(1. الفصل الاول)
أسيرة سطوته
(الفصل الأول)
_ إنتي باين عليكي اتجنيتي يا زينة! ، حديت أي الماسخ ده؟
هدر بها منفعلا يزجرها محاولا إعطاء تنبيه لايقاظ خلايا عقلها كي تعي بما تفوهت به من هراء لا يمكن ان يرد على عقل بشري بكامل وعيه ، بصوته القوي الصارم ارتجت أطراف نجاة له فزعا وكذلك ابنه الشاب _عصام_ الذي ابتلع ريقه مبتهلا ألا يفقد السيطرة على أعصابه ، بينما كانت إجابة زينة بمعالم صامدة ك**ود الجبل بمهب الرياح حيث رفعت رأسها شامخة و هي تقول بنبرة تأكيدية مُخيبة ظنه بكونها تهذي:
_ إللي سمعته يا عم اسماعيل ، هسيب الدار النهاردة و هاخد نجاة معاي
ثم أطلقت زفرة حارة تبعتها بقولها متألمة:
_ إللي كنا جاعدين تحت جناحه ومتتاويين ف ضله مات ، يبجى نفضلوا اهنه نعملوا إيه يا واد عمي؟
تشدق بصوت أعلى متهمكا:
_ جوم تسافروا عالبندر وتكملي شغلك اهناك؟ ، مش رجالة احنا ولا ايييه؟
اجابته على الفور و كأنها أعدت العدة مسبقا لأسئلته الساخرة حيث تقول:
_ لا رجالة ملو هدومهم ما شاء الله ، بس رجالة بلاستيك عايزينها بالعيار لحد ما راح شيوخ الجبيلة ف الرجلين
_ اخرسي يا حرمة
قالها تزامنا وهو يرفع كفه استعدادا لاعطائها صفعتها الأولى لتلقينها درسا قاسيا بينما كان لها السبق بامساك رسغه كي يصبح كفه معلقا في الهواء أمام نظرات المشدوهين حولها حيث تنطق بنبرة محتجة قاتمة:
_ لا يا واد عمي ، كفَّك ده ترفعه على أي كان إلا اني ، ماعدتش زينة الطرية اللي بحتة جلم تعرف توجفها
نفض يده عنها قائلا بسخرية:
_ إنتي مش زينة أصلا ، زينة ماتت ، إنما انتي حتة واحدة عمي جابها من ست شهور عشان يتاويها هي و ولدها اللي مش عارفين له أب لحد دلوك ، غوري من اهنه ما هجولكيش لأ ، إنما نجاة ما هتتحركش خطوة ، و ان كان عمي مات فأخوها لسة عايش ، روحي و جبل ما تخطي عتبة البيت هتلاجي عيارين مصاحبينك عالجبر ان شالله
كلماته **هام سامة اخترقت جدران قلبها حتى تركته جريحا داميا متألما ، و لكن بدلا من السماح لعبرة مختنقة تعبر عن الألم القابع بين ضلوعها اجابته تقول بت**يم:
_ هاخد نجاة وهطلع برة البلد وما هتشوفش وشنا واصل ، و ان كان مصاحبني عيارين ، خليهم اربعة
ثم ذهبت من أمامه سريعا مُغلقة قفل باب النقاش ، أمسكت بذراع نجاة التي اعترضت الصدمة ملامحها برعونة آخذة إياها نحو الغرفة لتنفيذ قرارها المتهور ، بينما اقترب عصام من والده المحتقنة الدماء بمعالمه بخطوات بسيطة ثم يمسك بساعده بخفة قائلا:
_ يالا يابوي ، عايز اجولك حاجة
أخذت تنقل ملابسها المعلقة من داخل الدولاب ملقية إياهم على الحقيبة المستطيلة أمامها تحت أنظار نجاة التي ترمقها بخوف متكالب مع الجزع، حتى نطقت زينة من بين عبراتها المكتومة دون النظر إلى نجاة بلهجة آمرة:
_ روحي حضري شنطتك
ظلت مكانها متسمرة لم تحرك ساكنا ، مغيبة لم يصل لاستيعابها ما جرأت زينة على تحقيقه بل و بكامل إرادتها أيضا ، أخرجها من شرودها صوت زينة التي هتفت بغضب:
_ سمعتي جلت لك إيه؟
شهقة خفيفة الصوت انبعثت من حنجرتها بعدما افزعها صوت زينة الناهر رغم صغر عمرها، حيث تلتفت الى زينة التي وجهت كامل انتباهها إليها ثم اكلمت بنبرة خائفة متعجبة:
_ إنتي ازاي اتحديتي اخوي يا زينة؟ ، ده هيجطع رجبينا احنا الاتنين لو فكرنا نتحرك! ، إزاي دلوكت بتجوليله عايزين نمشي للبندر ونعيشوا هناك؟!
سحبت زينة نفسا عميقا زفرته على مهل استعدادا لإجابة طويلة مملة و أيضا مؤلمة:
_ من ساعة ما جيت من ست شهور و اني اتحكم عليا اعيش اهنه زي مابوي جال
فرَّت عبرة ساخنة من مقلتها حينما لاحت ملامح وجهه إلى ذاكرتها حيث أكملت:
_ الحضن الدافي اللي احتواني طول عمره راح ، وراحت معاه كل حاجة حلوة
أطرقت نجاة برأسها حزنا على ذكرى عمها الراحل قبل أيام بينما أردفت زينة بألم:
_ سمعت كلامه ومارضيتش اسافر تاني وفضلت متابعة شغلي من بعيد لبعيد عشان رضاه كان اهم حاجة عندي
ثم اشاحت بسبابتها نحو الباب هاتفة بثورة:
_ لكن اللي برة ده و اللي زيه كانوا السبب ف ان ابويا يموت ، خلاص ابجى تاني ليييه؟
ثم اقتربت من نجاة وربتت على كلا ذراعيها قائلة بشئ من الحنو:
_ هروح ومش هجدر اسيبك ، عشان مهما كان إنتي أختي اللي ما ولدتهاش أمي ، ماجدرش اسيبك ومصيري اتربط بيكي ، ولا تجدري تسيبيني؟
هزت نجاة رأسها إلى الجهتين نفيا لتتركها زينة ثم تمسح بطرف اصبعها دمعتها الهاربة ، بينما عادت نجاة كي تستوقفها إلى نقطة كونهما بخطر كبير لا مفر منه ولكن كان لبكاء الصغير إياد السبق هنا حيث صدحت صرخاته معلنا استيقاظه من قيلولته مما دفع زينة إلى ترك ما بيدها و الاتجاه إلى الصغير كي تهدئه وهي تقول حازمة:
_ يالا يا نجاة ما تضيعيش الوجت
فكانت الأجواء حالكة السواد بالجنوب حيث موت الحاج قاسم الذي كان بمثابة الفاجعة الكبرى لأولاد مشاري بعدما طالت أيديهم الحاج خليل الشهاوي ليقع الاقتصاص تطبيقا للعين بالعين والسن بالسن، فكما قُتل الكبير هنا سيُقتل الكبير هناك، كي تخمد الأسلحة و تنام المصالح لأيام غير معلومة الأجل، فكيف ننتظر من الجسد أن يعمل بعدما فقد عموده الفقري؟!، ننتقل إلى قلب العا**ة -القاهرة- قلب الجمهورية ومض*ب الأمثال في النشاط، ومركز الاهتمام بعجلة التقدم في أي من المجالات، فيها السرعة كخيل البيداء، لا مجال للعبرات أو التفات لعاطفة أو انفعال، بل العمل هو اكبر الاهتمام
كان يجلس على الأريكة المريحة بغرفة مكتبه، مستندا إلى يساره وهو يقارب مقدمة الهاتف من أذنه قائلا مع ابتسامة خبيثة زينت ثغره:
_ مبسوط جدا إنك قبلت توثق فيا و تتمّ الصفقة....اطمن ومش هتبقى آخر مرة صدقني....وهو كذلك....
أخذ يحك ذقنه بعدما ألقى الطرف الآخر تساؤلا يحتاج إلى حرص شديد قبل إطلاق حرف من إجابته حيث يقول بهدوء:
_ حاجة كدة زي ما تقول تخليص حق
ثم أردف يقول بجدية:
_ عموما منتظر اتصالك على معاد التسليم...سلام
أغلق الهاتف ثم ألقاه جانبا وأطلق تنهيدة طويلة محملة بالاجهاد حيث يتبعها بقوله بغل:
_ ماسكة عليا شهادة الميلاد و السيديهات وواخدة مني إبني يا مدام زينة! استني واستلقي وعدك يا قطة
ثم وقف عن الأريكة و تمطأ محاولا فك انقباض عضلاته ثم اتجه إلى الباب حيث خرج من غرفته متجها إلى الصالون الخارجي وبنفس الوقت دلفت كل من رزان و خلفها مها التي كانت من**ة الرأس تضع يدها على بطنها المنتفخة، قالت رزان وهي تقترب منه بابتسامة:
_ اهلا يا بيبي إنت جيت امتا؟
_ من شوية
قالها باقتضاب تلمسته حاستها لتنظر إليه بحزن بينما تكمل رزان:
_ هاخد شاور وهناكل دلوقتي
ابتعد إلى جهة غرفة المكتب عائدا بخطوات واسعة وهو يقول بغضب مكتوم:
_كلوا انتو مش جعان
قالها قبل ان يصفع الباب خلفه متجاهلا تلك التي انسابت دموعها الصامتة حزنا على ما نالت من جفاء صار يقا**ها به أخوها فور معرفته بخبر حملها في ذلك اليوم، وما يزيد الطين بلة هو كون جسدها لن يتحمل الإجهاض وقد أدلى الطبيب تحذيرا شديدا بشأن هذا الأمر، مما جعله يردعها على مضض لتنال عقابا هو أقسى وأضل سبيلا حيث قاربت شهرها السابع دون قسيمة زواج وقد اختفى المدعو حاتم مثل الملح بالماء!، وها هي مدة قصيرة وتصبح الأم العزباء، فكم ستتحمل من آلام نظرات الازدراء كما مجافاة أخيها لها!
بكل دقيقة تمر كالساعة في ظل هذا ال**ت الرخيم كان يسترق النظرات الخاطفة إلى والده الذي ينفث انفاسا حارقة تكاد تدمر الأخضر واليابس، فلابد من اللحاق به قبل ان ينفذ تهديده ويقتل الاثنتين ويأتي العار مضاعفا، وتصير سمعتهم مضغة تلوكها الأفواه بلا انقطاع، حمحم بهدوء قبل ان يقول:
_ أبوي اسمعني
اعتصر عينيه بنفاذ صبر قبل يلتف برقبته نحو ولده قائلا بصوت يحاول جعله طبيعيا:
_ ايوة يا عصام؟
عاد يحمحم مرة أخرى محاولا إجلاء حنجرته قبل البدء بحديثه مترددا:
_ اني شايف ان روحة زينة وخالتي للبندر فيه الصح أكتر من الغلط
عبس بين حاجبيه بغضب جمٍّ بدا بعينيه المشتعلتين حيث يحدق في ابنه بحدة بينما يسرع عصام بالاكمال مبررا:
_ زينة دلوك ليها شغلها هناك وما شالله عليها شغال مية مية، وبعدين دي مات أبوها يعني مالهاش جعدة اهنه، وعمتي نجاة لازم تبجى معاها بحكم أن زينة لساها جاصر ماتمتش ال19، وده الأمان ليهم بعد الدم اللي سرى للركب ده
كور إسماعيل قبضة بيده محاولا التحكم باعصابه هاتفا بسخرية:
_كنَّك اتهفيت ف مخك انت التاني! عايزني اجولها مع السلامة يا بت عمي وامشِّي معاها أختي وحديهم! إنت عايز الناس تاكل وشي ولا ايه؟ يجولوا ماعرفش يربي بت عمه لحد ما بجيت تدور على حل شعرها بعد ما جبلوها بعيِّل مانعرفش هو ولد مين؟!
أجابه عصام بجدية:
_ الواد ده يابوي يبجى ولد جوزها التاني ومعاها الجسيمة اللي تبين ده، وبعدين مين جال هيبجوا لوحديهم؟! أني هروح معاهم
سلط بصره على ولده متأملا في حيرة بينما أكمل عصام:
_ أني كنت عايز أكمل الدراسات العليا والماجستير، هجدم على طلب اعملهم في مصر واعيش معاهم واروح مطرح ما يروحوا واجي مطرح ما ييجوا، ويبجى جدام البلد كلها أن اني اللي خدتهم معايا مش الع**، أي رأيك؟
**ت للحظات محاولا استيعاب الخطة التي رسمها عصام أمامه، بينما ارتقب الأخير معالمه الخاوية متوجسا ألا تعجبه، حتى قال إسماعيل بشئ من الرضا:
_ ماشي يا عصام، روح هناك
وبمكان آخر في العا**ة، على وجه الدقة بمكتب إحدى الشركات كان يجلس خلف مكتبه بأريحية يحدق في الشاشة أمامه والتي تعرض فتح بريد اليكتروني لأحدهم، بابتسامة خبيثة يعلوها الانتصار يضغط على الفارة ولوحة المفاتيح وقبل أن يضغط الإرسال توقف ما ان وصل إلى مسمعه صوت خطوات أقدام تصدم الأرض بقوة مما دفعه إلى إغلاق الملف سريعا وفتح بريد الشركة الاعتيادي حتى دلف أشرف دون استئذان وخلفه هيدي ليقف باسل قائلا بنبرة يحاول جعلها طبيعية:
_ اهلا يا أستاذ...
