عام 2205
مخزن أسرار الكون
متحف المنتقمين
على غير عادة طقس شهر مارس الذي غالبا ما ي**و نصف الكرة الشمالي بجو معتدل لطيف على جميع الأنحاء، إلا أن طقس ذلك اليوم قد أعلن تمرده، وأعلن عن موجة استثنائية من البرق والرعد وعاصفة لم تكن في الحسبان، كأن الطبيعة تعلن حدادها على هاديس الذي منحها فرصة لتلتقط أنفاسها من جديد.
بعد أن أفنى الحضارة الحديثة لكوكب الأرض في لحظة جنون مطبق بالنسبة لشعوبها، ولكنها كانت لحظة إعادة إحياء موارد الكوكب الطبيعية من جديد.
بث مشهد السماء المتشحة بالسواد اللامع بالبرق الرعب في قلب جوين العالمة الأمريكية المتخصصة في شئون مجرة درب التبانة وعلوم أخرى، فأمسكت ذراع زوجها الأستاذ الجامعي كيفين بقوة، فأحاطها بذراعه تلك وقربها منه حتى يبعث في روحها الطمأنينة.
وصلا إلى البوابة الرئيسية لمتحف المنتقمين، نظرت جوين أولا للكاميرا الرئيسية المثبتة أعلى الباب الرئيسي؛فانطلقت أشعة خضراء زمردية غلفتها من رأسها حتى أخمص قدميها بسرعة.
انطلق صوت معدني يسمح لها بالولوج، تكرر المشهد مع كيفين فتعرفته الكاميرا فورا وسمحت له بالولوج. دخلت جوين تتحسس خصلات شعرها التي تطايرت بسبب رياح طاردتهما منذ قليل، مما أفسد تصفيفة شعرها، في حين كان كيفين يعدل من ربطة عنقه الحمراء التي تناسب تلك السهرة التي لم تكتمل بسبب استدعاء ماثيو لهما على وجه السرعة.
كل شيء في ذلك المتحف يُدار إلكترونيا بجانب تلك التعاويذ الغريبة التي يتلوها ماثيو من حين لآخر. تفادي الزوجان الاصطدام بتماثيل الأبطال حتى وصلا لتلك الزاوية في نهاية قاعة العرض.
في جزء من الثانية ظهرت أشعة زرقاء غمرتهما ثم اختفيا فورا؛ ليتواجدا بلمح البصرداخل معمل كبير جدا يفترش أسفل المتحف.
كان المشهد مهيبا حيث تراصت أجساد الأسرى في دائرة تحت تلك القبة الزجاجية المحيطة بهم. تلك المخلوقات الأسطورية العجيبة التي تم القبض عليها وأَسْرِها منذ خمس سنوات من كواكب مختلفة كبلوتو ونبتون.
ابتسم ماثيو بخبث واضح عندما أشار لشاشة كبيرة تحتل جدارا رئيسيا بالمعمل، تقدم الزوجان بشغف واضح تجاه الشاشة،عقد كيفين ذراعيه خلف ظهره محدقا فيها، قفزت جوين بحماس واضح وضحكت بهيستيرية مما لفت أنظار كيفين إليها.
جوين ماذا حدث؟ هل جننت؟ سألها كيفين باستهجان، فضحكت ضحكة قصيرة وقالت: إذا فهمت ما فهمته فستصاب بالهيستيريا بالتأكيد.
زفر بحنق واضح ثم أردف قائلا: كُفِّي عن تلك الألغاز وأخبريني ماذا علمتِ؟همَّت بأن تشرح له، ولكن قاطعها ماثيو بإشارة منها ف**تت، ربَّت ماثيو على كتف كيفين وقال بلهجة يشوبها الحماس:إنك تشاهد الآن وعى هاديس ذلك الوعي الذي خزن عليه آلاف من السنوات التي عاشها متنقلا بين الأجساد وبين الكواكب.
