شبح فصل اول

1495 Words
1 "شبح" بعد فترة طويلة نال فيها منى الارهاق والتعب مراده في تحويلي لثور أعمى يدور في طاحونة لا تتوقف لكي أجابه متطلبات ومقتضيات تأسيس عملي الخاص؛ لكي لا أكون تحت رحمة هذا أو سطوة ذاك. الحق يقال كان يجب أن أفعل ذلك منذ فترة طويلة، لكن كنت بحاجة لتنمية مهاراتي واكتساب الخبرة، لذلك عملت لفترة طويلة في إحدى الشركات المتخصصة في مجالي وتحملت الكثير، من بين مناوشات هنا ومضايقات هناك، وحين أيقنت أني قد أصبحت لدي الخبرة اللازمة بدأت في تأسيس شركتي الخاصة بالمقاولات، كنت أشرف على كل كبيرة وصغيرة فيها، لم أدع مجالًا على الاطلاق للحظ أو الظروف بأن أحمل غيري مسؤوليه الاشراف على المعدات أو متطلبات البناء، كنت أحضرها بنفسي، مشرفًا على العمال؛ خشية أن ي**ق أحد من المؤن يؤدي ذلك لكارثة حين يسقط البناء مثلًا بسبب النقص في المؤن، فأنا أقدر قيمة الأرواح جدًا ولا أستطيع تحمل أن تزهق روح بسببي إن تهدم البناء مثلًا نتيجة للغش. ربما للبعض قد يكون الموت أو فقد شخص عزيز أمرًا عابرًا قد يمضي بعد معاناة الصدمة الأولى بسلاسة وتستمر الحياة. لكن معي أنا كان للفقد قصة خاصة لم أتجاوزها للآن لقد فقدت أمي، لم تمت كما تعتقدون، لقد اختفت! نعم، لا تتعجبوا اختفت منذ ما يقارب الثلاثين عاما الآن، فلقد فقدتها حين بلغت الخامسة بالتحديد يوم ميلادي ولذلك لا احتفل به أبدًا وكل من يعرفونني يعلمون أني أمقت ذلك اليوم مقتًا شديدًا، كنت صغيرًا لكني اذكر تفاصيل ذلك اليوم كأنها حدثت الآن وليس البارحة بدأ اليوم جميًلا مبهجًا حين استيقظت وهرعت إلى خارج غرفتي، لأجد والدتي تحتضنني قائلة:- عيد ميلاد سعيد يا صغيري، اليوم أيها الشاب الصغير ستبلغ الخامسة، ليهبني الله طول العمر حتى أراك شابًا كبيرًا تكون عوني وسندي في الحياة يا أسدي. ضحكت وقلت:- بالطبع أسدك يا أمي أنا قوي وسأحميكِ بجوار أبي. تجهم وجهها وقالت:- هيا لتتناول طعام افطارك لكي أتفقد ما يجب عمله. بعد أن تناولنا الافطار بالحديقة ذهبت أنا للعب، وانشغلت أمي بالإشراف على الحفل. نادت عليّ وأخذتني لحمام غرفتي وجهزت ملابسي واستحممت بينما تنتظرني هي خارج الحمام، وساعدتني في ارتداء الملابس التي سأرتديها كنت قد اخترت حُلة رسمية للشرطة بلون أبيض، وارتديت القبعة الخاصة بها ووقفت امامها أؤدي التحية الخاصة بالشرطة بينما هي تضحك وتحتضنني، كنت أرفع راسي أنظر لوجهها البشوش الضاحك، الذي وجدته فجأة قد تغيرت ملامحه ليغمره حزن وضيق حين نظرت للخارج من نافذة غرفتي المطلة على اسطبل الخيل، وقالت لي: - هيا يا يوسف، انزل للحديقة إلى أن يصل باقي أصدقائك لنطفئ الشموع الخمسة الخاصة بك. وتركتني في الغرفة ونزلت مسرعة الخطى، نظرت من النافذة لأرى ما الذي جعل وجهها يتبدل من الفرح والسعادة للحزن فلم أجد ما يدل على حدوث أمر سيء كان المشهد خاليًا كالعادة لا جديد به، إنه المشهد العادي الذي دومًا أراه من نافذة غرفتي بوابة الاسطبل الكبيرة، لم ألق بالًا للأمر وركضت لأنزل لكي ألعب مع أقراني، وكانت تلك آخر مرة شاهدت فيها والدتي، بعد لعبي في الحديقة وحضور الجميع الذين كنت اسمعهم يسألون المضيفين لهم عن والدتي، وكانت الإجابة الدبلوماسية:- ستأتي حالًا. سألتني المشرفة على التقديم:- صغيري يوسف ألم تشاهد والدتك؟ - لا. أخذت تجول ببصرها يمينا ويسارا وزفرت وتركتني. بعد قليل بدأت أشعر بارتباك غير طبيعي في محيط من حولي من الكبار، ثم نادى أبي بصوت مرتفع:- يا أصدقاء هل شاهد أحد منكم إيمان؟ أو يعرف أين هي. كانت الإجابات كلها بالنفي. تحولت الفيلا لخلية نحل للبحث عن أمي، في كامل أنحاء الفيلا والحديقة والاسطبل، لم نجد لها أثرًا. بدأت في البكاء ثم النحيب المتواصل لقد كنت ابنهما الوحيد والمدلل بالطبع، وأمي لم تكن تفارقني على الاطلاق، شعرت بالخواء وكأنني حلقة مفرغة، ظللت أبكي وأبي يحاول تهدئتي و كذلك المحيطون بي، إلى أن سقطت في النوم بفعل ارهاقي من كثرة بكائي. استيقظت في الصباح، نظرت بجواري لم أجد أمي؛ فهي تنام بجواري كل يوم. ناديت بصوتي المبحوح الذي تضرر من بكاء البارحة: - أمي أين أنتِ؟ جاءني صوت صباح المربية متهدجًا:- لا تخف صغيري سنجدها. نظرت لها مرتعبًا:- ألم تعثروا عليها بعد؟! بكت، احتضنتني وقالت:- انهم يبحثون. ومنذ ذلك اليوم وانتهى وجود أمي في حياتي، لم يمر علي الأمر مرور الكرام أبدًا، لقد بدأت معاناتي بالصراخ والانهيار وصراخ أبي في وجهي بماذا سيفعل؟ وأنه بذل كل ما يستطيع لكي يجدها، كان اختفاؤها مريبًا، لم تأخذ أي شيء من متعلقاتها، ملابسها بأكملها ما زالت موجوده، ذهبها ومجوهراتها، لم ينقص أي شيء منها، وكأنما الأرض قد انشقت وابتلعتها كما قال عم جابر عامل الاعتناء بالحديقة قال لي:- يا يوسف أمك جميلة، الجني خ*فها من أجل جمالها. عشت عمري كله ناقمًا على ذاك الجني الذي طمع بجمال أمي وخ*فها، وصارت تلك حكاية إيمان الجميلة التي خ*فها الجني وتناقلتها ألسنة أهل القرية. لم تكن تلك الشائعات هي فقط ما أصابني، لقد ابتليت بالكوابيس، كل ليلة استيقظ فزعًا، صارخًا، غارقًا في عرقي، لاهث الأنفاس؛ بسبب تلك السيدة التي تظهر في أحلامي وتنادي عليّ يوسف، يوسف وتحاول أن تمسك بيدي. منذ اختفاء أمي لم تخطو قدماي ناحية غرفتها، ولم يفعل أبي ذلك أيضًا، لقد هجر الغرفة وأصبح ينام بغرفة أخرى أما أنا فقرر أبي أن يعهد بمهمة العناية بي لعمتي في القاهرة، بعد ذلك الكم الهائل من الكوابيس الذي لم يدع لي مجالًا للنوم إلى أن وصل بي الأمر بأن أخذوني لطبيب نفسي وأوصى بعلاج خاص لمن في مثل سني وبعد فترة تناقصت وتيرة الكوابيس حتى اختفت بعد أن غادرت القرية ولم تطأها قدمي مرة أخري، كان أبي يزوروني بين الفنية والأخرى عند عمتي وأصبحت علاقتي به كالغرباء. حاول المحطين بأبي حثه على الزواج مرة أخرى بما أنني لا أقيم معه ولا يحمل همي، لكنه رفض، وظل كما هو بالفيلا يعتني بخيله. شاءت الظروف أن يعهد إليّ بإقامة بناء ضخم لمول تجاري سوف يتم افتتاحه في القرية، لم يكن بإمكاني الرفض، اقامة منشأة كتلك بالت**يم الموجود في تصوري سيكون إضافة لشركتي الوليدة، لكن للأسف لا يوجد فنادق بالقرية وكان الحل الأوفر ماليًا بالطبع أن أقيم بفيلتنا ويقيم العمال المرافقون لي بملحق الفيلا، هاتفت والدي وشرحت له الموقف ولم يبد اعتراضًا. وصلنا القرية ليلًا، ما أن مرت عجلات السيارة من الطريق المؤدي للقرية إلا وأصابت قلبي انقباضة قوية، لكني عزيت ذلك للإرهاق الذي أنا أغوص فيه منذ مدة، وصلنا الفيلا والانقباض يزداد، وكأن ثقلًا جثم على قلبي واحتل روحي. دللت العمال على مكان اقامتهم و دخلت للفيلا سلمت على والدي الذي فاجئني بقوله :- للأسف يوسف، حمام غرفتك وحمامات القسم المجاور لها كلها أصابها عطل غريب اليوم وستضطر للإقامة في غرفة والدتك. نظرت له معترضًا فقال:- لن أقيم أنا فيها، أنا لي غرفتي وروتيني ولن أبدله، إلا إذا فضلت أن تنزل لتقيم مع عمالك في الملحق. كان الخيار الأخير غير متاح بالنسبة لي؛ أنا أفضل النوم في هدوء تام بلا أي صوت بجواري، والعمال مهما بلغت درجة هدوءهم لن يخلو الأمر من صوت تحركهم هنا وهناك، وأنا أريد لهم الراحة أيضًا فربما شعروا بحرج من وجودي ونومي عندهم. استسلمت لذلك الأمر الواقع الذي فرض عليّ، كنت مرهقًا جدًا وغططت في النوم لاستيقظ فزعًا على ذلك الكابوس الذي عاودني فجأة، امرأة أحس بألفة بيني وبينها أشعر أنني أعرفها لكني خائف من شكلها المرعب، تحاول أن تمسك بقدمي. قمت بتشغيل سورة البقرة فهكذا أفعل دائمًا عند اضطراب نومي، وأكملت نومي حتى الصباح في هدوء. بدأت مع العمال التجهز لما سنقوم به ومر اليوم خاليًا من أي أحداث أو مشاكل، انتهى اليوم وإرهاقي قد بلغ مداه، تمددت في السرير ورحت في سبات عميق إلى أن استيقظت فزعًا، لكني هذه المرة لم أصرخ، جلست على سريري لأتذكر ما رأيته لقد كانت نفس المرأة، تناديني بصوت مفعم بالحب هذه المرة، وأشارت لي نحو المرآة الموجودة بالغرفة، اعتدلت في جلستي وأخذت أنظر للمرآة، ثم قمت مقتربا منها، أخذت أتأملها وتأمل تلك الزخارف المحفورة بإطارها، لم أجد شيئًا غريبًا أو يثير الانتباه، يبدو أن أحلامي تلك ستؤثر على عقلي، هممت بالدخول لدورة المياه الخاصة بالغرفة، الواقعة بجوار المرآة، لكن لفت انتباهي ضوء لامع يأتي من المسافة ما بين المرآة والجدار من خلفها، ومضة فضية، نظرت بتمعن هناك شيء ما، مددت يدي لامسك بذلك الشيء، إنها قلادة كانت معلقة على مسمار خلف إطار المرآة، تأملتها، أنها قلادة نسائية فضية، قلب القلادة مزخرف باسم إيمان، يبدو أنها من النوع الذي يحوي صورة ما بداخله، حاولت ان أفتحها لكنها استعصت عليّ في البداية ثم استطعت فتحها لكن جرح إصبعي أثناء ذلك، لم أهتم ما جذب انتباهي هو تلك الصورة لأمي ورجل بجوارها، ذلك الرجل ليس أبي، إنه رجل لم أره قبل الآن أبدًا، لكن ذلك الرجل يشبهني إلى حد كبير، أو بالأحرى بما أن الصورة قديمة، فأنا أشبه ذلك الرجل، كانت وقفة الرجل بجوار أمي وقفة حميمية، أي أنه ليس برجل غريب عنها، وكان معلق بسلسلة القلادة مفتاح صغير، لا أدري ماذا يفتح، لكن بالنظر لحجم المفتاح اخمن أنه صندوق صغير مثلًا. احتلني الفضول تجاه ذلك الرجل الواقف بجوار أمي، وذلك المفتاح، خبأت المفتاح ووضعت القلادة بجواري، وأكملت نومي، لتظهر لي المرأة هذه المرة في الإسطبل ثم تأخذني لسرداب أسفل الإسطبل. في الصباح توجهت لغرفة أبي طرقت الباب، لم أجد ردًا، فتوقعت وجوده بالإسطبل، ذهبت له كان يداعب مهرة حالكة السواد، فألقيت عليه التحية وبلا أي مقدمات سألته وأنا أمد له يدي بالقلادة:- هل تعرف هذا الرجل؟ نظر أبي جيدًا للصورة وتغيرت ملامح وجهه، واحتلها الغضب وسألني بحدة: - أين وجدت هذه القلادة؟ أجبته بلامبالاة:- في غرفة أمي. فرد وهو يحاول كبح جماح ذلك الغضب الذي يسيطر عليه ويبدو جليًا :- لا أعرفه. ثم تندر ساخرًا:- بإمكانك أن تسأل أمك. وتركني وغادر الإسطبل. شعور غريب يكتنفني أن هناك علاقة بين اختفاء أمي وبين الرجل بالصورة.

Read on the App

Download by scanning the QR code to get countless free stories and daily updated books

Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD