الفصل الثاني

1759 Words
فتاة ستوكهولم الفصل الثاني أشعل ”كريم“ سيجارة، قضمها غيظاً حتى كاد أن يُدميها، لتأخّر الحافلة التي يستقلّها إلى وظيفة لم يحبّها يوماً؛ ولكنّها كانت كافية لسدّ عجزاً ج*سيّاً خيّم كثيراً على جيبه.. ثم دهسها بحذاء إكتسب مرونة أخطبوط من كثرة السير، ليصعد أخيراً إلى أتوبيس تتفجّر الناس من نوافذه لشدّة الإزدحام، ولم يكن يوماً يتخيّل أن تئول به الحياة إلى ذلك. وقف منصهراً على أرضيّة يكاد يلمسها بقدميه؛ كجمرة عَلَت سطح «جوزة»، أفقدها توازنها أنفاس حشّاش.. باحثاً بيده اليمنى عن ق**ب معدني يجعله راسخاً على أرضيّة غلّفتها أعقاب سجائر وتذاكر تهشّمت إلى نصفين. ولم تدم معاناته إلّا لساعة، خرج على إثرها محطّم الأوصال؛ كجنين دُهِس تحت سيارة «لوري» سائقها، خَمَر عقله «توربة» حشيش أفغاني؛ ليجد ”ربيع“ في إنتظاره كالعادة أسفل مظلّة المحطّة؛ التي تحمل أرقاماً لمواصلات لم تمرّ يوماً من أمامها : — برضو متأخّر زيّ كل يوم!!.. ياخي نفسي مرّة تغلط وتيجي قبل ميعادك. نطقها ”ربيع“ بعيون، تهتّكت جفونها من أثر سهر ليالٍ طويلة باحثاً فيها عن مستقبل سعيد، ضلّ الطريق في الوصول إلى حياته قبل أن يجذبه ”كريم“ ركضاً نحو باب الشركة : — يابني إفهم بقى!!.. مش مهم إني آجي قبل ميعادي، المهم إنّي ما بتأخرش زيّ غيري. لحظات قطعها الإثنان نحو دفتر حضور، وَقَف عليه موظّف أمن أكله الدهر وشرب، جالساً يتثاءب كالعادة جوار يافطة معدنية، كُتِب عليها بحروف مزخرفة «Reciption»، ولا أدري كيف لمثله أن يعمل كموظف أمن؛ وهو لا يقدر على قتل نملة تسير فوق قميصه الأزرق، الذي دبّغته بقعة زيت حار أبَت بشموخ أن تسكن معدته. لم يطل روتينهما اليومي أكثر من دقائق حتى إستقرّ كلاهما خلف مكاتبهم الخشبية الرابضة في غرفة، زيّنت بابها لوحة معدنية مطبوع عليها «مسئولي الموارد البشرية». — صباح الخير يا بهوات، نهاركم عسل إن شاء الله.. الريّس عايزك في مكتبه يا أستاذ ”كريم“، أجيب لك قهوتك على هناك؟!!. لفظها ساعي، بلّل سواد شعره عِدّة شعيرات بيضاء بسبب هموم، جثمت طويلاً فوق قلب نَبَض بالحياة لثلاثين عامٍ فقط.. بعدها، إنكمش ”ربيع“ في كرسيه صارخاً بضحكة على شفتين غليظتين، كلّلت وجهاً عريضاً يجلس على رقبة لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة؛ رقبة تم تثبيتها بإحكام على كرشٍ دهنيّ، تصدّعت خلاياه قبل ان ينطق : — الإصطباحة بتاعة كل يوم، قابل بقى يا معلّم.. أمووووت وأعرف بسّ أنت بتسكت له ليه؟!!. لم يحتاج ”كريم“ وقتاً ليردّ على علامات التعجّب؛ التي حفرت جبين زميله وشكّلت أخاديد.. واثقاً خلع چاكيتة بذلته؛ التي إشتراها من محلّات نُثِرت كالرمال المتحرّكة في شارع «طلعت حرب» بمنطقة وسط البلد بعد فصال دام لقرون مع بائع، فَقَد رئتيه زفيراً قبل أن يبيعه إيّاها بثلاثمائة جنية، ثم وضعها فوق كرسيه ليرتديها