بيد أن هذين الطفلين كانا صالحين ومحترمين ومطيعين أيضاً، كما كانا مص*ر فخر لوالديهما، أو على الأقل كان ما علماه عنهما والديهما جعلهما مص*ر فخر لهما. هذا لأن حالهما كان حال جميع الأطفال المؤدبين: فهم يحملون تسعين بالمائة من الصلاح والأدب، إلا أنهم أيضاً قد يُخفون بعض النزوع إلى الشر والشيطنة إلى جانب الأفكار التي يكتمونها عن ذويهم لعلمهم علم اليقين أنهم لن يوافقوا عليها.
كان الشاب في عائلة (لي) الذي يدعى (دن) قد بلغ سن العشرين لتوه، ومضى على مغادرته المدرسة نحو عامين. ولقد تنعّم مثل أخته بطفولة سعيدة، إلا أن الحقيقة بدأت تتكشف أمامه حيال الحياة القاسية التي أعدها له والده، وذلك لا يعني أنه لم يعمل طيلة حياته سواءً قبل المدرسة أو بعدها على كل حال. إلا أنه كان يخصص بعض الوقت للعب كرة القدم وتنس الطاولة إلى جانب الفتيات في حفلات المدرسة الراقصة حينذاك.
أصبح كل ذلك في طي النسيان حاله حال احتمالات تنعمه بحياة عاطفية، فهذا لا يعني أنه قد عاش حياته العاطفية بطولها وعرضها ليتباهى بها – فلم يكن هناك سوى بعض القبلات القليلة واللمسات النادرة جداً، إلا أن حياته خلت من كل هذه الأمور لقرابة سنتين. كان (دن) ليرحل إلى إحدى المدن لو كانت لديه أدنى فكرة عما يمكن أن يفعله عندما يصل إلى وجهته، إلا أنه افتقر للطموح أيضاً باستثناء مساعيه لإقامة العلاقات الغرامية على الدوام.
كانت هرموناته سبباً لضياعه وتشوشه إلى درجة بدت له بعض العنزات ذات جاذبية وإغراء، مما أقلقه وأرّقه كثيراً.
كان جلياً له حاجته الماسة للزواج إذا ما أراد أن ينعم بعلاقة دائمة مع إحدى النساء. وبدأ ينظر إلى الزواج باعتباره أمراً مغرياً بلا أدنى شك، حتى لو كان ذلك على حساب تورطه في إنجاب الأطفال.
كانت الأنسة (لي) المعروفة باسم (دين) فتاة بارعة الجمال في عمر السادسة عشر، حيث اضطرت إلى ترك المدرسة في الصيف بعد أن أتمت دراستها إلى مرحلة أقل من أخيها بسنتين، وهو أمر كان يعتبر طبيعياً في منطقتهم. لا لأنها أقل ذكاءً أو نباهة منه، بل لاعتقاد الأهل والبنات أنفسهن بأن الخيرة في التعجيل بالشروع في تكوين الأسرة. ومن الأيسر أيضاً للفتاة أن تجد زوجاً قبل بلوغها سن العشرين مقارنة بالفترة التي تليها ببضع سنين. وتقبلت (دين) هذا العرف التقليدي (الحكيم) دون أدنى نقاش على الرغم من المخاوف التي ساورت أمها.
كما أنها قد عملت قبل المدرسة وبعدها طيلة حياتها وعلى الأرجح بجد أكثر من أخيها، على الرغم من عدم تقبله تلك الفكرة نظراً إلى أن الفتيات في تلك المنطقة يكادون يعملون كما يعمل العبيد.
وعلى أية حال كان لدى (دين) طموحات كبيرة. فقد كانت تحلم بالوقوع في شراك علاقة غرامية ليطير بها حبيبها إلى مدينة بانكوك، حيث يعمل هناك بوظيفة طبيب بينما تقضي هي يومها بأكمله بالتسوق مع صديقاتها. وكانت هرموناتها تؤرقها هي أيضاً، إلا أن الثقافة والأعراف المحلية تُحرّم عليها الاعتراف بهذه الأمور حتى بينها وبين نفسها. فعلى الأرجح سيُقدم أبوها وأخوها وأمها أيضاً على معاقبتها بالضرب إذا ما رآها أحدهم تتبسم مجرد ابتسامة إلى أحد الفتيان من خارج العائلة. لقد كانت على دراية وتقبل بالأمر دون أدنى نقاش أيضاً.