ما كاد يكمل جملته حتى وجد التجاهل من الاثنين حيث بقيا داخل غرفة المكتب الرئيسية، فعاد إلى الجلوس من جديد كما عادت ابتسامته المنتصرة إلى فمه من جديد حيث يقول في نفسه بثقة:
_ اتقل شوية يا أشرف ماتبقاش خفيف كدة!
بينما كان يوجد بالداخل أشرف الذي يجلس على الكرسي على غير هدى، يهز قدميه بسرعة مفرطة إشارة إلى انفعاله الذي بلغ مبلغه بينما تقول هيدي بغضب عارم:
_ شفت الأبلة بتعمل فيك إيه؟!
هتف أشرف بفتور:
_ مش فاهم! ، دي تاني مناقصة أكون مظبط فيها ملايين واخسرها على ايدها! ما كفاهاش الخمسين مليون اللي خدتهم!
تشدقت هيدي بسخرية:
_ إنت السبب عشان سمحت لحقيرة زي دي إنها تتعدى حدودها بالشكل ده!، وأنا اللي حذرتك منها كتيير و قلت لك اقتلها
تحدث أشرف بحزم:
_ ماقدرش اقتلها، إلا لازم اتحفظ على الحاجات اللي معاها الأول، دي معاها بلاوي ممكن توديني وتودي غيري ف ستين داهية، لازم استنى عليها
ثم أخذ يحك ذقنه يفكر قائلا:
_ بس أكيد في حد بيساعدها على كدة، وقريب أوي أوي هجيبه
_ انا جاي معاكم يا زينة
التفتت إليه قبل ان تدخل إلى مقعدها بمعالم مقطبة غير مصدقة وكذلك نجاة التي لم تفهم بعد ما يقال حتى تساءلت زينة بثبات لا يخلو من الدهشة:
_ تاجي معانا تعمل ايه يا عصام؟
حمحم كي يجلي حنجرته مبتدئا الكلام بقوله:
_ اني هعمل الدراسات ف مصر، تسمحيلي أعيش معاكم ف البيت ولا ألاجي أجرة برة؟
قال الاخيرة بمرح بينما ابتسمت نجاة بخفة حامدة الله في سرها أما زينة فلقد زينت ابتسامة طفيفة باردة ثغرها حيث علمت مسبقا خطة من هذه وما وراء مجيئه معهما، وهو نفس السبب الذي لم يدفع إسماعيل إلى إفراغ بندقيته بقلبها حتى الآن، قالت زينة بمجاملة:
_ بيتي مفتوح لك يا عصام، وكمان شركتي، ما هلاجيش مستشار أحسن منك يا بتاع الجانون
اتسعت ابتسامته مرحبا بعرضها السخي، بينما قالت هي بحبور:
_ يالا تعالى
طريق طويل رمادي اللون تغلفه الرمال الصفراء، يبدو بلا نهاية من طيلة الساعات دون أن ينقضي، ومثل الطريق الطويل الذي تقطعه سيارتها بسرعة شديدة ترى خط حياتها الذي تظن بل وعلى شبه يقين بكونها لا تزال في بدايته، وبالعودة إلى القاهرة بعد طول غياب يخالجها هاجس غريب بكون حياتها ستمر بالكثير من الأشواط، هاجس ينبئها بمقابلة الكثير من الالتواءات و التعرجات تماما كما الهضاب التي تراها على جانبي الطريق حولها!، هاجس رغم ما بجوفه من أخطار إلا أنه سيكون حتما لذيذ الطعم، مع كل خطوة تقترب فيها من القاهرة تزداد خفقاتها للأضعاف منبهة إياها بلقيا قدر جديد عساه يكون شاطئ البحر الذي غرقت فيه منذ زواجها الأول، والذي ظنت أنها لقيت النجدة به حتى موت والدها بعد أخيها بفترة لم تتجاوز العام لتفقد طوق النجاة باحثة عن أقرب مرسى، فأين قد يكون هذا المرسى؟
وصلت السيارة أمام الفيلا أخيرا بعد انقضاء ساعات قاربت مغيب الشمس، حيث خرجت زينة من السيارة وبيدها الصغير نائما، لتجد ميرا التي كانت تقف أمام الباب الداخلي مقتربة منها ببعض اللهفة قائلة ببشاشة:
_ نورتي بيتك يا فجر
نهاية أحداث الفصل الأول
يا ترى فعلا زينة هتلاقي المرسى؟
#همسات_إسراء_الوزير