الحلقة الثانية (سر هدية أبي)

1769 Words
قامت الشرطة بالحضور وإبعاد الناس المجتمعين، وقامت مؤسسة البحث الجنائي برفع الأدلة في دقائق، وتشريح الجثة إشعاعيًا عن طريق إدخال أشعة خاصة لداخل وخارج الجثة مما يكشف عن كل المعلومات التي كان يحصل عليها قديمًا بالتشريح الطبي، وقاموا بتطويق المكان برجال الأمن وإصدار الأمر بفتح حاجز الموجات المتدفقة لكامل المدينة؛ مما يؤدي لعزلها فلا يستطيع أن يدخل أحد أو أن يخرج بأي طريقة كانت، مما يعني أن القتلة قد تم احتجازهم داخل المدينة، وبدأ المحققون المستقلون عن مؤسسات الدولة لضمان نزاهتهم، بدءوا في سؤالهم الأسئلة المعتادة عن شكوكنا في الفاعل، ومن يمكن أن يفعل ذلك، ولماذا؟ وهل سرق شيء من البيت؟ كان ذلك في حضور نيرة وجمع من الناس من جيراننا، أخبرناهم بعد تفكير ونظرات متبادلة بيننا بكل ما نعلمه، كنا نظن أن حضور الناس سيدعمنا، لكن صدقنا البعض وظن البعض أن هذا مجرد جنون، أو أنه مجرد خيال، فربما القتل كان بسبب السرقة كما بدا علي مظهر البيت، والحقيقة أن المجنون من ينتظر الناس ليساعدوه أو يصدقوه، فالناس أواني فخارية كل ينضح بما فيه، ومن هذا النضوح يتضح الشر الذي يسكن هذه الأجساد من حقد وكراهية وحب للذات، وربما أكون مخطئًا فقد تكون وجوههم التي لا أري فيها أي معلمًا للحزن علي صديقهم وجارهم هو أمر طبيعي، لعل بسمة البعض وسخريته التي تطعنني بالسكين هي حدث عادي، لعل كلامهم وهمسهم دون احترام لهذه اللحظة هو مجرد غرق في الدنيا التي ينجرفون معها، لعل قلوبهم ماتت فما عادت تفرق بين الحزن والفرح، أو أنهم تخلوا عن أخلاقهم وإنسانيتهم واستبدلوها بالجفاء والجلد فصاروا تماثيل لا يسمعون ولا يبصرون ومع ذلك يتكلمون رغم أنهم لا يعقلون. طلبت نيرة من الشرطة تعيين حراسة علينا وعلي البيت فهي تشعر بالخوف، بدت شابة قوية لم ألحظ فيها ذلك من قبل، لا أعلم ما الذي مرت به، وما الذي أ**بها تلك القوة والشجاعة. وما حدث بعد ذلك بمدة قصيرة هو استجابة الشرطة لطلبها لكن فقط إلي حين انتهاء التحقيق، قامت الشرطة بتعيين دورية آلية كانت أجسادهم بيضاوية، يسيرون بلا أقدام بقوة الجاذبية، يدهم تتكون من قيد يتحكمون فيه ويمكن مد تلك اليد للقبض علي اللصوص، كما تحتوي اليد الأخرى علي عدة أسلحة منها إطلاق أسهم م**رة وأحماض مصهرة وسلاح ليزري حارق، كما أن لدي هذه الروبوتات عيون حمراء (كاميرات) تتمكن بها من المراقبة ونقل الصورة للقسم، كما يمكنها الرؤية بها بعدة أشعة فتستطيع أن تري في أي ظرفًا كان؛ حتى لو غطي المكان بالضباب أو ابتلعته النيران، وجسدها مصنوع من معادن مرنة وصلبة فيكاد أن يكون من المستحيل تدميرها أو إصابتها بخدش، ويتشكل جسدها البيضاوي في هيئة لباس الشرطة وشارته، كما يحتوي علي العديد من المفاجآت بداخله. كان يرأس هذه الدورية شاب أسمر مهندب اللحية، صاحب جسد يشبه جسد المصارعين، بدوت بجانبه قصيرًا ونحيلاً وأنا صاحب الخمسة وسبعون كيلو جرام والمائة والسبعون سنتيمتر، كان واسع العينان اللتين تلونا بسواد الليل فأضفي عليه الهيبة، تقدم تجاهي في وقار، ورفع قبعته ووضعها بين يديه وهو يقول: البقاء لله، رحم الله والدك وأسكنه فسيح جناته. هززت وجهي المتألم والذي كان ينظر للأرض: لا يبقي إلا وجهه. وضع يده علي كتفي وقال: أعلم مصيبتك، لكن عليك أن تكون رجلأ، لا تدع حق أباك يذهب هدرًا، ولا تعتقد أنك وحدك؛ فمن اليوم