الأخير بدلاً منه قبل أن ينطق؛ وهو يلملم أوراقاً دمّرها تراب يسطو دائماً من خلال نافذة «ألوميتال» يزحف فوقها شرخاً قطعيّاً : — أنا اللي مش عارف إنت شايله فوق رأسك وزاعق ليه؟!!.. على الأقل أرحم من اللي كان قبله، الله يجحمه.. ده كان بيصرف لنا المرتب ناقص ربعه!!. تنهيدة قصيرة هربت من بين ضلوع ”ربيع“ بصحبة إبتسامة حسرة، ض*بت زاوية فمه اليسرى؛ كمنجنيق أصيل قبل أن يُردِف في غيظ : — طيب روح شوف عايز يشغّل مين من عائلته المرّة دي؟!!.. والله أنا بقيت حاسس إننا شركة توظيف لحسابه؛ مش «HR» في مجلّة حكومية محترمة!!. أجاب ”كريم“ ب**تٍ أطبق على شفتين حال لونهما إلى الأ**د من التدخين، ثم ضَمّ أوراقه بين يديه بعد أن أطلّ بعينيه بينهم سريعاً كالرادار حتى سجّل مخالفة سير ع** الإتّجاه لورقة، أرادت أن تُلقي بحتفها خارج الدوسيه.. ثم سار بهم إلى مكتب المدير عابراً طُرقة رُصِفَت ببلاط يشكّل رقعة شطرنج مستطيلة : — صباح الفل يا ريّس!!.. ورق التعيينات اللي سعادتك كنت كلّف*ني به جاهز، ومش ناقص غير إمضاء سعادتك. نطقها ”كريم“ بعد أن طرق باب مديره المتربّع خلف نظّارة، كادت أن تسقط من على أنفه المُدبّب كرماح القرون الوسطى، ثم جلس على كرسي يركن صَفّ أوّل في شوارع مكتبه بعد أن أعطاه المدير إشارة أفادت ذلك، بيسرى تحمل قلماً سُخّر للتوقيع : — صباح النور يا ”كريم“، ألف مب**ك على الخطوبة يا سيدي.. بسّ يا رب العروسة ما تشغلكش عن شغلك هنا بقى!!. عبارة ترحيب تحمل تحذيراً، لم يُلق ”كريم“ له بالاً.. نظرة سريعة يجامعها إبتسامة تنزوي على نفسها؛ ستكون كافية للردّ عليها بالتأكيد : — بُصّ بقى!!.. عايزك تركّز وتفوق للي هقوله لك.. فيه بنتين ممتازين هيكونوا هنا يوم الثلاثاء إن شاء الله.. مش هوصيك بقا، عايزك تبيّض وشّي قدّامهم.. أنا خلاص إختبرتهم وشايف إن الشركة هنا محتاجة خبراتهم، يعني مش عشان قرايبي ولا حاجة لا سَمَح الله. إنحنى ”كريم“ برأسه إلى الأمام بعد أن أدرك ما يتوجّب عليه فعله.. عموديّاً هيّأ قلماً سحبه في خِفّة من علبة حَوَت العديد، فوق ورقة نتيجة قطفها بسرعة فهد بنغالي من على سطح المكتب : — تمام، فيه مُسمّى وظيفي مُعيّن حضرتك تؤمرني أكتبه في أوراق تعيينهم؟!!. شكّل المدير بحاجبيه رقم «٨» رافعاً وجنتين بارزتين، حاولتا لَمْس عينين تمّ حفظهما خلف «ڤاترينة»، طُليَت إطارتها بماء الذهب، ثم أجابه راسماً إشارات في الفراغ بيده اليمنى : — أيّ حاجة يا ”كريم“، المهم بسّ تكون مرتّباتهم معقولة.. مش عايزين مشاكل مع ا****عة!!. لم تكن تلك هي المرّة الأولى لـ”كريم“ التي يستخرج فيها قرارات تعيين لأقارب المدير بعد عمل مقابلات مسرحية، يتم إجراؤها أحياناً خارج الشركة.. يؤمن جيداً بأن لكل شخص مساوئه وعيوبه؛ ولكن ما يعنيه أن عيوب مديره لا تلقي إجحافاً بائناً على مرتّبه.. يقبل أيّ عيب إلّا الغَبَن في ورقات