الفصل الثالث

1520 Words
. الفصل الثالث . - ١ - في إستقامة طوليّة، توسّط جَسَد ”سلمى“ المرسوم سريرها المتراخي بعدما إستيقظت من نُعاسٍ لم يدم طويلاً.. لحظات ورقص على طبلتيّ أذنيها أنين تليفونها المحمول؛ لتردّ بفَمٍ متثائب على صديقتها ”ياسمين“ : — إيه يا بنتي، ده كُلّه نوم؟!!. — معلشّ بقى، أصلي ماعرفتش أنام إمبارح.. بقولّك!!.. ما تنسيش تبقــ,,,. — عارفة عارفة.. أبقى أصوّر المحاضرات من ”هاجر“ عشان مش يفوتِك حاجة!!. — حبيبتي وربنا، يالّا بقى من هنا عشان ألحق أجهّز نفسي. — ماشي يا عروسة!.. عقبالي أنا كمان ياااارب. سريعاً دفنت ”سلمى“ خدّيها تحت مياة الحوض حتى إغتسل وجهها، ثم حملت شاياً إنتزعته يدها من أمام والدة لا تختلف في حجمها كثيراً عن فيل أفريقي عالي البدانة، وبرشاقة أرنب جبلي، إتّجهت به إلى غرفتها لتبديل ملابسها.. إرتدت بنطلون چينز «Skinny» أسفل بلوزتها البيضاء المرصّعة بخزف فضّي، تناثر حول رقبتها بإهمال؛ فرَمتها أمها بنظرة تواثبت من عينيها البنّيتين حتى وصلت بسلام لقدّها المنحوت : — ما شاء الله، الله أكبر!!.. إسم النبي حارسك وصاينك، إستنّي بقى لمّا أرقيكي!!!. — ترقيني ده إيه!!.. هتأخّر كده على الكوافير، وبعدين إيه الجديد ما أنتي بتشوفيني بالهدوم دي على طول!!!. أشرقت إبتسامة ظلّلها وجهاً كاوتشيّاً لا يعرف أحدٌ وزن الدهون المكوّنة له، أعلى بَدَن تمتدّ منه يدٌ نحو حقيبة نقود، تم فقدانها مؤخراً بين ن*ديها : — طيب أمسكي، خلّي دول معاكي.. هتقوليلي معايا!!!.. برضو إمسكي. — تسلمي لي يا حَجّة، ربّنا ما يحرمنا منّك أبداً يا رب. الحاجّة!!.. لفظ يطلقه المصريين بعد الإستعانة بمُعجَم، لم يتِمّ توصيله جيداً بعقولهم؛ على كُل من زارت بيت الله الحرام.. أو كل من تجاوزت الخمسين، وكلّل السواد ملابسها، ورَضَت قانعة بذلك السواد غير المفهوم.. سوادٌ يرسمها من الخارج، وقد لا يجد مسكناً له بالداخل. بإهمال قذفت ”سلمى“ جسدها داخل وسيلة مواصلات ذات ثلاث عجلات، تفوق سرعتها طائرة «بوينج» يلهو بها طفل بدلاً من تضييع وقته في الدراسة.. وقبل أن يرتَدّ إليها طرفها، لُفِظَت منها متّجهة نحو محل تصفيف الشعر؛ الذي عُلّق أعلى خارجه يافطة، تآكلت أغلب حروفها، وبقى منها فقط ما يفيد أنه خاص بالنساء.. وسرعان ما تربّعت أعلى كرسي التزيين، ولم تمضِ هفوة زمنية حتى جاءت ”داليا“ لتحيط رأسها بيديها : — صباح الخير، عايزة قَصّة معيّنة ولا زيّ كل مرّة؟!!. — مش عارفة الصراحة!.. بصّي!!.. أنا قراءة فاتحتي إنّهارده، شوفي إنتي بقى إيه المناسب ليّا وإعمليه!!. — والله!!.. ألف ألف مب**ك، ربّنا يتمّم لك على خير إن شاء الله. بعينين مدهوشتين، أردفت بها ”داليا“ في نمطيّة تجيد إخفاءها.. أنثى يستحيل كشف عمرها الحقيقي إلا بعد النظر في بطاقتها الشخصية؛ يصعُب تلقيبها بالآنسة، ولن ترضى عنك عيناك إذا أدرجتها كمدام.. إمرأة يتراقص عمرها كما تتراقص يداها أثناء تزيينها للنساء.. روتينيّاً رقَعَت ”داليا“ زغرودة بالصوت الحيّاني، ثم إتّجهت نحو «كاسيت» تدلّى بابه؛ ليكشف عن شريط ترقد داخله أغاني، تعوّدت على الركض خلف بعضها كلّما أتَت عروسة إلى المحل : — وشغّال فين بقى الباشمهندس على كده؟!!. — زميل أخويا في الشغل.. موظف على قدّه كده في المجلّة. — بسم الله ما شاء الله، طيب وجايب لك شقّة فين؟!!.. أوعي تكوني ناوية تقعدي مع حماتك!!!!. — لأ.. هو عايش لوحده أصلاً، وأبوه وأمّه ربنا إفتكرهم من كام سنة.. مفيش غير أخته ومهاجرة برّة مصر مع جوزها. قد تحتاج إلى مصنع ورق غزير الإنتاج؛ لتدوين محادثة تتِمّ بين فتاة ومصفّفة شَعر، تقتنع بأن الله وهبها عطيّة في ل**نها كما وهبها في أصابعها.. ولكن ”سلمى“ لم ترضخ لذلك؛ فأمالت رأسها إلى الخلف وأغلقت أذنيها بأفكارها.. أفكار مندفعة تزاحمت داخل عقلها حتى إهترست ولم يبق على قيد الحياة إلا واحدة.. ماذا سيحدث إذا إضطرّت إلى طلب الطلاق لإستحالة العِشرة معه بسبب جفاؤه؟!!!. . . *** . - ٢ - لَفَظَت سيجارة أنفاسها الأخيرة بين أنامل ”كريم“؛ فشيّعها إلى مثواها الأخير بالقرب من عائلتها في منفضة التبغ؛ التي تحتلّ المنصِب الأعلى لمحتويات مكتبه : — تمام كده يا أستاذة ”بيريهان“، أنا شايف إن ورق حضرتك مناسب جداً للوظيفة؛ اللي هنعلن عنها قريّب إن شاء الله. — ميرسي جداً يا أستاذ ”كريم“.. والله أونكل ”حسـ,,,“.. سوري!!.. قصدي أستاذ ”حسني“ دايماً يشكر في حضرتك. — لا شكر ولا حاجة!!.. ده حقّك.. هيتحدّد لك مرتّب بسيط في البداية حوالي أربعتلاف جنية في الشهر؛ كمسئولة العلاقات العامّة في المجلّة.. بس مش عايزك تقلقي من حاجة خالص!!.. ده هيبقى لفترة مؤقّتة بسّ لحدّ ما نشوف حاجة تناسب إمكانياتك أكتر إن شاء الله. — شكرا جداً لحضرتك.. والله مش عارفة أقول إيه على ذوقك ده كله!!!.. ”ريهام“ كمان والله كانت ناوية تيجي بس حصلّها ظروف. — لا أبداً ما تقوليش أي حاجة، وإبقي قولي لها بسّ تيجي في أيّ وقت بعد كده.. المجلّة يشرّفها إن يبقى فيها كفاءات نادرة زيّكم. وبعد أن غادرت غرفة المكتب، أشعل ”كريم“ سريعاً سيجارته محاولاً إسكات فكرة نَمَت داخله.. لقد جاهد طويلاً حتى أقنع ذاته بأن مديره هو الأرجح عقلاً؛ وإلا ما كان جالساً على كرسيه الوثير ومكتبه العامر.. أيّ وسوسة تحيده عن هذه الفكرة كانت بمثابة جحودٍ ساطع بالنسبة له.. جُحودٌ مغلّف بأوراق البنكنوت التي تنير جيبه كل أوّل شهر؛ فكيف له أن يقابل سماحة المدير الذي يعطيه راتبه كاملاً بهذا الجُحود؟؟!!. — مسئولة العلاقات العامّة مرّة واحدة يا فااااجر!!.. لأ وإيييييه!!!.. كفاءة وورقها مناسب كمان!!.. يابني دي بكالريوس تجارة عادي جداً وكمان كانت «مدبلرة» سنتين. — إطلع من نافوخي والنبي دلوقتي يا ”ربيع“، الله لا يسيئك.. أنا مش ناقصك!!.. وبعدين إنت إيه اللي جابك الشغل أصلاً!!.. إنت مش قراءة فاتحتك إنّهارده!!!.. ولا عايزني أرجع في كلامي؟!!. — لأ يا عمّ وعلى إيييه!!.. أنا مالي!.. إنتوا أحرار، إن شالله تخلّيها حتى رئيسة المجلة!!. عبّأ بها ”ربيع“ هواء الغرفة قبل أن ينصرف؛ لتثير برحيقها دبابير تغزو عقل صديقه.. ما هي الحرّية؟!.. ما هو المعنى الحقيقي وراء تلك الكلمة؟؟!!.. كيف تولَد الأفعال من رَحِم إرادة حرّة!!. الحرّية.. تأنف منها عقول عشّشت فيها جراثيم الخوف.. جراثيم تهدّدها دائماً بوباء الفوضى، وتُنتِج بعوضاً يُرهِب تارّة ويرغّب تارّة أخرى.. جراثيم تَمّ تخليقها إصطناعيّاً في بيئة خِصبة من القمع.. جراثيم لا تموت الإ بمحلول يمزج بين الفِكر والتأمّل؛ قد يستغرق عمر «نوح» لتركيبه. . *** . - ٣ - هل رأيت يوماً فتاة، أطلقت على طفلِها إسم حبيبها الأوّل؟!!.. كيف لم تستطع نسيانه رغم قهرٍ أجلسه فيما بعد قعيد الكُحول والمخدّرات؟!!.. حقّاً لا زلت لا أفهم حقيقة قلب، فعلت به الغريزة الأنثوية المجنونة ما يفعله خلّاط أسمنتي.. هل إعوجاج ضِلع «آدم» سبباً في ذلك!!.. يا ليت كان قفصه الص*ري على شكل منحنيات جهاز رسم أشعة، إذا كانت الإجابة كذلك. أخذ ”يوسف“ ي**و بالجِلد المُبَطّن بالقَشّ، جدران غرفة يستحيل الدخول إليها؛ إلا من خلال باب يتِمّ جذبه إلى أعلى.. هل تُدعى غرفة الكرار أم القرار؟!!.. لا يعلم ولا يهمّه أيضاً أن يعلم؛ فإسمها لن يشكل فارقاً بينه وبين ما إنتوى عقله عليه.. مهموماً إلتقط مِسماراً، ليدُقّ عليه بمطرقة فعلت به ما فعلته ”ريحانة“ في قلبه يوماً ما.. فتاة أصبحت أمّاً لصغيرٍ ينبض بالحياة من إفرازات رجلٍ غيره.. أيسمي ذلك خيانة؟!.. أم هي من يجب أن تلقّبه بذلك؟!!.. لا يعنيه.. لا يعنيه كل ذلك وأكثر، ولكن.. هل رأيت يوماً فتاة أطلقت على طفلِها إسم حبيبها الأوّل؟!!. إنتهى ”يوسف“ من صَمّ حوائط الغرفة؛ ليعود إلى الجراچ بنزغٍ في قلبه، لم يفارقه طيلة وحدته بعد فراق روحه مع حبيبته دائماً وأبداً.. فتاة لن تحتاج جهداً لتخيّلها.. قطعة من الماس تسير الهويني في الأرض كغزال إفريقي رشيق، وتعلو شفِتها العلوية حسنة تبتعد مسافة الثلاثة سنتيمترات.. لم يرَ أحدٌ قطعة من الماس تمشي على قدمين إلا ”يوسف“؛ الذي لم يكن يعلم أنها حتى الآن تكنِز في قاع دولاب ملابسها «شكمجيّة» أبانوس.. لسطحها برواز على شكل قلب له أغصان، ومزخرَف بحروف بيضاء تحمل إسميهما، كانت هي هديّته الأولى لها عندما زفّ إليها خبر نجاحها في سنتها الأولي بالجامعة؛ التي كانت بمثابة قفصٍ ورديّ لهما.. يعتقد الكثيرون أن الحب الأول هو الأصدق دائماً، أمّا من يدّعون خِبرة لم تكتمل بعد؛ فقد إتّفقوا على أنه مجرد أعراض بلوغٍ للقلب.. ولكن لا خلاف على أن الرجفة الأولى للقلب تصدّعه دائماً بزلزال بقوة عشرة «ريختر». هل تعلم حقاً مدى صعوبة الدنوّ من قلب فتاة، يشخص جمالها أبصار حشداً من الصقور الجارحة؟!!.. فتاة كانت أيقونة دُفعتها طوال سنواتها الأربعة بالجامعة.. يصرح علماء الفيزياء أنه ببلوغ الجسم سرعة الضوء؛ فإن الزمن حينها يتوقّف تماماً، وهذه كانت حالة ”يوسف“ عندما إصطدم قلبه بقلبها؛ وهو ينحني خاشعاً لعيونٍ زرقاء، تستشيط غضباً من «حلّوف» هدّدها بالرسوب في مادته، حين رفضت الإستسلام لزواجٍ يجمعها به. أخيراً أعدّ ”يوسف“ قفصاً حديدياً من ضلوع زحمت جراچه.. ضلوع مسلّحة إنتوى والده بناء غرفة بها، لخادمة لم تظهر للوجود بسبب وفاته.. وعلى سبيل التجربة، دلف إليه وجلس ليستريح داخله بروحٍ ممزّقة، لم تشعر بالإختلاف كثيراً بين السجن داخله وخارجه.. ثم شَعُر بكمال بناءه عندما لمعت عيناه بنظرة سحيقة إلى أرضية دُهِنَت بإطاراتٍ مطّاطيّة، أ**بتها **تاً ينافس رحِم حُبلى.. ولكن أمفعول رِماله البُنيّة هو الذي أطاح بعقله خارج جسده!!.. أم أنه لون كِسوة الجدران؛ التي أعادت على مسامع عقله ذكرى، كادت أن تشطره إلى نصفين!!.. فقد تشابهت حُمرة الكِسوة عمودياً مع فستان أطلّت به ”ريحانة“ حين عرضت عليه الزواج العرفي؛ كحلّ أخير بعد عدم رضوخ والده لطلبه بالزواج منها. يقولون أن العطور الموسيقي لقادرتان على ربط الدماغ بالذكريات.. ولكن، هل تستطيع الألوان فعل ذلك أيضاً؟!!.. سؤال لم يُطرَح بعد على عقل ”يوسف“ المشغول بتساؤل أرفع.. هل كان تشابه إسم طفل ”ريحانة“ مع إسمه محض صُدفة!!.. أم أن ذلك التشابه هو وليد صُدفة متعمّدة؟!!.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD