رفعت حاجبيها دهشة وقالت: أرني ثم مدت يدها لتأخذ النتائج فحصتها جيدا ثم هزت كتفيها وقالت بحسب قوانين هارتيا فإن الفتاة التي تمتلك طاقة حب كبيرة تتزوج من لا يملك ذرة منها وكذلك مع الشاب الذي يملك طاقة حب كبيرة يتزوج بالأخرى.
ثم مطت شفتيها وقالت : الأمر ليس صعبا كما تصورتم.تن*د الكاهن الأكبر وقال: ولكنها مجازفة محفوفة بالمخاطر فالزيجة لن تستقيم ولن تستمر ولن تنعم بالهدوء والسكن.
سألته ساري: ماذا تقصد؟ قبل أن ينطق بكلمة تدخلت كاهنة وأجابتها:هو يقصد أن قلبا محبا واحدا لا يكفي، يجب أن يكون يتمتع القلبان بنسبة من الحب ولو قليلة حتى تستقيم الحياة بينهما.
تن*دت بيأس وقالت: حسنا فليتزوج الفتاة والشاب اللذين يملؤ قلبيها الحب وأما الأخريان ف....قاطعتها الكاهنة لتكمل الجملة :نؤجل زواجهما للموسم القادم عندما يتأهلان لذلك.
هزت الكاهنة ساري رأسها ثم عقدت ساعديها أمام ص*رها وقالت في جزل :بل نعلنهما زوجان.
صدم الجميع من قرارها وسرت همهمات مناهضة لها، ولكنها حسمت أمرها وقالت بغموض:لنرى هل يمكن أن يولد الحب بينهما؟
تبادلت نظرات الكهنة مع الكاهنات وارتسمت علامات عدم الفهم على وجوههم ولكنهم آثروا الخضوع لرأيها والأخذ بمشورتها.
خرجوا ليعلنوا للجميع عن نتائج المراسم،هناك من يأخذ قدره بالمحبة وهذا الأغلبية أما جرميا وأوسان فكان قدرهما معا صدمة بكل المقاييس ترى كيف سيتعاملان مع ذلك الأمر؟ الاستسلام أم النفي لمدينة نيجاتفيا.
نفخ الكهان الأبواق ليقف الجميع احتراما للأقدار،خرجت الكاهنة ساري في خيلاء لتلقي خطبتها السنوية على الأزواج المقبلين عل الزواج،ولكى تدعو لهم وتبارك حياتهم الزوجية.
لف ال**ت المكان، بدأت ساري تنثر القصص الغرامية التي اشتهرت بها مدينة الحب أونتارياعلى نفوسهم ،ثم قالت مشجعة لهم:من يريد أن أزين صومعتي بقصة حبه المخلصة والنادرة هذا العام؟ ثم لوحت بأيقونة لرجل وامرأة وقالت من سنخلد قصة نجاح زواجهما بذلك التمثال الذي نزين به معبد هارتيا ليكون شاهدا على الحب والوفاء والإخلاص؟
صاح الجميع بصوت حماسي أنا وارتفعت الأيادي لتلمس السماء،هزت صيحاتهم المكان،لوحت ساري بيدها بإشارة فهم الجميع التزام ال**ت،فخيم الهدوء مرة أخرى.
قالت ساري بصوت حماس :فلتعلن أقدراكم ،فأشارت لأحد الكهان لك ينادي على كل زوجين تم توليف قلبيهما معا.
اقتربت الشمس من المغيب،كان كل زوجين يتم الاعلان عن قدرهما يرحلان ليخبرا عائلتيهما،فيستعدوا للتجهيز لحفل الزواج،لم يتبق سوى ماجلان وجيرميا وأوسان وأوارا.
كان قلب أوارا يخفق بشدة فكانت تخشى أن تختار هارتيا ماجلان زوجا لها وهو الرجل ذو السمعة السيئة،ولكن الراحة ارتسمت على وجهها عندما إعلان أن جيرميا هو الزوج المقدر لها.
رقصت أوارا رقص شهيرة في مدينتها عبرت بها عن كل مشاعر الحب التي تكنها له،وتدخرها له منذ الصغر.
كانت ردة فعل جيرميا لا تقل حماسة وإثارة وفرح غامر أحاط بروحه التي ظلت تطير فبادلها الرقص أيضا.
كانت أوسان تضحك فَرِحَة لفرحة صديقتها، فظلت تصفق لهما، وتغني معهما،أما ماجلان فكان لا يرى في تلك اللحظة سوى أوسان وضحكتها الطفولي التي لم يجدها في الفتيات اللاتي تعرف عليهن في الأيام الخوالي.