مالية، يكدّسها فوق بعضها مُشكّلاً بها أربعة جدران يحلم أن تجمعه يوماً ما بخطيبته ”أسماء“.. فتاة إستطاعت بجدارة تحطيم سنّ السادسة والعشرين دون رَجُل على الرغم من جمال ص**ح، تعجز ريشة «داڤنشي» عن وصفه.. شعرٌ بنيّ مزيّل بخصلات ذهبية، غلبت سبائك الذهب نقاءً، ويجلس كتاج سلطان عثماني فوق سحابة جلدية بيضاء، إخترقتها عيون تسبّب حَرَجاً لمياة البحر من شِدّة زُرقتها.. وتعتزّ دائماً بسلسلة على شكل مُصَغّر ناب أسد، أهداها لها ”كريم“ في عيد ميلادها الواحد والعشرين. خرج ”كريم“ من مكتب مديره متأبّطاً دوسيهاته ولم ينسَ غَلق باب، ثُبّت أعلى منتصفه لوحة خشب مكتوب عليها «حسني ميمون.. رئيس مجلس الإدارة» خلفه.. لحظات قطعها سيراً إلى غرفة مكتبه ليمتطي «شِبشِب» يحتمى من التراب داخل أحد أدراج مكتبه السفليّة، ثم رمق مستهجِناً ”ربيع“؛ الذي ثَمِل من لعبة «Solitaire» على تليفونه الـ«نوكيا» سريعاً قبل أن يحرّك عضلات ل**نه : — وهي بقى إن شاء الله لما توافق عليك؛ هتفضل تلعب في الموبايل قدّامها كده برضو؟!. فَعَل سؤاله مفعول المُنشّط لخلايا مُخّ، لم يهتّم يوماً إلّا بقزقزة اللب السوري؛ حيث إنتفض ”ربيع“ من على كرسيه؛ كمن يسير مبلّلاً عارِ القدمين فوق مجموعة من الكابلات الكهربائية : — هي وافقت خلاص؟!!.. والله لأبيع الموبايل لو عايزة، بس هي توافق!!. تحرّك ”كريم“ من جانب ذلك الفَمّ السوري، وأشعل سيجارة جوار النافذة منكمشاً في قميصه من البرد، ثم لحظة سكون قطعها زفير دخّاني محمول بعبارة : — يابني إتقل شويّة، مش كده!!.. البنات بتحِب الراجل التقيل، وبعدين قولتلك بطّل أكل في أم اللِبّ ده.. لا هي بتطيق ريحته، ولا أنا كمان يا أخي!!. أجابه ”ربيع“ بسعلة إصطناعية واضعاً يمينه على أنفه المفلطَح : — ده غِذاء الروح يابني، إيش فهّمك أنت!!.. وبعدين لما تبقى تبطل أنت الأوّل حرق في قَشّ الرزّ بتاعك ده، إبقى تعالى إتكلّم!!. . *** . - ٢ - غابت ”سلمى“ في النوم لساعتين، أراحت فيهما جسداً أنهكته سيارة «بيچو» قادها سائق بصره كان «شيش بيش» ولم تستيقظ إلا على صوت، رافقته لكزة من أختها الصغيرة : — ”سلمى“!!.. ماما بتقول لك يالّة عشان الأكل هيبرد. تمطّعت قبل أن تجلس على طرف سرير تقتسمه ليلاً مع أختها، وأخذت تسترجع محتويات حلمها المبهم.. لم يكن ذلك صعباً، فهو قد تجسّد نابضاً بالحياة داخل عقلها.. إستغرقت لحظة في جمع المفردات.. حمامة بيضاء ذات إكليل أ**د على رأسها، ونور وهّاج ينبعث منه أريج محمّل برائحة تذوقّها أنفها مرة ولكن لا تدري أين!!.. بطيئاً قادت جسدها المنحوت ببراعة تجاه السفرة بعد أن بلّلت وجهها بالمياة.. وخلال ثانية فسّخت أمها فرخة تجلس علي عرش من الأرز جوار حاشية من البامية تخدمها على إستحياء : — حلمت حلم غريب أوي يا ماما.. خلّاني قايمة مبسوطة من النوم، مش عارفة ليه!!. سألتها ”تحية“ عن مكوّنات حلمها بعد أن وضعت ربعين الفرخة في أطباق إبنتيها، وإستولى طبقها على الربع الثالث ليعود الربع الاخير يتيماً على عرشه : — حلمت إني محبوسة في بيت مهجور، وأنقذتني حمامة بيضاء.. طبطبت على ضهرها قام خارج منها نور شديد أوي!!. في تفاؤل نطقت ”تحية“ بصوت أ**بته جبال المحشي على مدار خمسة عقود رونق الأمهات : — دي تبقى رؤية بقى مش حلم.. حمامة بيضاء ونور!!.. والله دي بشرة خير!. إبتسمت ”سلمى“ من ردّ أمها المجهّز سلفاً؛ وهي تقطّع قرن بامية أخذ شكل قذيفة «هاون» إلى شطرين.. فتِبعاً لقواعد الأمّهات يتمّ إعتماد أيّ حلم يشكّل مصلحة مُحتمَلة على أنه رؤية، ويصعُب دائماً إقناعهم من قِبَل «سيجموند فرويد» ذاته إذا عاد للحياة بع** ذلك. بحركات مدروسة روتينياً، حملت ”سلمى“ بقايا الطعام من على الطاولة إلى المطبخ، ثم أعدّت شاي بنعناع مجفّف وسارت به إلى مكتب ينظر بحقد إلى مرآتها.. في شرود جلست على كرسيها تحدّق في فراغ ما بين سطور كتاب «تهافت الفلاسفة»، وكانت كآبة البيت المهجور الراسخ في عقلها الباطن كافياً لتشتيت ذهن «أينشتاين» أثناء حلّه معادلة رياضية لطالب إعدادي.. فطنت ولا تعلم كم طال شرودها إلى طرقٍ حثيثٍ على باب غرفتها تعرّفت عليه أذنيها في ثوان : — بتذاكري!!.. هعطلك؟!!. — لا أبداً، أنا خلصت كده كده!. جلس ”كريم“ فوق حافة سرير، شكّل مع مكتبها حرف «T»، ثم تردّد، وتلعثم إلى أن إستقرّ ناطقاً : — أنا قولت أدخل أطّمن عليكي، وأشوفك لو عايزة حاجة!!. لا يمكنك تخيّل ذكاء فتاة، تدرس الفلسفة عن حب.. تَدافعَت أسباب الزيارة إلى عقلها بسرعة بدت الفمتوثانية دهراً إلى جانبها؛ فأغلقت في توتّر كتاباً تقفز منه كلمات «الغزالي» التي شعرت بالزهق من حديث فاتر يدور بينهما : — لا شكراً، ربنا يخليك.. آه صحيح!!.. بالنسبة لموضوع العريس أنا موافقة على الخطوبة مبدئياً، بس مفيش كتب كتاب قبل ما أخلّص جامعتي. لم يدرِ ”كريم“ تلك اللحظة.. هل يفرح للإطمئنان على أخته مع زميل أقصى خطاياه هي قزقزته للِبّ **نجاب!!.. أم يخاف لتورّطه في تجهيزها كعروسة!!.. وجد إجابة السؤال الثاني في جمعيّة يسهل تدبيرها بورقات مالية يقتطعها من جيبه كل شهر، وتزاحم أوراقاً أخرى تستطيع أمه توفيرها من معاش مرحوم، عَمِل بمصلحة الضرائب لأكثر من ثلاثة عقود إلى أن وافته الم**ّة : — طيب تمام، على خيرة الله.. هحدّد معاه ميعاد لقراءة الفاتحة الأسبوع الجايّ.. والخطوبة تبقى على أجازة الصيف إن شاء الله. — إن شاء الله. أنهت بها ”سلمى“ الحديث متضرعة إلى ربّها أن تكون مشيئته سلاماً عليها.. تدرِك جيداً أن لكل إنسان حظاً من إسمه كما سمعت؛ على الرغم من رؤيتها لبخلاء يحملون إسم «كريم»، وق**حات تحملن إسم «جميلة».. ولكنها تعي في قرارة نفسها أنها ستظل ”سلمى سلامة“ دائماً رغم أنف البخلاء وبشاعة الق**حات. .
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD