كان الحال في مملكة ماهيرا لا يختلف كثيرا عن مملكة شايا فلم يتقبل سكانها أمر التبادل التجاري حيث كانوا يرون أن ذلك سيضعف من قوتهم.
حيث أن تلك المعادن أثمن من أسماكهم، وأن تلك المعادن تعطيهم مزية تجعلهم يتفقون في القوة.
كل يوم يشعر جومار بالشوق يحرق قلبه وروحه بسبب بعد حبيبته ساري عنه، وكان حالها لا يختلف كثيرا عنها فلجأت إلى العالِم لكي يجد لها حلا في ذلك، انتهز تلك الفرصة وشجعها على الانصات لقلبها أن تهرب لحبيبها.
انزعجت من تلك الفكرة في باديء الأمر ولكنها لم تجد حلا بديلا عن ذلك، فاتفقت معه على مساعدتها على الهروب، كما وعدها أنه لن يقتفي أثرها في تلك المرة.
كان العالم يعلم جيدا مدى تعلق الملك الذي أهانه بابنته ساري لذا قرر معاقبته بحرمانه من ابنته التي ستتحدى العادات وتقاليد مجتمعها.
في غفلة من حراس القصر، انتهزت فرصة خروج والدها الملك لصيد الأسماك، خرجت متخفية في زى أحد الحراس، لتقابل العالِم على الحدود بين ماهيرا وشايا.
جهز لها مركبًا شراعيا مطورًا، وصلت الشاطيء بأمان في المغيب، اختبأت في أول كهف قا**ها حتى غابت الشمس تمامًا، تسللت بحذر، ثم بحثت عن النفق المؤدي لداخل المملكة، ومن الصدف الرائعة التقى بها جومار الذي تعود أن يزور الشاطيء قبل العودة لبيته. رغم تنكرها في زي رجل إلا أن قلبه تعرفها على الفور عندما التقت عيناهما ببعض في ذلك النفق.
أمسك كتفيها بقوة وقال: ساري! ما الذي جاء بك إلى هنا، ابتسمت له قبل أن تلقي بجسدها الضعيف في جوف قلبه وقالت: شوقي إليك، لا أريد العودة، الحياة جحيم بدونك.
ارتسمت الحيرة فوق وجهه وقال: ولكن لا يمكنك الهرب فوالدك ملك ولن يتركك تتخطين عادات وتقاليد المملكة.امتلأت عيناها بالدموع وقالت بصوت منتحب: أعلم ذلك ولكن لا يمكنني العيش دونك.احتضنها بقوة وقال لها: دموعك تلك غالية عندي، لن أجعل تلك العادات الظالمة تحرم قلبينا من السعادة.
اصطحبها لبيته، أما في قصر أبيها كان الوضع مزريا فقد تم اكتشاف اختفاء الأميرة، واستشاط الملك غضبا عندما قرأ ذلك الخطاب الذي زيفه العالِم على ل**ن الأميرة ساري، أخبر فيه والدها أنها هربت لتتزوج من تحب وهو جومار الذي أنقذها هناك.تظاهر العالِم بالتجاهل عندما استدعاه الملك ليخبره بما فعلته ابنته الحمقاء، لعله يجد لديه حلا يجنب وقوع المملكتين في الحرب.ولكن العالِم أقنعه بغير ذلك، فدار الحوار التالي بينهما:
- سيدي الملك إنها فرصتنا لغزو مملكة ماهيرا، أنتركهم يتمتعون بتلك الثروات المعدني وحدهم، لقد رفضوا التجارة معنا.
ارتسمت الحسرة على وجه الملك فقال: ولكنهم أقوياء لا طاقة لنا بمحاربتهم.
ابتسم العالِم بدهاء وقال بثقة: هل تعقد أنني قضيت وقتي في اختراع الدمى للأميرة؟ لقد صنعت الكثير من الأسلحة وطورتها، والأدهى أنها مصنوعة من نفس المعادن التي يستخرجها سكان مملكة ماهيرا من مناجمهم.
اتسعت عينا الملك دهشة وقال: حقان متى وكيف فعلت ذلك؟
انتفخت أوداج العالِم فتلك المرة الأولى التي يقدر الملك مواهبه، فقال بفخر: لقد كنت أتسلل إلى حدودهم وإلى مناجمهم وأسرق بعضًا من معادنهم.
اتسعت عينا الملك انبهارا وقال بلهفة: كيف استطعت ذلك دون أن يلاحظوا وجودك؟
ضاقت عينا العالم وقال بخبث: لقد اخترعت مركبا يغوص في أعماق المياه دون أن يمسني ضرر، أسافر بها إليهم دون أن يلاحظني أحد ثم أرتدي زيا مموها بلون جبالهم.
سأله الملك بحماس: هل صنعت الكثير من تلك المراكب الغواصة؟ ستساعدنا كثيرا في عملية الغزو.
ابتسم العالِم لأنه استطاع أخيرا إقناع الملك بالغزو وتحقيق انتقامه منه والثأر لكرامته والاستيلاء على ملكه فهو يرى أنه الأجدر في حكم مملكة شايا بعلمه وسعة إطلاعه.
في غضون أيام جهز الملك فرقًا من حراسه لينقذ ابنته للمرة الثانية، والاستيلاء على المملكة بقتل حاكمها.
بعد غروب الشمس نزلت المراكب الغواصة تحت المياه تحركها مجاديف جانبية يم**ها عدد من حراس الملك.
وصلت المركبات وتخفى الحراس في ملابس مموهة، وتسللوا لداخل المملكة، اتجه الملك إلى بيت جومار بمرافقة بعض حراسه، عاشت ساري أسعد أيام حياتها في بيت جومار الذي قرر أن يعلن زواجه منها في صباح الغد على الجميع.
ولكن مجيء والدها قلب الحداث رأسا على عقب ودارت حرب عصابات بين حراس قصر ملك ماهيرا الذين تعرفوا على أصحاب هذا الهجوم الغاشم‘فهيئة سكان مملكة شايا الضعيفة وشت بهم فتعرفوهم على الفور.
ساد الهرج والمرج وخرج حراس مملكة شايا من كل جانب وأحاطوا بأهم المعالم الرئيسية.
استخدموا أسلحة عجيبة لأَسْرِ الكثير من سكان ماهيرا الذين لم يتوقعوا يومًا أن يغزوهم عليهم مملكة شايا الضعفاء، حيث أغرتهم قوتهم فلم يعبئوا ويهتموا بتحصين حدودهم مع الممالك الأخرى.
تطورت الأحداث لتصبح دامية بين الجميع، أعلنت الفرقة المسئولة عن الاستيلاء على القصر الملكي الماهيري وأنه صار تحت سيادة مملكة شايا.
قُتِل الملك الماهيري وزوجته إثر دفاعهما عن القصر وكذلك حراس القصر الذين تفاجئوا بهذا الهجوم الغاشم، تفاجأ جومار بما حدث في بلاده، فشعر بأسوء شعور نبض به قلبه،وهو الخيانة، لقد خانته ساري واستغلت تقربه منها وعاطفته لها، ارتسمت علامات الدهشة على وجهها عندما جاء أحد الحراس لوالدها الملك ليعلن سقوط مملكة ماهيرا تحت سلطتهم بعد مقتل ملكهم.
شعر جومار أنه المسئول عما آلت إليه الأوضاع في مملكته وأنه بغبائه سهل لمملكة شايا غزو وطنه. استشاط غضبًا فأطاح الحراس المحيطين به بعدة ركلات قوية سريعة مفاجأة، مكنته من الهرب، أطلق صفيرا مميزا فخرج جواده بسرعة ليمتطيه وسط ذهول الجميع.
لم يستطع أحدهم اللحاق به، أمسك ساري ذراع والدها وقالت بحرقة: ماذا فعلت يا أبي؟ لماذا غزوت أرضهم؟ أجباها بحزم: إنهم لم يوافقوا على طلبنا بأمر التجارة معهم.
