جسد أثقلته ندبات الحياة، ألقى بعصاته جانباً والتفت إلى أسعد قائلا والدموع تملؤ عينيه فقط يمنعها محاولاً الحفاظ على ما تبقى من هيبته:
بإمكانك استرداد أرضك وبيتك الآن وأعوضك كل ما افتقدته بسببي ، كي تسامحني .
_رفع حاجبيه بدهشة : ماذا ؟ أنت تمزح أليس كذلك؟
_أغمض عينيه بأسف: كنت أظن أن القوة في جمع المال فحسب ، لكنني أدركت أني كنت في غيبوبة وان القوة الحقيقية في حب الناس وعمل الخير، لقد سافر ولداي للتعلم في جامعة نيويورك لكنني اكتشفت بعد مرور عامين أنهما لم يدخلا الجامعة، وما هما إلا مجرد عربيدين يدمنان الكحوليات، فضلاً عن أنهما كانا ي**عاني بشهادات نجاح زائفة.
_قبّل أسعد المصحف قبل أن يضعه جانباً ثم قال: ها أنت الآن فهمت أن المال الحرام يهدم كل ما بني منه ، لقد زيفت أوراق الأراضي والعقارات، وكم شردت من بيوت بطمعك ، ليس لأولادك جرما في ما حدث فلقد صارا على خطواتك تماماً، قد كنت تخوض في الوحل وتجاهد كي تصنع لهما المستقبل ونسيت أنه ليس عليك سوى اقتناء خطواتك لأن الأبناء يخطون آثار أقدام أبنائهم وأن المستقبل بيد الله، أتعلم؟ سأسامحك لأنه ليس من الإنسانية أن ترد م**وراً ويكفي ما أنت به من شعور بالذنب، يكفي انتقام الأقدار منك ، لكن إذا أردت أن تتوب صدقا فرد لكل ذي مظلمة مظلمته .
_اغرورقت عينيه بالدموع سأفعل ذلك لكن أولادي كيف أصلحهم ؟
_أصلح نفسك يتكفل الله بإصلاح أهلك واعلم أن الله لا يرد قلباً لجأ إليه لكن حقوق العباد لا بد أن يستردوها أولاً، وأشهد الله اني قد عفوت وسأذهب معك من الغد لنرد الحقوق لأصحابها.
_عانقه صادق باكيا: بل أردها الآن هيا بنا، لقد تعلمت درساً لا ينسى ، أنه يجب على الآباء اقتناء خطواتهم بعناية لأن الأبناء حتماً سيسيرون على خطواتهم