فكانت خطتها أن تشرع بالبحث عن زوج لها على الفور، وهي المهمة التي عرضت أمها تقديم المساعدة لإنجازها، لأن كلتيهما كانتا تعلمان أن خير طريقة لإنجاز هذه المهمة هي في أسرع وقت ممكن، وذلك لتجنب خطر أن يحيق بالعائلة الخزي والعار.
وبصفة عامة، كانت عائلة (لي) من العوائل النمطية ضمن تلك المنطقة وكانوا سعيدين بذلك جداً. فلقد عاشوا حياتهم ضمن حدود القيود التي تفرضها الأعراف المحلية وظنوا أن ذلك هو الأمر الصحيح والسليم حتى لو أضمر الولدان النية بالهروب إلى المدينة الكبيرة. فالمشكلة كانت تكمن في الافتقار إلى الطموح، وهو ما تربى عليه سكان تلك الربوة مما عرقلهم لقرون عديدة، وهو أمر يعتبر إيجابياً بالنسبة للحكومة. فخلافاً لذلك كان جميع الشباب سيختفون من الريف منذ زمن بعيد لينتقلوا إلى بانكوك ومنها إلى البلدان الأجنبية مثل تايوان وعُمان حيث تتوفر أجور أفضل. إلا أن فكرة التحرر من أغلال الضغط المتزمت للأقران كانت أمراً مغرياً جداً.
على الرغم من سفر العديد من الفتيات إلى بانكوك ونجاح بعضهم بالحصول على وظائف محترمة، إلا أن العديد منهن انتهى بهن المطاف بالعمل في تجارة البغاء ضمن المدن الكبرى، ومن هناك سافرت بعضهن خارج البلاد وحتى خارج قارة آسيا. ووقعت الكثير من القصص المروّعة عند محاولة ثنيِّ الفتيات عن سلوك ذلك الطريق، ولقد حصلت مع (دين) وأمها قصص مماثلة أيضاً.
كان السيد (لي) مرتاحاً في حياته ومحباً لأسرته، على الرغم من أنه لم يكن بالأمر العظيم أن يعترف بذلك خارج أسوار منزله، لكنه لم يرغب في مفارقتهم بسبب مرض بدأ يسيطر عليه وهو لا يزال في أيام شبابه.
كان العجوز لي (على الرغم من علمه بأن بعض الفتية قليلي الاحترام في القرية يطلقون عليه لقب العجوز الأشمط) رجلاً مثالياً في أيام شبابه وتطوع ليحارب في صف فيتنام الشمالية بمجرد تركه للمدرسة. فقد عاشوا على الحدود مع جمهورية لاوس، وبالتالي لم تكن فيتنام الشمالية بالمكان البعيد، كما قد سمع عن القنابل التي أسقطها الأمريكيون عليهم وعلى لاوس، فلذلك قرر أن يقوم بواجبه لإيقافها.
انضم إلى صفوف القضية الشيوعية وذهب إلى فيتنام للتدريب على القتال بأسرع ما أمكنه. وكان الكثير ممن تدربوا معه على شاكلته – لهم أصول صينية – لكن ضاقوا ذرعاً بالقوى الأجنبية لتدخلها في مصير أبناء وطنهم. فهو لم يستطع أن يدرك لما يهتم الأمريكيون الذي يعيشون على بعد آلاف الكيلومترات بمن يستلم السلطة في وطنه الذي يشكل جزءاً صغيراً من العالم. فهو نفسه لم يكن يهتم بالرئيس الذي ينجح بالانتخابات.
وعلي أية حال تشاء الأقدار ألا تتاح له الفرصة ليطلق حتى ولو رصاصة واحدة لينفس عن غضبه، وذلك جرّاء إصابته بشظية قنبلة أمريكية أثناء نقله من معسكر التدريب إلى ساحة المعركة، وذلك في يومه الأول بعد انتهاء تدريبه. كانت جراحه أليمة للغاية لكنها لم تكن تشكل أي خطر على حياته، إلا أنها كانت سبباً كافياً لتسريحه من الجيش بعد أن تماثل للشفاء ليغادر المستشفى. كانت الشظية الكبيرة قد أصابته في أعلى ساقه اليسرى، كما تسببت له بعض الشظايا الصغيرة بإصابات متفرقة في بطنه، وذلك كان بحسب اعتقاده الآن ما يسبب له هذا الاضطراب. كما كان أيضاً سبب الإشاعات القائلة بأنه تعرض لإطلاق النار.
عاد إلى دياره وهو يعرج بشدة حاملاً معه تعويضاً كافياً لشراء مزرعة صغيرة، لكنه بسبب إصابته البالغة في ساقه اشترى مزرعة وقطيعاً من الماعز مع صغارها ثم قام ببيعها عوضاً عن ذلك. وخلال سنة من عودته عادت ساقه لأفضل حال كما كان قد تزوج بفتاة جميلة من المنطقة كان يعرفها ويحلم بالارتباط بها طيلة حياته. كما كانت تلك الفتاة قد نشأت ضمن عائلة تعمل في المزارع ليعيشا معاً حياة سعيدة لا تكاد تخلو من العوز.
كان السيد (لي) يخرج كل يوم من أيام الأسبوع منذ ذلك الحين - ما عدا يوم الأحد – ليرعى قطيعه في المرتفعات، أما في فصل الصيف فكان غالباً ما يبيت في إحدى الخيام التي كان قد نشرها في أماكن متفرقة، حيث تعلم في الجيش كيفية صناعتها. كان الحنين يشده إلى تلك الفترة التي يعتبرها من أسعد أيام حياته، على الرغم من أنها لم تكن كذلك في لحظتها.
لم يكن هناك أية ح*****ت مفترسة في الجبال حينذاك - باستثناء البشر - فجميع النمور تعرضت للصيد قبل زمن بعيد لكي تستخدم في صناعة العقاقير الصينية. وكانت تنتاب السيد (لي) مشاعر متضاربة حيال هذا الأمر. فمن وجهة نظر معينة كان يدرك أنه أمر مؤسف، لكن من ناحية أخرى لم يكن يرغب بحماية عنزاته من هجوم النمور كل ليلة. وعندما أصابه المرض قبل قرابة أسبوع أو أكثر كان قد مر عليه وهو يرعى الأغنام قرابة ثلاثين عاماً، وبالتالي كان على دراية تامة بالجبال كما كان يعرف معظم الناس منطقتهم جيداً.
كان على دراية بالمناطق التي يجب تجنبها بسبب وجود الألغام ومواد الستركنين السامّة التي أسقطها الأمريكيون في السبعينيات، كما كان يعلم المناطق التي أزيلت هذه الألغام والسموم منها، وعلى الرغم من أن متخصصي إزالة اللغام قد فاتهم لغم أو اثنين إلا أن إحدى عنزاته عثرت عليها قبل شهر من تلك الفترة. شعر بالأسف عليها على الرغم من أن جسدها الميت لم يتشوه فقد كان موتها سريع بعد أن وقع حجر على اللغم ليطير في السماء ويفصل رأسها عن جسدها تماماً.
لقد كانت المسافة بعيدة جداً ليحمل جثتها إلى المنزل، لذلك قرر السيد (لي) أن يقضي بضعة أيام في الجبال يلتهم اللحم بينما كانت عائلته تعيش في قلق شديد بانتظار عودته إلى المزرعة.
كان السيد (لي) رجلاً قنوعاً، فقد استمتع بعمله وحياته في العراء، وكان قد تصالح منذ زمن بعيد مع الواقع بأنه لن يصبح أبداً من الأثرياء أو يسافر إلى الخارج مرة أخرى. ولهذا السبب كان يشعر وزوجته بالسعادة لأنهم لم يرزقوا إلا بهذين الولدين فقط. كان يحبهما على قدر واحد ويتمنى لهما كل الخير، لكنه كان سعيداً أيضاً لتركهم المدرسة حتى يتفرغا للعمل بالمزرعة التي كانت زوجته تزرع فيها الأعشاب والخضروات وترعى ثلاثة خنازير وبضع العشرات من الدجاج.
كان السيد (لي) يفكر بالقدر الذي يمكن أن يوسّع مزرعته إليه بوجود العون الإضافي الذي يقدمانه. فربما يمكنهم رعاية عشر دجاجات أخرى وبعض الخنازير بالإضافة إلى إمكانية زراعة حقل من الذرة السكرية.
أفاق من أحلام يقظته، “ماذا لو كان الأمر خطيراً يا (ماد)؟ لم أذكر لك هذا سابقاً لكنني فقدت الوعي مرتين هذا الأسبوع كما راودني شعور بالدوار لمرتين أو ثلاثة.”
“لماذا لم تخبرني بهذا من قبل؟”
“في الحقيقة، لم أشأ أن أشغل بالك كما أنه ليس بيدك أي حيلة، أليس كذلك؟
“لا أستطيع القيام بأي شيء بنفسي، لكن كان بإمكاني أخذك إلى عمتك سابقاً، ولربما حاولت أن أجد طريقة لنراجع أحد الأطباء.”
“آه، أنت تعرفينني يا (ماد)، كنت سأقول: دعينا ننتظر ما ستتوصل إليه عمتي قبل أن ننفق كل تلك المبالغ. لكن يجب عليّ الاعتراف أنه تسيطر علي في بعض الأحيان مشاعر قوية لا أستطيع تفسيرها وينتابني قليل من الخوف حيال ما ستقوله عمتي يوم غد.”
“نعم وأنا أيضاً. هل حقاً تشعر بهذا السوء؟”
“أحياناً، لكنني أفتقد للطاقة والقوة في جسدي تماماً. فقد اعتدت أن أجري وأقفز مع العنزات، لكنني الآن يصيبني التعب من مراقبتها وحسب.”
“يوجد أمر ما، أنا متأكد من ذلك.”
“اسمع يا (باو)” وهو اسم الدلع البسيط الذي كانت تناديه به والذي يعني (بابا) باللغة التايلندية، “لقد وصل الأولاد عند الباب، هل تريد اطلاعهم على هذه الأمر في الحال؟”
“لا أنتِ على حق، لما نُشغل بالهم الآن، كما أعتقد أن عمتي سترسل ورائي ظهيرة يوم الغد، لذلك أخبريهم أنه سيكون لدينا اجتماع عائلي في موعد تناول الشاي وعليهم التواجد حينها.
أعتقد أنني سأخلد إلى الفراش الآن، أشعر بالتعب من جديد. لقد أنعشني بصاق عمتي لفترة وجيزة لكن مفعوله قد زال. أخبريهم أنني على ما يرام، واطلبي من (دن) أن يسرح بالعنزات غداً لو سمحتِ؟ ليس عليه أن يبتعد بهم كثيراً، يكفي أن يصل إلى الجدول حتى تأكل العنزات بعض حشائش النهر وتشرب منه… فهذا لن يضرها ليوم أو يومين.
“عندما يتاح من وقتك عشر دقائق هل يمكن أن تعدي لي بعضاً من الشاي بطريقتك الخاصة لو تكرمتِ؟ الشاي بالزنجبيل واليانسون وبقية الإضافات… فهذه الخلطة سوف تنعشني قليلاً… أجل، ولا تنسي إضافة بعض بذور الشمام أو دوار الشمس… يمكن أن تطلبي من (دين) ت**ير البذور من أجلي.”
“ما رأيك بكوب من الحساء. إنه حساؤك المفضل…”
“نعم لا بأس، لكن إذا كنت نائماً ضعيه على الطاولة وسأتناوله بارداً فيما بعد.
“مرحبا يا أولاد، سأخلد إلى الفراش مبكراً هذه الليلة، لكن لا أريدكم أن تقلقوا فأنا على خير ما يرام. ستخبركم أمكم بالتفاصيل. لقد أصابتني نوع من العدوى على ما أعتقد. تصبحون على خير جميعاً.”
“تصبح على خير يا (باو)” أجابواً جميعهم. وبدا على (دين) القلق على وجه الخصوص بينما كانوا يراقبون السيد (لي) وهو يمشي إلى الخلف وهم ينظرون إلى بعضهم البعض.
وبينما كان السيد (لي) مستلقياً في الظلام الساكن شعر بخفقان شديد في جانبي جسمه، كما تسبب الأسنان المتسوسة دائماً المزيد من الإزعاج عند الخلود إلى الفراش في الليل. لكن التعب كان قد أعياه فاستغرق في النوم سريعاً قبل أن يتم إحضار الشاي والحساء والبذور إليه.
في الخارج، وعلى الطاولة الكبيرة وتحت ضوء خافت، كان بقية أفراد العائلة يناقشون أزمة السيد (لي) وهم يتهامسون، على الرغم من أن حديثهم حتى لو كان بصوت مرتفع فلن يسمعه أي أحد.
“هل سيموت أبي يا أمي؟” سألت (دين) والدموع تنهمر من عينيها.
“لا يا عزيزتي بالطبع لن يموت” أجابتها “فعلى الأقل… لا أظن أن هذا سيحدث.”