انتهى العرض الذي قدمه جيرميا وزوجته أوارا ،انحنى الزوجان للكاهن ثم غادرا ساحة المعبد، أدار ماجلان ظهره ليرحل وكذلك فعلت أوسان ولكن اتجه كل منهما في اتجاه مختلف عن الآخر فاستوقفهما الكاهن وقال بسخرية: إلى أين أيها الزوجين؟
تسمرا في مكانهما وأدارا نفسيهما ببطء ليعودا إلى حيث يقف الكاهن،قالا في نفس الوقت والصدمة تغشي عليهما : ماذا قلت؟ زوجان؟
عقد الكاهن يديه فوق ص*ره وقال بسخرية استفزتها :زوجان ،لقد أعلنت الأقدار أنكما زوجان؟ ثم هز كتفيه بلامبالاة وأدار نفسه لينسحب ويتركهما.
ولكنهما أسرعا نحوه واستوقفاه وقالا في نفس الوقت وبصوت متحشرج: ولكننا لسنا مستعدين بعد ؟
أدار نفسه ليواجهها بوجه بارد وقال: ليست مشكلتي ،ثم لوح أمامهم بسبابته تهديدا لهم وأردف :عليكم التعامل مع الأمر وإلا ...
قال ماجلان بغضب: وإلا ماذا؟
قال الكاهن بهدوء استفزهما: وإلا سيتم نفيكما إلى مدينة نيجاتفيا،أطلق ماجلان ضحكة ساخرة ثم قال: إنها أسطورة بالطبع.
كانت الصدمة قد ألجمت أوسان على الحديث فلم تنطق ببنت شفة،ولكنها هزت رأسها بقوة نفيا للزواج، فقال الكاهن :حسنا يبدو أنكما ترغبان بالنفي بشدة حسنا.
نفخ الكاهن بالبوق الذي معه نغمات غريبة فجاء الحراس من كل مكان،ليحيطا بهما.
شعرت أوسان بالخوف وسيطر التوتر على نفس ماجلان وفي لمح البصر أحاط بهم الحراس،في تلك اللحظة انكمشت أوسان لتلتصق بجسد ماجلان كحركة غريزية من أى أنثى تحتمي بأى ذكر في المواقف الصعبة،شعر ماجلان بخوفها، فأمسك يدها بقوة ليشعرها بالأمان ولتطمئن بمساندته لها.
اقترب أحدهم وكانت ساري تحمل لوحة فارغة لم يرسم فوق قماشها أى شىء مجرد لون أخضر زاهي يفترش القماش الذي أحيط بإطار خشبي ،من صنع جيرميا والذي قد أهداه مؤخرا للمعبد قربانا لهارتيا.
أفسح الحراس الطريق أمام كبيرة الكهنة ساري التي فصلتها عن الزوجين المتمردين بضعة خطوات منهما،كانت تحمل أداة عجيبة ذات فتحتين بكل منها عدسة،اقتربت منهما ثم وضعت تلك الأداة بينهما وبين اللوحة،ضغطت على قطعة صغيرة بارزة في الجانب العلوى من تلك الأداة الأسطوانية الشكل والتي لا يتجاوز طولها مسافة كف يد ساري.
انطلق صوت من الأداة خافت يشبه الطقطقة ثم رسمت على اللوحة صورة مصغرة مقلوبة لماجلان وأوسان بنفس وضعية الوقوف والملامح وكل شىء حتى مشاعر الخوف والقلق المرتسمة على وجهيهما كانت واضحة جدا.
قامت ساري بتدوير اللوحة لتعتدل الصورة،في تلك اللحظة شعر ماجلان وأوسان بأن الأرض تميد بهما فانطلقت الصرخات منهما ولكن لم يسمعهما أحد.
اندهشت أوسان عندما وجدت لنفسها صورة كبيرة لها أمام عينيها تمسك بماجلان ،نفس الدهشة سيطرت على ماجلان الذي انزعج من رؤية نفسه كأنه أمام مرآة.
كان الوضع محيرا مربكا ل*قليهما،اقتربت الكاهنة ساري من اللوحة ثم أمسكت بها فمالت قليلا فتحرك ماجلان وأوسان وكانت حركتهما ظاهرة من اللوحة،قالت ساري موجهة حديثها للوحة :أهلا بكما في مدينة نيجاتيفيا التي تعتقدون أنها أسطورة،ابتسمت بسخرية وقالت: أنتما الآن من سكانها،فلتحسنا المُقام فيها لعله يطول بكم.
شاهدا نفسيهما يرحلان من المعبد تتأبط أوسان ذراع ماجلان ،فارتسم التعجب عليهما كيف يشاهدان نفسيهما تتحرك حركات تختلف عن حركتهما الآن؟
لمحت الكاهنة ساري الدهشة وقالت لهما :نيجاتفيا مدينة تقتنص وعى المتمردين من سكان أونتاريا وتحبسه بداخلها،وأنتما الآن محبوسان في صورة وعى داخل صورة منع**ة لكما في تلك اللوحة،أنتما بالنسبة لأى شخص يمر بلوحتكما صورة عادية جدا مهما تحركتما بداخلها لن يلحظ حركتكما داخل اللوحة أحد ثم أردفت بلهجة تفوح منها الخبث :إلا إذا كان هناك من تهتم لأمره خارج لوحتكما،فقط يستطيعون رؤيتكم وسماعكما والتحدث معكما.
غمغم ماجلان بحنق :إذن نحن مسجونان بتلك اللوحة إلى الأبد،جلست أوسان في ركن اللوحة الأيمن من**ة رأسها للأرض لتغطي خصلات شعرها الغجرية وجهها.
أمسكت ساري اللوحة ثم وضعتها في صندوق يحتويها ثم أغلقته فساد الظلام داخل اللوحة.
شهقت أوسان من الخوف عندما ساد الظلام فجأة، ولكن تبدد خوفها بمجرد أن رأت خيطا من نور يسطع من يد ماجلان اقتربت منه بحذر،وكانت الدهشة ترتسم على وجهه،بادرته بسؤال، كيف فعلت هذا؟
كانت الدهشة لاتزال تسيطر على حواسه؛ فلم ينتبه لسؤالها وتحرك خطوات بعيدا عنها يقلب يده؛ فيتحرك لهب النار مع حركتها ودون أن يشعر بحرارة النار التي تخرج من باطن يده،وفجأة ازداد لهب النار وسطع بدرجة اكثر وهجا.
ففزعت أوسان وانكمشت على نفسها في ركن اللوحة الأيسر. انتبه لها ماجلان أخيرا الذي أطلق ضحكات قصيرة ثم أعقبها بصيحة انتصاره على معركة الظلام،أولى معاركهما داخل تلك اللوحة اللعينة وبين أروقة سجنهما الأزلي.
لا أعلم كيف فعلت ذلك ولكني بمجرد التفكير في النار انبعثت في باطن يدي ،وعندما فكرت في زياد وهجها ازداد على الفور.
لمعت عينا أوسان وقالت بلهجة تختلط بالفرح:إذن يمكننا التحرر من سجننا بمجرد التفكير في ذلك؟
ضحك ماجلان بسخرية وقال: أتعتقدين أن الكاهنة ساري بتلك السذاجة ؟ لوحت بسبابته أمام وجهه وقالت بتحدي: فلنجرب أولا وبعد ذلك نعرف إذا كانت ساذجة أم أنت؟
أغمضت عينيها بقوة،كمحاولة منها للتركيز على فكرة واحدة، وهى التحرر من اللوحة،كان ماجلان يكتم ضحكاته بصعوبة عاقدا ذراعيه المفتولتين أمام ص*ره،فجأة انطلقت منه جملة: لقد نجحنا وتحررنا،ففتحت أوسان عينيها بسرعة وقالت بفرح :حقا !
فوجدت نفسها في أحضانه،وقد التف ذراعيه حول خصرها،فثارت غضبتها ثم دفعته بعيدا،نظرت حولها لتتأكد من تحررها أم لا؟ فارتسمت على ملامحها الجميلة الخيبة واليأس.
تن*دت في يأس وقالت بصوت مبحوح :أنا الساذجة وليس أنت ثم انحدرت دموع حارة كانت تحرق خديها الجميلين. شعر ماجلان بالأسف تجاهها فاقترب منها ثم ربت على كتفها وقال : لاتحزني سنجد سبيلا للتحرر ثم أمسك يدها وضغط برفق وقال: تأكدي من ذلك.
لأول مر يغمر أوسان شعورا بالضعف وقلة الحيلة منذ أن توفى والديها، فكانت القوية التي لا تنفك أن تتخطى أى عقبات وتحديات تطرأ على حياتها ولكن هذه المرة كانت الأقدار قد سجنتها بكل ضعفها مع آخر شخص تود أن تمكث معه ولو قليل من الوقت فما بالك بنهاية عمرها.
استسلمت لضعفها لأول مرة ودفنت رأسها في حضن زوجها ماجلان وكان البكاء كالجواد البرى بلا لجام.
لأول مرة يشعر ماجلان بالمسئولية تجاه شخص ما،انتابه احساس لم يعهده قلبه من قبل،احساس الجندي المحارب الذي أخذ على عاتقه حماية الوطن،فشعر أنها كل وطنه وعليه حمايتها من كل شىء وأول شىء وحدتها.
قرر حمايتها من العدو الأول لهما،وهو الشعور بأنهما سجناء تلك اللوحة،كان يعلم جيدا أن الشعور بأنك مسجون شيئا يقهر أى شخص حتى لو كان يبدو صلبا‘فالحرية فطرة يسعى لها كل انسان.
كان يعلم جيدا أن السجن الحقيقي هو أن يُسجن الإنسان مع مخاوفه وذكرياته الحزينة،أن يُسجن مع خيباته،وأن يُسجن مع من لا يحب.
رغم أن ماجلان شابا لعوبا إلا أن بداخله فطرة تفهم جيدا ما يشعر به الآخرون،لذا تفهم ضيق أوسان من تلك الزيجة ،كما أدرك أن الفوز بثقتها لأمر صعب جدا خاصة، وهى تعلم ماضيه مع فتيات الممالك الأخرى.
لكى تشعر معه بالحرية عليه أن يكتسب ثقتها أولا وأنه قادر على حمايتها وعلى تذليل كل ال*قبات لإراحتها.
عجيب أمر الحب عندما تسلل لقلب ماجلان بدأ تفكيره يتغير شيئا فشيئا، حتى أنه لم يرَ سواها دون نفسه التي كانت محط اهتمامه فقط ولا يأبه لأحد في عالمه.
كان هذا الحب دفينا منذ الطفولة، ولكنه لم يجد البيئة المناسبة التي تساعده على النهوض كالعنقاء مرة أخرى.
فالحب كالعنقاء أسطوري ولكنه موجود، حتى لو لم نعترف به ،فهو تلك الروح التي تحلق بداخلنا مع أرواحنا الأولى التي منحتنا الحياة أول مرة.
لكن روح الحب تَهِبُ الحياة للإنسان ألف مرة، إذا احتضنها بص*رٍ مُرَحِبٍ كلما حلقت داخل أروقة قلبه.
هدأت نفس أوسان بعد ما أفرغت شحنة حزنها وغضبها وضعفها باحتضان ماجلان لها.
أجلسها في وسط اللوحة ثم جلسها جوارها مشبكا أصابع يديه أمامه وهو يجلس الق*فصاء.
حدجته بنظرة ناري فجأة وقالت بلهجة مغتاظة تملؤها الغيرة: يبدو أنك بارع في مواساة الفتيات. نطر لها ثم ابتسم وضحك ضحكات قصيرة فقد فهم المغزى من جملتها تلك فلم يعلق.
"والآن ماذا نحن فاعلون؟" قالتها باهتمام وجدية ،تن*د ثم مط شفتيه وهز كتفيه بلا مبالاة وقال:لا شىء سوى الانتظار للصباح والاستسلام للنوم،ننتظر حتى نرى ماذا تخبىء لنا الأقدار ثم **ت هنيهنة ثم أردف بسخرية أو ما تخبئه لنا الكاهنة ساري من تأديبٍ لنا.
هزت كتفيها بلامبالاة بدورها وتن*د بيأس ثم قالت: ليس علينا سوى الانتظار ثم تثاءبت ونظرت حولها تبحث عن مكان يصلح للنوم ولكن ماجلان أطلق صفيرا مميزا مما لفت انتباهها ثم أشار لها بحركة مسرحية .
وقال لها :أميرتي يمكنها النوم على هذا الفراش الوثير، ضحكت وقالت :فكرت فيه أيضا. هز رأسه بالموافقة ثم نامت فوقه وتغطت بلحاف فستقي اللون مزدان بزهور بابرينكا المنتشرة في عالمهما.
نهضت فجأة وسألته باهتمام: وأنت أين ستنام؟ أشار لركن اللوحة الأيمن وقال: هناك تحت شجرة الماند*كا.
تن*دت وقالت :حسنا نوما هنيئا. اتجه لركن اللوحة وافترش تحتها فراشا وثيرا قد فكر فيه لتوها.
تملمت أوسان في الفراش ولم تتمكن من النوم رغم أنها تعودت النوم بمفردها إلا أنها في تلك الليلة شعرت برغبة عارمة في مشاركة ماجلان لفراشها حتى تطمئن وتشعر بالأمن.
نزلت من الفراش وتحركت تجاهه ثم نامت جوارها تحت الشجرة لتنعم بالأمن ،شعر بوجودها فمد اللحاف ليغطيها،فارتسمت على وجها ابتسامة رضا وطمأنينة فقدتها منذ وفاة والديها.
كان القمر بدرا يرسل ضوؤه الفضي حولهما،فقالت :حتى القمر صنعته أيضا،ضحك وقال: لا هذا القمر من خارج اللوحة،يبدو أننا متصلين بالعالم الخارجي بطريقة ما.
تثاءبت بقوة ثم قالت: فلنكتشف ذلك غدا،تصبح على خير ثم أسبلت جفنيها واستسلمت لنوم عميق مريح مُطْمَئِن.