إن هذا الرجل لموسوعة حقا قالتها جوين بذهول بعد أن تصفحت بعضا من سجلات وعيه التي تم استخراجها.
تن*د كيفين ثم حك ذقنه بسبابته وقال: ولكن ماذا كان يريد ذلك الأ**ق من كوكب أورانوس قبل القبض عليه؟ زفر ماثيو بضيق: لم نعلم بعد؛ فوعيه غزير بالمعلومات، لقد استغرق الأمر منا خمس سنوات لا*****ص كل تلك المعلومات المخزنة في وعيه ولم نستخلص سوى القليل تخيل؟ سألت جوين في شرود:ألا يوجد طريقة لتسريع الأمر؟ مط ماثيو شفتيه وقال:هناك طريقة تسهل لنا الوصول لتلك الذكريات وهي أن نرسل فيرسا حاسوبيا لداخل وعيه يسهل من الإبحار فيه والتواصل معنا من خلال الأوامر الحاسوبية.
لوح كيفين بيده بحماسة واضحة ثم قال: وهل تم تصنيع ذلك الفيرس؟ **ت ماثيو هنيهة وارتسمت الجدية على وجهه وقال بحزم: نعم ولكن. . . .
ولكن ماذا؟ قالاها كيفين وجوين بنفس الوقت. حكَّ ماثيو أرنبة أنفه بوجوم ثم أردف قائلا: ولكن يجب أن نخاطر بعقلين بشريين من أجل السيطرة على هذا الوعي قبل نشر ذلك الفارس داخله.
قطبا الزوجان حاجبيهما كدلالة على عدم الفهم والدهشة، وقبل أن يتفوه أحدهما بكلمة،أشار ماثيو لكرسيين غريبي المظهر تتدلى منهما أسلاك كثيرة متصلة برأس هاديس ثم قال: يجب أولا أن يجلس على هذين الكرسيان عقلان بشريان قويَّان؛حتى يكونا حلقة الوصل بين الفيرس ووعى هاديس.
وضع ماثيو يديه على كتف جوين وكيفين وقال بلهجة تشوبها الرجاء: لم نجد أقوى من عقليكما للقيام بتلك المهمة الخطيرة.
ابتلع كيفين ريقه في جزع واضح وتصببت حبات العرق فوق جبينه الغض الأبيض من فرط القلق، في حين سألت جوين بتشكك: وكيف علمتم أننا الأفضل لتلك المهمة؟ حك ماثيو أذنه ثم أشاح بوجهه عنهما ثم قال: أتذكرون تلك الاختبارات النفسية التي تمت على عقولكم بعد تجاوز محنة القنبلة الكهرومغناطيسية؟
هزت جوين رأسها وقالت بحنق: إذن كنتم ترتبون للأمر منذ سنوات ونحن لا نعلم شيئا.زفرت بحنق فهي لا تفضل أن تكون فأر تجارب بأي حال من الأحوال.
تن*د ماثيو بغيظ حاول إخفائه بابتسامة عريضة ثم قال: لا مبرر لردة فعلكما تلك، فالاختبارات تمت مع عدد من العلماء وغيرهم من رجالنا سرا،فمن أخضعناهم للاختبارات وافقوا على مهماتهم؛فهناك الكثير من الأسرى لديهم الكثير من الأسرار يجب انتزاعها منهم انتزاعا ولأنكما الأقوى، لذا تم اختياركم لسبر أغوار وعى هاديس؛كما أنكما منسجمان جدا ولن يحدث تضارب بينكما.
اقترب منهما ثم غمز وقال: والأهم إنكما واقعان في حب كل منكما في الآخر وهذا يضمن لنا أنكما ستفعلان المستحيل لتحميا ذلك الحب وتبقيان على قيد الحياة حتى نهاية المهمة.
"على قيد الحياة" غمغم بها كيفين، في حين تن*دت جوين وقالت: ما مخاطر ذلك الاندماج؟ أجاب ماثيو بثقة: خطران: الأول سكتة دماغية، إذا ما تعرض أحدكما لوَهْم ما قد يسببه لكما هاديس إذا أدرك تسرب وعيكما لوعيه، أو التهامه لوعي أحدكما أو كلاكما والخطر الث....
قاطعه كيفين قائلا: وماذا أعددتم من أجل تلافيها؟ ربت ماثيو على كتفه ثم قال: لا تقلق لقد اتخذنا كل الاحتياطات، ولن يطأ وعيكما ذلك الجهاز قبل أن تتدربان كثيرا من خلال الاندماج مع وعي أنا .
فالوعي الخاص بي يحتوي على الكثير من الأمور والعلوم وكذلك أجيد صناعة الوهم لا تقلقا. قالت جوين بسخرية واضحة: أرجو أن ما يحويه هذا الوعي يستحق كل تلك المعاناة،ابتسم ماثيو ولمعت عيناه بخبث لم يلحظه أي منهما ثم غمغم: ليس لد*كِ أي فكرة عن ما يحويه وعى هاديس عزيزتي.
حسنا، متى سنبدأ؟ سأله كيفين، أجابه ماثيو بحماس: غدا سنبدأ بروتوكول الاندماج. نظر كيفين إلى جوين نظرة ذات معنى وقال بحنق: إذن لدينا ساعات قليلة لنودع عالم الواقع المادي، احمر وجهها عندما فطنت لمغزى حديثه ثم جذبته وقالت بمرح: إذن دعنا لا نضيع أي لحظة في عالمنا المادي ثم انطلقا بسرعة ليرتشفا سويا كأسا من الحب. ابتسم ماثيو في قراره نفسه وغمغم: يا له من حب!
**
مصر
في مساء إحدى ليال شهر مارس، اتجهت هي لتلك النافذة التي تتوسط غرفتها الخاصة؛ لكي تسمح للنسمات العليلة أن تتسرب داخل رئتيها، تلك الرئتان المجاورتان لمضغة متشحة بالحزن.
حزنًا قد لامسها فلم يعد نبضها يتراقص كعادته أملا وتفاؤلا، وكيف تنبض بالحياة وقد فارقها أنيسها للأبد؟ أنيسها الوحيد في ذلك العالم كان جدها، فجميع أهلها قد اصطادهم الموت واحدا تلو الآخر، فلم يبق لها سوى أطياف ذكريات حلوة تركوها خلسة لها.
تراقص شعرها الطويل المنسدل على جانبي كتفيها الصغيرتين،عندما كانت تع**ه بربطة بسيطة سوداء اللون؛ لترتدي حجابا رماديا بسيطا استعدادا لحضور محاضرة دراسية بطريقة البث المباشر التفاعلي عبر الحساب الشخصي للأستاذ الجامعي أيسر.
تلك المحاضرة التي سيلقيها بعد قليل في مادة التاريخ الفرعوني في العاشرة مساءً بتوقيت القاهرة، فبعد أن تسبب هاديس في فناء الحضارة التكنولوجية على الأرض منذ خمس سنوات، انطلق الفضائيون من ج*س النوريين بقيادة كليبان يجوبون كوكب الأرض؛ لإصلاح ما أفسده هاديس وإعادة الروح للآلات مرة أخرى بعد أن أُصِيبت داراتها الكهربية والإلكترونية بالشلل التام.
لم يفرق النوريون بين شعوب كوكب الأرض في الحصول على تلك التكنولوجيا الحديثة التي ولدت مرة أخرى على أيديهم، فأصبح الجميع لديهم نفس التكنولوجيا ولا فضل لأعجمي على عربي.
كان ذلك البث المباشرالتفاعلي من تقنيات ج*س النوريين التي انتشرت في كل دول العالم ومن بينها. . . مصر.
أغمض عينيك عزيزي المستمع واستعد لأقص لكم سرا جديدا ستدهش كثيرا عندما تعرفه، ولكن قبل كل شيء هل سألت نفسك من تلك الحسناء وما علاقتها بسرنا؟
إنها أسينات التي تحمل في قلادتها أعظم سر حير البشرية منذ عصور،لا تتعب عقلك في استنتاجات وثرثرة ذهنية لن تجدي نفعا الآن، فما أقصه فوق حدود المنطق.
