في وقت العشاء ، كنت أول الجالسين حول المائدة فقد كنت جائعا ، و لم أكن قد تناولت أي وجبة رئيسية لهذا اليوم .
الكرسي المجاور لي هو الكرسي الذي تجلس عليه صغيرتي بريتا عادة و كنت أساعدها في تناول الطعام دائما
اجتمع أفراد أسرتي حول المائدة ، إلا أن الكرسي المجاور ظل شاغرا !
" أين بريتا ؟؟ "
وجهت سؤالي إلى والدتي ، فأجابت :
" أصرت على الذهاب مع خالتها و بما أن الغد هو يوم جمعة تركتها تذهب لتبات عندهم ! "
اندهشت ، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا ... لطالما كانت الخالة تزورنا فلماذا تصر على الذهاب معها اليوم و اليوم فقط ؟؟
لقد فقدت شهيتي للطعام ، و لم أتناول منه إلا اليسير ...
مساء الجمعة ذهبت مع أبي لإحضار بريتا من بيت خالتها
دخلت أنا للمنزل فيما ظل والدي ينتظر في السيارة
لقد كان الأطفال ، بريتا و روشني و أمان ، يلعبون ببعض الأل**ب في إحدى الغرف عندما رأوني توقفوا عن اللعب ، و اخذوا يحدقون بي !
هل أبدو مرعبا ؟؟
ربما لأنني طويل و ضخم البنية نوعا ما !
ابتسمت لهذه المخلوقات الصغيرة ثم قلت :
" مرحبا أعزائي ! ألم تكتفوا من اللعب ! "
لم يبتسم أي منهم أو يحرك ساكنا !
وجهت نظري إلى صغيرتي بريتا ، و قلت أخاطبها :
" صغيرتي الحلوة ! حان وقت العودة إلى البيت "
" لا أريد "
كانت أول جملة تنطق بها بريتا ! إنها لا تريد العودة للبيت !
" ماذا بريتا ؟ يجب أن نعود الآن فغدا ستذهبين إلى المدرسة ! "
" سأبقى هنا "
" بريتا ! سوف نأتي بك إلى هنا لتلعبي كل يوم إن أردت ! هيا فوالدنا ينتظر في السيارة "
لم يبد ُ أنها عازمة على النهوض .
و الآن ؟؟ ماذا أفعل مع هذه الصغيرة ؟؟
كيف يجب أن يكون التصرف السليم ؟؟
تدخلت أم أمان قائلة :
" بنيتي بريتا ، غدا سيحضرك كاران إلى هنا من جديد . و كل يوم إذا أردت اللعب مع روشني فتعالي و أحضري أل**بك أيضا "
" لا أريد "
ثم بدأت بالبكاء ...
ربما تظن خالتها أننا نسيء إليها بشكل ما !
ماذا جرى لهذه الصغيرة ؟ لماذا أصبحت لا تريد الاقتراب مني ؟ أكل هذا لأنني أخرجتها من غرفتي بقسوة تلك الليلة ؟ أم أمان أخذت تمسح على رأس الصغيرة و تهدئها و تكرر
" غدا سيحضرك كاران إلى هنا عزيزتي "
قلت ، محاولا إغراءها بالحضور بأي طريقة :
" سنمر بمحل البوضا و نشتري لك النوع الذي تحبين ! "
يبدو أن الفكرة أعجبتها ، فتوقفت عن البكاء و آخذت تنظر إلي ...
قالت خالتها مشجعة :
" هيا بنيتي ، و عندما تأتين غدا سنشتري لك و لروشني و أمان المزيد من البوضا و الأل**ب "
و أخذت تقربها نحوي حتى صارت أمامي مباشرة
رفعت بريتا رأسها الصغير و نظرت إلي
إنها نظرة لا أستطيع نسيانها ما حييت ...
كأنها تعاتبني على قسوتي معها ... و تقول ... خذلتني !
مددت يدي و رفعت الصغيرة عن الأرض و ضممتها إلى ص*ري و قبلت جبينها
كيف لي أن أعتذر ؟
إنها اليتيمة التي و لو بذلت الدنيا كلها لأجلها ، ما عوضتها عن لحظة واحدة تقضيها في حضن أمها أو أبيها ...
قلت :
" ماذا تودين بعد ؟ لعبة جديدة أم دفتر تلوين جديد ؟ "
قالت :
" أريد لعبة و أريد دفترا "
قلت :
" يا لك من سيدة طماعة ! حاضر ! كما تأمرين سيدتي ! "
فابتسمت لي أخيرا ...
شعرت بشيء ما يحرك بنطالي ...
نظرت إلى الأسفل فإذا بها روشني تمسك ببنطالي و تهزه ، ثم تقول :
" احملني ! "
نظرت إليها بدهشة و استغراب !
" بريتا تقول أنك قوي جدا و كنت تحملها مع شريستي سوية "
ربّاه !!
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
في تلك الليلة ، جعلت بريتا تنام على سريري للمرة الأخيرة ... و لونت معها كثيرا و قرأت لها أكثر من قصة ، و طبعا اشتريت لها أكثر من لعبة و أكثر من دفتر تلوين إضافة إلى البوضا ! ربما كانت هذه طريقتي في الاعتذار ! إن كنت أدلل صغيرتي كثيرا فهذا لأنني أحبها كثيرا ... و هي نائمة على سريري بسلام ، أخذت أتأملها بعطف و محبة ... كم هي رائعة ! و كم أنا متعلق بها ! كم يبدو هذا جنونا ! ذهبت إلى حيث وضعت صندوق الأماني ، فأخذته و جعلت أنظر إليه بحدة كم تمنيت لو أن بصري يخترق الصندوق إلى ما بداخله ! ليتني أعرف ... الاسم الذي تلا هذه الجملة
( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟ )
عندما تكبرين يا بريتا ...
فقط عندما تكبرين ....
فإنني ...
~ ~ ~ ~ ~ ~
في أحد الأيام ، قررنا تناول بعض المشويات في المنزل
في حديقة المنزل أعد والدي ما يلزم و أشعل الفحم
كان يوما جميلا ، و كنا مسرورين لهذه ( النزهة المنزلية ) التي قلما تحدث
الأطفال ، سميرـ إن كنت أعتبره طفلا ـ و شريستي و بريتا كانوا يتجولون هنا و هناك سمير مهووس بدراجته الهوائية و التي لا يتوقف عن قيادتها و العناية بها في جميع أوقات فراغه ، و بريتا تهوى كثيرا الركوب معه ، و قد تعلمت كيف تقودها بنفسها كانت تقود الدراجة فيما يجلس سمير على المقعد الحفي ، و كانت تترنح ذات اليمين و ذات الشمال و تسقط بالدراجة من حين لآخر ألا أنها كانت سقطات خفيفة غير مؤذية ، يستمتعان بها و يضحكان مرحين ! شريستي كانت تساعد أمي في إعداد اللحم ، فيما والدي يهف الجمر فيزيده اشتعالا كنت أنا أراقب الجميع في صمت و برود ظاهري ، بينما أشعر بشيء يتحرك و يشتعل في ص*ري مثل ذلك الجمر ... لا أعرف ما يكون ...؟؟
ذهب والدي لإحضار شيء ما ... و ابتعاده عن الجمر أعطاني مجالا أوسع لأراقب اشتعاله و تأججه ... و جحيمه !
إن عيني ّ كانتا تتنقلان بين بريتا و سمير على الدراجة ، و بين الجمر المتقد ...
ثم شردت ...
فجأة ... ترنحت الدراجة و هي تسير بسرعة ، تقودها بريتا الصغيرة ، و قبل أن يتمكن سمير من إيقافها ارتطمت بشيء فسقطت ...
كان يمكن لهذه السقطة أن تكون عادية **ابقاتها لو أن الشيء الذي ارتطمت الدراجة به لم يكن صينية الجمر المتقد ....
تعالت الأصوات و انطلق الصراخ القوي يزلزل الأجواء ...
ركضنا جميعا نحو الاثنين بفزع ...
والدتي تولول ، و شريستي تصرخ ... و بريتا تصرخ ... و سمير يتخبط مستنجدا ... صارخا ... من فرط الألم ...
جمرة واحدة أصابت بريتا بحرق في ذراعها الأيسر ...
أما سمير ...
فقد انتهى بوجه مشوه مخيف ، و جفن منكمش يجعل العين اليمنى نصف مغلقة ... مدى الحياة ...
لقد كان حادثا سيئا جدا ... و انتهى يومنا الجميل بندبة لا تمحى ...
و رغم العمليات التي خضع لها ، ألا أن وجه سمير ظل يحمل أثر الحادثة المشؤومة إلى الأبد
بريتا و التي خرجت من الحادث بأثر حرق واحد في الذراع ، خرجت منه بآثار عميقة لا تمحى في الذاكرة و القلب
أما شريستي ، فقد غرست في نفس بريتا الاعتقاد الأكيد بأنها السبب فيما حدث لسمير لأنها من كان يقود الدراجة وقتها
بريتا أصبحت مرعوبة فزعة متوترة معظم الأوقات ... و أصبحت تخشى النوم بمفردها و تصر على أن أبقى إلى جانبها حتى تدخل عالم النوم ، و كثيرا ما كانت تستيقظ فزعة من النوم في أوائل الأيام ... و تركض إلي ...
و المرة التي كنت أعتقد أنها الأخيرة ، تلتها مرات أخرى ، نامت فيها الصغيرة في غرفتي ... طالبة الأمان و الطمأنينة ...
" كاران أنا خائفة ... النار مؤلمة ... "
" كاران لن أركب الدراجة ثانية ً ... "
" كاران لا أريد أن أبقى وحدي ... الجمر يلاحقني ... "
" كاران ... عندما أكبر سأصبح طبيبة و أعالج سمير " !
و في إحدى تلك المرات ، كتبت إحدى أمانيها و أدخلتها في ذلك الصندوق !
و هذه المرة لم تسألني عن أية كلمة ...
لكنني أكاد أجزم بأنها كتبت :
( يا رب اشف سمير ) !
توالت الأيام و الشهور ... و تأقلم الجميع مع ما حدث ، و سمير اعتاد رؤية وجهه المشوه في المرآة و تقبله ، و استسلم الجميع إلى أنها حادثة قضاء و قدر ...
أما أنا ...
فأشك في أن شيطانا قد خرج من ص*ري و قاد الدراجة نحو الجمر المتقد ... و احرق سمير و بريتا بنار كانت في ص*ري ...
و لم تزد النار ص*ري إلا اشتعالا
و لم تزد الحادثة الاثنين إلا اقترابا ...
و لم تزدني الأيام إلا تعلقا و تشبثا و جنونا ببريتا ....