استنكرت رده فتراجعت عدة خطوات للخلف، ثم أخفت وجهها اشمئزازا من فعلته، أمر والدها حراسه بأسرها والعودة بها إلى المملكة.
استسلمت ساري لهم، فالنظرة القاتلة التي رمقها بها جومار قبل هروبه أخبرتها بأن ذلك الحب الوليد قد تبخر بنار الكراهية التي اندلعت بسبب ذلك الغزو الغاشم.
شاهد جومار سكان المملكة يتساقطون بتلك الأسلحة العجيبة، ولكنه لم يتوقف لحظة ليدافع عنهم، كان الغضب يسيطر عليه، انطلق جواده بلا هدف يقطع السهول الضيقة بين الجبال الشهقة التي لم تحمي مملكة ماهيرا.
ضجيج الخيانة يعصف بوجدانه، إنه الحب الذي تسبب في تلك الكارثة، فجأة أصاب جواده التعب فسقط مغشيا عليه، فكانت ردة فعل جسده أن يقفز عاليا بعيدا عنه، ليرتطم بشدة بصخرة كبيرة سقطت رأسه فوقها.بعد عدة أيام وفي ذلك الصباح، تخضبت سماء ماهيرا بالحزن، أشرقت شمسها بضوئها الأزرق الكئيب، معلنة حدادها على حال مملكة ماهيرا التي وصلت إليها.
غاب عن الوعي فترة من الزمن، بعد عدة أيام استفاق؛ ليجد نفسه مُغَبَرًا، كان الألم يعصف برأسه، جرح غائر بقلبه، تذكر ما حدث و*در مملكة شايا بوطنه، لذا قرر أن يعود أدراجه لينقذ ما يمكن إنقاذه ويعتذر لبلاده التي تسبب في هلاكها في لحظة ضعف.بحث عن جواده فوجده يبعد عنه عدة أمتار، اقترب منه بلهفة، تفحصه فوجده قد فارق الحياة منذ أيام، حدث نفسه قائلا: بحق ماهيرا غبت عن الوعي عدة أيام، ترى ماذا حدث هناك؟
استجمع قواه ثم حدد اتجاه العودة من خلال ظلال الجبال، استغرقت مسيرته يوما سيرا على الأقدام وليختصر الوقت، استخدم مهاراته في تسلق الجبال والتنقل بينها بالقفز بالحبال.كانت الحبال قوية مصنوعة من أصواف وأوبار الح*****ت، وكانت متدلية من قمم الجبال، ليستخدمها العامة، في أي وقت.
كما كانت بعض الجسور المصنوعة من الحبال أيضا وهي مخصصة للنساء والأطفال.
كانت تلك وسيلة التنقل المنتشرة في مملكة ماهيرا والمناسبة للطبيعة الجبلية بها، لم يتوقف لينال قسطًا من الراحة، حيث كانت نار الغضب تدفعه للمضي قُدمًا نحو الثأر من الغزاة. وصل جومار أخيرا لوسط المملكة، كانت الشمس تتدثر برداء النوم لتغيب عن هذا اليوم، اضطرب قلبه كلما تذكر تلك المشاهد القاسية، سقوط العشرات من رجال وطنه إثر سهام غادرة من مملكة شايا.
من عادة سكان ماهيرا أنهم لا يدفنون جثث موتاهم فورا، ولكن يبقونها ثلاثة أيام، لتوديعهم وداعا يليق بهم. تراصت الجثث فوق بعضها لتشكل جبلا صغيرا، فالجبال مقدسة لدى سكان ماهيرا، تراصت الجثث بتلك الكيفية، جثث الرجال تمثل قاعدة الجبل ثم جثث النساء ثم الأطفال.
اصطف ذويهم حولهم ثم قاموا بتراتيل الوداع، قرعت الطبول مزامنة مع التراتيل، شاركهم جومار.
بعد انتهاء مراسم الوداع قاموا بردم آلاف الرمال فوق جثث ذويهم، والحزن يمطر قلبهم حجارة من سجيل تلهب مشاعرهم الغاضبة لفراقهم.
لاحظ جومار أن جثث الرجال أكثر من النساء والأطفال، وهذا خطر كبير على المملكة، كما لاحظ عدم وجود حراس مملكة شايا. لمح صديقه دومار يواسي امرأة كان زوجها من ضحايا الغزو الغاشم، هز رأسه وتمتم ساخرا: تنتهز أى فرصة لتتقرب من النساء، إنك لرجل لعوب يا دومار، لاتحترم حرمة الموتى.
كان يبتعد عنه بضع أقدام ماهيرية، وكز جومار صديقه من الخلف عند الكتف، فالتفت على الفور، برقت عينا دومار فرحا فاحتضن صديقه وقال له بلهفة: جومار أين كنت لقد بحثت عنك في كل مكان تذهب إليه. استأذن دومان من السيدة المكلومة، أخبر دومار صديقه أن بيته تعرض للدمار بيد حراس ملك شايا، فعرض عليه أن يبيت ليلته في بيته.وافق جومار ورافقه وفي الطريق أخبره أنه كان تعرض لحادث وظل تحت تأثير غيبوبة استمرت لثلاثة أيام.
كان جومار قد فقد الكثير من دمائه فكان شاحب اللون، وصل بيت صديقه والاجهاد بلغ منتهاه، لاحظ دومار ذلك فأعد له طعاما وأعشابا تعيد له قوته بسرعة.
كان بيت دومار لا يختلف كثيرا عن بيت جومار من حيث بساطة التأثيث، استلق فوق أريكة صخرية يعلوها فراش من فراء الح*****ت.
كان جومار قائدا بالفطرة، رغم أنه كان صيادا وليس ذي شأن في مملكته، إلا أنه امتلك نظرة مستقبلية لمملكة ماهيرا بعد ما حدث من غزو غاشم.
أحضر دومار عدة أطباق تمتليء بالطعام المفضل لجومار، قبل أن يتناول طعامه سأله سؤالا هاما: أين ذهب حراس مملكة شايا؟
أجابه بلهجة ساخرة: هؤلاء الأوغاد عادوا إلى مملكتهم بعد ما نهبوا الكثير من ثروات مناجمنا، المعادن الثمينة عثروا عليها ونهبوها.ضغط جومار على أسنانه بقوة حتى أص*رت صريرا ينم عن غضب كبير يجتاح نفسه، قال بحزم: سنلقنهم درسا قاسيا.
قال دومار بسخرية: وكيف يمكننا أن نفعل ذلك وقد قتل أقوى رجالنا.
ضم جومار قبضته وقال بحماس: نستولد غيرهم، على النساء إنجاب الكثير من الذكور، ليزداد أعدادنا ونكون جيشا قويا.
قال دومار باستنكار: ولكن هذا سيأخذ وقتا طويلا، كما أن النساء لايمكنهم التحكم في نوع المولود.
نهض جومار وقال بلهجة غامضة: أنسيت الجبل المقدس؟ إنه لديه القوة لتسريع نمو الأطفال، كما فعل القدماء.
ابتسم دومار وقال: حقا، لقد حان الوقت لنستخدم تلك القوة السحرية. ابتسم جومار وقال: في الغد سنعرض تلك الفكرة على العامة.
كانت تلك الأحداث في الماضي ، ولكن هناك أحداث لم يدركها جومار وساري إلا بعد وقوعهم في تلك الفجوة الزمنية التي أعادتهم للماضي حتى تكتمل لوحة البازل التي لم تتضح لهم قبل سقوطهم في الغيبوبة.
تحول الحب الذي نما بقوة بين أضلع جومار إلى كراهية شديد لساري التي جعلته يمقت جميع النساء سواء في مملكته أو الممالك الأخرى، ظن أنهن نقط ضعف أي مملكة ونقطة ضعف الرجال.
يتبع>>>>>>