ولكن انتبه جيدا لتلك المحاضرة جيدا التي على وشك البدء الآن. هيا فلنستمع جميعا إليها وبكل تركيز.
***
جلست أسينات أمام بلورة زجاجية شفافة، تعرض بثا مباشرا هولوجراميا، انع**ت أضوائها على بشرتها الخمرية؛ لتكشف عن لمحة حزن **ت ملامحها الرقيقة، وفضحت حزنا عميقا، حاولت أن تخبئه عيناها العسليتان بين أحضان جفونها طويلة الرموش، التي منعت في إباء دمعة ساخنة حزينة كادت أن تفر منها.
أسينات قالها الدكتور أيسر بحزمٍ أفزعها ثم انتزعها من شرودها بقوة، ارتجفت وابتلعت ريقها بصعوبة وتوتر، ثم نهضت بترقب وحبات العرق النقية تتهادى فوق جبينها،مما أثار انتباه دكتور أيسر أستاذ التاريخ الفرعوني بكلية الآداب جامعة عين شمس، والذي بلغ الثلاثين عاما منذ أيام، حيث تُوِّجَ عمره أخيرا بإ**ير النضج الذي كان حائلا بين الإفصاح عن عواطفه الجياشة التي تسيطر على قلبه تجاه أسينات والتي لا يمل قلبه أبدا من النظر لوجهها المليح.
رغم أن ل**نه يحتد أحيانا معها خاصة إذا لاحظ شرودها أثناء الشرح، إلا أن قلبه يروي قصة أخرى فيقول لَكَمْ وددت أن أعلنها على رؤوس الأشهاد أني أحبك. . حَقًّا أحبك حد الجنون. . حد المجون. . حد ال**ت المخيف. كل يوم أفكر كيف لي أن أخبرك. . لكنني في كل مرة ينعقد ل**ني وينطق ع** ما أريد. . عيناكِ تخبرني بشيء لا أفهمه. . وبقلبي تساؤلات عديدة تبحث عن إجابات. . كل ما أريد قوله. . . أحبك.
دارت تلك الكلمات بخلده بسرعة البرق وعلي ع** أسينات لم تفضحه عيناه هذه المرة أيضا فقد صار محنكا في إخفاء عواطفه تجاهها ولا يعلم لماذا، سألها أيسر بوجوم: في أي شيء شاردة يا فتاة؟ ثم عنفها بكلمات جعلتها تختنق من الدموع ثم أجهشت بالبكاء فأغلقت البلورة على الفور وانقطع البث المباشر عنها وكذلك صورتها في شاشته قد اختفت وخفق قلبه بقوة لذلك.
حاول رباطة جأشه وأكمل المحاضرة التي أنهاها بعد نصف ساعة فقط ثم طلب من طلابه المتابعين له مهمة عن نظريات اختفاء قارة أطلانتس التي وصل إليها العلماء كما طلب منهم تفسيرات خاصة بهم بهذا الصدد.
***
شعرت أسينات بحزن بالغ بعد ما عنفها الأستاذ أيسر أمام الجميع منذ قليل؛لذا ارتدت ثيابها المخصصة للخروج، اتشحت بالسواد من خلال ثوب أ**د أنيق وحجاب رمادي اللون وبالتأكيد تلك القلادة التي لا تفارق عنقها الذي أخفاها حجابها.
لثمت الريح اللينة وجهها برفق كأن الطبيعة تواسيها وتربت على قلبها فابتسمت بزاوية فمها الأيمن، ثم عبَّأت رئتيها بشهيق منعش غسلت به كل سموم الحزن والاكتئاب التي تنفستها منذ أن توفي جدها الحبيب منذ عدة أيام.
سارت بتؤدة يرافقها القمر الذي يختفي بين الفينة والأخرى بسبب سحابات متفرقة أضافت رونقا على سماء تلك الليلة. في لحظة ما توترت نفسها بلا سبب واضح واضطربت نبضات قلبها.
تلفتت حولها ولكنها لم تجد شيئا مريبا، ورغم ذلك غيرت وجهتها لتعود إلى منزلها مرة أخرى ولكن. . .
***
متحف المنتقمين
بعد أسبوع من تدريبات المحاكاة التي خاضها ماثيو والزوجان كيفين وجوين،بدأ الاندماج بين وعى الزوجان ووعى هاديس حيث استلقى كيفين على كرسيه وكذلك جوين، تم حقنهما بمواد كيميائية معينة تسهل من انفصال وعيهما واندماجه مع وعى هاديس ولكى لا يشعر وعى هاديس بتسرب وعى غريب له.
لجأ ماثيو إلى حيلة عبقرية وهى طمس كل ما يخص الزوجان من ذكريات وعلوم وغرس بدلا منها ذكريات أخرى ليست غريبة عن وعى هاديس؛ فهو رغم سباته العميق إلا أنه لا يزال قادرا على السيطرة على وعيه، وقد حاول ماثيو سبر وعيه والولوج لكل ذكرياته ولكنه هوجم من قبل هاديس الذي تمكن من حجب الكثير من الذكريات عنه، ولهذا السبب لجأ ماثيو لتلك الخدعة الجهنمية لعلها تفلح معه.
من الذكريات التي أصر هاديس أن يحجبها ذكريات تخص العاشقان إيزيس وأوزوريس ففطن ماثيو أن خلف قصتهما سرا عظيما؛ لذا قام ماثيو بتسريب ما يخصهما من معلومات وصل إليها البشر إلى وعى الزوجين، ولذلك وقع الإختيار عليهما بسبب تلك العاطفة القوية التي نشبت بينهما. أضاءت الشاشة الصغيرة المجاورة لكل كرسي ينام الزوجين فوقه باللون الأحمر معلنة بذلك اندماج وعى الزوجين بوعى هاديس بنجاح.
#########
الأرض عام 900 ق. م
خلف أعمدة هرقل وقف منتصب القامة مهيب الهيئة تتأبط ذراعه الأيمن سيدة حسناء تقترب رأسها من كتفه، ع**ت عيناه بريقا ينم عن وصوله أخيرا لضالته، ففطنت تلك الحسناء إيزيس لما يختلج في ص*ر زوجها أوزوريس وهمست في رقة: يبدو أنك وجدت مبتغاك أخيرا يا زوجي العزيز، التفت بوجهه الطويل الشامخ ثم هز رأسه بالإيجاب.
أشار إلى حيث ترقد أعمدة هرقل شامخة وقال: هنا سأبني أول إمبراطورية خيالية من ذلك العلم الذي منحني إياه القدر، ارتفعت الأمواج فتأرجحت السفينة وسيلتهما للوصول لتلك المنطقة، كان أوزوريس بين الحين والآخر يفضل استخدام الأدوات البدائية التي يستخدمها معظم البشر في تلك الحقبة.
لم يرد أن يشعر بالغرور لتفوقه الخارق في مختلف العلوم وتميزه عن بني جلدته؛ لذا كان يلجأ للطرق التقليدية في أمور حياته العادية، لقد شعر أن تلك العلوم حملا ثقيلا على كاهليه ولابد له أن ينثرها كحبوب اللقاح التي تتناقلها الرياح وقت الربيع؛ حتى تخصب الزهور لتملأ الأرض خضرة وخيرا.
رغم أن المظهر الخارجي للسفينة بدائيا إلا أن طريقة إبحارها يتم بطريقة لا يعلمها البشر في تلك الحقبة، كانت تمر مر السحاب بسبب ذلك المحرك الذي يعمل بفضل لطمات الأمواج العاتية التي تض*ب بدن السفينة من وقت لآخر فيختزن محركها تلك الطاقة في صورة وضع لبضع لحظات،ثم تتحول إلى طاقة حركية تحرك التروس المعقدة؛ فتتحرك مجدافات السفينة بقوة تجوب المياه الزرقاء الداكنة.
رست السفينة على أعتاب أعمدة هرقل، كانت المياه الزرقاء تحيط كتلا صخرية ممهدة تصلح لبناء مدينة عصرية تتزين بالعلوم المختلفة، وأن تكون حاملة شعلة النور لكل العالم.
كان هذا طموح أوزوريس عندما وطأت قدماه أرض تلك المنطقة، كان الهدوء هو المسيطر في تلك اللحظة، داعبت الريح اللينة خصلات شعر الحسناء إيزيس ولثمت أشعة الشمس الذهبية وجنتيها بدفء أثير لديها فأغمضت عينيها وحاولت أن ترهف سمعها لتستمع لسيمفونية ساحرة من تلاطم الموج الخفيف مع صخور الشاطىء. ولكن أفسد متعتها صوت سهم اخترق خلوتها تلك ففتحت عينيها بسرعة وانطلقت يدها بسرعة خاطفة تمسك بذلك السهم بقوة؛ لتحمي وجهها من ض*بة لا تخطىء.
انهالت الأسهم عليهما من كل حدب وصوب ففعَّلَ أوزوريس أداة ما تطلق موجات فوق صوتية نسفت تلك الأسهم نسفا بلمح البصر.
بدا الأمر من بعيد مهيبا لأولئك الذين صوبوا سهامهم نحو الغريبين، فقد تناثرت سهامهم النحاسية اللامعة بلمح البصر، ظهر فيه الغريبان بمشهد أثار ذعر الراميين إلا واحدة.
أنثى غير عادية غجرية المظهر والملبس تمتطي جوادا مجنحا يختلف عن باقي جياد القبيلة؛ فطار بها ذلك الجواد عابرا مسافة عدة أمتار من الماء الأزرق الفاصل بين يابسة أهل المنطقة ويابسة الغريبَيْن.
كانت المنطقة عبارة عن مناطق دائرية صخرية متحدة المركز وممهدة لحد ما، تتبادل المياه البحرية معها، كما تتفرع منها طرق صخرية مستطيلة تطوق تلك الدوائر فتبدو تلك المنطقة من أعلى كأنها الشمس.
تفحصت إيزيس ذاك القادم من هناك في محاولة منها لمعرفة كنهه، تملكتها الغيرة عندما هبط الجواد المجنح ببطء بجوارها محدثا صليلًا عذبًا، نزلت الفتاة الحسناء الغجرية من صهوة جوادها بدلال أغاظ إيزيس كثيرا.
اقتربت إيزيس من زوجها وتأبطت ذراعه الأيسر معلنة بذلك أنها أنثى هذا الرجل تلك الرسائل التي لا يفهم مغزاها سوى النساء.
ابتسمت تلك الفتاة ابتسامة صفراء خبيثة ودارت حول الغريبين بتفحص وبلا خوف، انكمشت إيزيس أكثر بذراع زوجها.
اقتربت الفتاة الغجرية من وجه أوزوريس كثيرا حتى لامست شفتيها ذقنه وهمست: من أنت؟ أبعد أوزوريس وجهه عنها بطريقة فظة وقال بلهجة يشوبها الكبرياء: مجرد عابر سبيل ضل طريقه في البحر ويستأذن أهل المنطقة في المكوث حتى الصباح.
كانت ستائر المساء تسدل ستارها لتحجب الشمس رويدا عندما لوحت الغجرية بيدها بإشارة معينة لتبعد رامي السهام بعيدا حتى يمر الغريبان بأمان.
رافقتهما إلى حيث تمكث قبيلتها فبدأت ملامح المنطقة تتضح أكثر، كانت المساكن بدائية جدا مصنوعة من المخلفات النباتية الزراعية كالقش وأغصان الأشجار الجافة وغيرها.
كانت المساكن تشبه أعشاش الطيور ولكنها كبيرة الحجم وهناك نار عظيمة انبثقت من مركز الدوائر الصخرية المتحدة، حيث توهجت في نفس اللحظة التي غربت فيها الشمس وغاصت في المياه الزرقاء لتستحم كما اعتقد أفراد تلك القبيلة.
التف الجميع بطريقة كأنها صلاة وسجدوا حول تلك النار عدة لحظات يتمتمون بتراتيل لم يفهمها الغريبان. همست إيزيس برعب وقالت: أيمارسون السحر؟ ضغط على يديها برفق ثم همس: لا، إنها فقط طقوس عبادة مجوسية، يبدو أنهم يعبدون النار، فهي مص*ر الطاقة الوحيد لديهم؛ لذا يبجلونها.
ولكن ألم تلاحظ أمرا غريبا؟ أردفت إيزيس في خفوت، ابتسم أوزوريس بزاوية فمه الأيمن وقال: إذا كنت تقصدين تلك الفتاة الغجرية التي لا تصلي مثلهم فهذا غريب حقا إلا إذا. . . ثم **ت هنيهة ليتابعها بنظره حتى اختفت عن عينيه تماما خلف تلك الأشجار القريبة من النار العظيمة.
خرج من خلف الأشجار ظلال متحركة مهيبة المنظر، تتحرك ببطء وتؤدة، بدأت ملامح تلك الظلال تتضح أكثر كلما اقترب أصحابها من النار العظيمة، وعندما اصطف أصحاب تلك الظلال حول النار العظيمة تراجع أهل الجزيرة وهم ين**ون رؤوسهم حتى يمر هؤلاء.
كانوا خمسة أزواج من التوائم الذكور قد بلغ منهم سن البلوغ مبلغه، تبدو ملامح الذكاء الشديد عليهم. تحدث التوائم بالتتابع وبلغة لم يفهمها الغريبان بسهولة. تضايقت إيزيس كثيرا وهمست: لا أفهم شيئا. ماذا يقولون؟ ابتسم أوزوريس ثم همس: لا تقلقي بمجرد أن تلامس تلك الأداة أيديهم سأتمكن من التواصل مع أحدهما تخاطريا.
شاهد الزوجان ظلا يقترب منهما وعندما تبين كنهه شبَّت الغيرة مرة أخرى في قلب إيزيس عندما شاهدت تلك المرأة الغجرية الحسناء والتي أشارت بيدها تحثهما لمرافقتها؛ فتبعاها في **ت وفضول يغلف حذر. كانت النار العظيمة تتراقص لهابها بمجون عندما اقتربوا كثيرا منها.
تقدم أحد التوائم الذكور ويبدو أنه أكبرهم في تؤدة، خفض رأسه تحية للغريبين، مد أوزوريس يده ليحي ذلك الشاب ولكنه دفن في راحة يده تلك الأداة التي تمكنه من التخاطب معه ليحدثه.
كانت الأداة صغيرة بيضاوية تشبه لون راحة اليد رفيعة السمك تشع نوعا من الطاقة التي لا ترى بالعين ولكن تستشعرها الخلايا العصبية بسرعة لا يدركها من تلمسها يده.
أرسل أوزوريس تلك الرسالة لوعى ذاك الشاب وكان فحواها: أهلا بك أنا أوزوريس صاحب الحكمة والعلوم المختلفة تعثرت سفينتي أثناء إبحارنا فَرَسَت على شواطئكم،لا أريد سوى أن أمنحكم بعضا مما أعلم.
كانت الرسالة سريعة ففزع الشاب وتراجع للخلف وقلبه مضطرب، لقد سمع الرجل يتحدث معه دون أن يتفوه بحرف كيف هذا؟
لاحظ الجميع اضطراب الشاب فأبرز الحراس سهامهم ووجهوها نحو ص*ر أوزوريس، ولكن أشار لهم الشاب وقال بلهجة آمرة: لا تطلقوا النار.
كان الفتى ذكيا حقا؛ فقد فطن أن كف الغريب مكنه من التواصل معه وفهمه بسهوله، فدنا منه مرة أخرى وصافحه بنفس اليد.
ليرسل له رسالة مفادها بأن يعلمه وقومه ما يشاء. طلب منه الغريب أن يُقْسِم هو وقومه على ألا يستخدموا ما يتعلمون من علوم في البطش والتعالي على من لا يملكون علومهم وأن يكونوا شعلة تنير لكل الشعوب.
***
كان بوسيدون قد ترك كوكب الأرض ورحل إلى كوكب نبتون بسفينة فضائية بعد أن تزوج تلك الغجرية كليتو وأنجب منها التوائم الذكور، ولكن قبل أن يرحل قَسَّم أطلانتس بين أبناءه العشرة، فكانوا يحكمونها في شكل اتحاد ملكي يترأسه الابن الأكبر وهو أطلس.
أشار أطلس لأخوته كى يناقشهم فيما وصل إليه من أمر الغريب، كان الاجتماع قصيرا ولكنه مثمرا، استطاع الأخ الأكبر اقناعهم بضرورة التعاون مع الغريب والاستفادة من علمه وحكمته.
وافق المجلس على الفور فكانت تلك اللقطات التي بثها أوزوريس في وعى أطلس عن حضارة في بلاد أخرى متوفقة جدا قد أغرته كثيرا.
شعر أوزوريس بسعادة غامرة فهو يفرح كثيرا عندما يُعَلَّم الناس الخير، كانت طريقة تواصله معهم من خلال التخاطر بتلك الأداة التي استخدمها من قبل،ولكنه طورها؛ حيث يمتد مجالها لعشرة أشخاص يلتفون في دائرة يمسكون أكف بعضهم البعض ثم يمسك أحدهم بكف المعلم الحكيم أوزوريس والذي بدوره يمسك كف الشخص الذي تكمل به الدائرة.
بتلك الطريقة استطاع أوزوريس تمرير معظم العلوم التي تحصل عليها بهبة الأعلى والبعض الآخر تركه يتعلمونه بتجاربهم، علمهم الزراعة والملابس المخيطة والأدوات التي تسهل من زراعة وحصاد المحاصيل المختلفة.
كان أوزوريس حريصا على توزيع العلوم على مجموعات متفرقة منهم حتى لا يستأثر أحدهم بكل العلوم؛ وبالتالي تسول له نفسه احتكارها والبطش بها.
عاش أوزوريس وزوجته إيزيس وقتا لا بأس به في تلك الجزيرة العظيمة والتي سميت باسم أطلانتس، َلّم سكانها معظم العلوم والحكمة وأوصاهم بألا يبطشوا بها الأقل منهم علما وقوة، قبل أن يتركهم حتى يعلم غيرهم من الشعوب الأقل علما كانوا أذكياء حقا خاصة الملوك العشرة وذريتهم فكانت جينات بوسيدون الفريدة تتوارثها أحفاده جيلا بعد جيل،رحل المعلم الأكبر أوزوريس.
تمكن سكان أطلانتس من تطوير علومهم حتى وصلت حدا لم يصل إليه غيرهم. تحولت تلك الجزيرة التي شكلها بوسيدون بطريقة عجيبة ليعزل حبيبته كليتو البشرية عن أى مخاطر، حيث طَوَّق التل الذي كانت تعيش فوقه بحلقتين من الأرض وثلاث حلقات من المياه بطريقة متبادلة. كما جعل نبعين من الماء أحدهما بارد والآخر ساخن ينبثقان من الأرض. تغيرت معالم الجزيرة تماما فبعد أن كان السابقون يعيشون في الأعشاش تعلموا البناء بالطوب وصنعوها. تعددت الطاقات، عرفوا الطاقة الشمسية وصنعوا ألواح تمتص تلك الطاقة وتحولها إلى طاقات أخرى لم يعهدها البشر في تلك العصور السحيقة.