اعلم أن لك أخ أكبر اسمه ظاهر، نظرت له نظرة إعجاب، فكلماته حقًا مواسية ومناسبة كأنها طرقت قلبي ففتح الباب لوده وتقبله، لم أحتج لقول المزيد من الكلمات فقد احتضنني وكان حضنه ما أحتاجه، كان كمن أرسله الله لي هدية يعوضني بها عن فقدان أحبائي، حضنه أعلمني أنه حقًا يشعر بحالي، شعرت أنه أخي حقًا، تلاقت دقات قلوبنا لتخط بيننا السير في نفس المصير، رفعت وجهي وقلت له وأنا أود أن تكون أخي. ابتسم بسمة الراضي، كان ضابطًا برتبة إنسان. اطمأننت له وبدأت حكي كل ما حدث لي، بدا يصدقني وقال لي: سأحميك بحياتي، وسنظل وراء هؤلاء المجرمين حتى يدفعوا الثمن، والآن يجب أن نذهب فقد انتهي التحقيق وعلينا تحضير أباك للصلاة. غسلت جسد أبي الطاهر بيدي، شممت رائحة تنبعث منه كأنه مسك الجنان قد غلفه، لا أتعجب فقد قضي عمره بين العمل والعبادة، حتى عمله كان عبادته الكبرى التي تقرب بها إلي الله، كان يخترع لأجل الناس وتسهيل حياتهم، كانت سعادته في سعادة من حوله وفي الاختراع؛ حتى عندما أراد الزواج تزوج مخترعة، كفنت أبي وأحطته بملابسه التي غرقت في دماءه لتكون شاهدة له أمام الله، علي إنه مات مظلومًا ولم يكن في حياته ظالما. وقفت أمام الله أصلي، كانت تأتيني صورة لطيف أبي مبتسمًا أمامي، لا أعلم إن كنت قد رأيتها بعيني أم رأيتها بقلبي، كان يرتدي ثيابًا بيضاء تكاد تضيء، قذف بنور ناحيتي، أحسست أن قلبي المحترق الذي يتقلب في العذاب قد أنقذ وأن روحي قد سكنت، وتذكرت كلمات أبي عن الشهادة، وعن أن أمنيته الكبرى أن يتقبله الله شهيدًا، وآيات القرآن وأحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم التي جاءت في فضل الشهادة، دعوت من كل قلبي أن يتقبله الله شهيدًا كما كان يتمني. وقفت أتلقي العزاء في دار مناسبات بالقرب من منزلنا، كنت في واجهتها أرحب بالمعزين نتبادل كلمات العزاء، لمحت رجلاً لم أعرفه، تقدم نحوي وقال بعينين يلمعان بالخبث ويتقدان بالشر: ربنا يرحمه، كان حمار ولو لم تنفذ ما نأمرك به سوف نرسلك إليه. ارتعش جسدي وانتفض فيه ألف شعور كل منهم يتسارع، الغضب في أوُجه أكاد أنفجر منه، الكراهية تجاه هذا الشخص، الوحدة التي أنا فيها، الخوف والانتقام كلهم يمتزجون في قبضة يدي التي بدأت في التكور، ويتلونون بوجهي ونظراتي التي ألقت الخوف في وجه هذا الحقير الذي حاول إخفاءه بتلك البسمة التي جعلتني لا أتمالك نفسي؛ فأوجه له لكمة كانت كحربة اخترقته فأصابت وجهه لتتناثر منها حطام أسنانه، انقضضت عليه وأخذت أوجه لكمة فأخري، كاد أن يلفظ آخر أنفاسه لولا أن مجموعة من رجال الشرطة ومن بينهم ظاهر قد أمسكوا بي، أخبرتهم وأنا في لحظة غضب أنه من قتل والدي، تركوني وقد كان هذا الشخص غير قادر علي الوقوف، فحمله الضابط بأشعة الاحتجاز: وهي أشعة ليزرية تستطيع حمل الأشياء ونقلها واحتجازها، ثم ألقي به في عربة الشرطة. كان الجميع قد سمع صرخات الرجل فأتت نيرة إليّ من مكان عزاء السيدات بوجه باهت تملكه الهلع، تنفست الصعداء عندما وجدتني بخير. ربت ظاهر علي ظهري وقال: هون عليك، لكن هل أنت متأكد من أن هذا الرجل هو من قتل والدك. قت له متعجبًا: ماذا تعني؟ فرد: أعني أن هذا الشخص غير طبيعي، لم يمر وقت علي الحادثة، يأتي بأقدامه إلي هنا وهو يعلم بوجود الشرطة، هناك أمر غير طبيعي في هذا الموضوع. يأتي شرطي ويهمس في أذن ظاهر، يهز ظاهر رأسه ويبدوا أنه سمع منه أمر هام، يأمره بالانصراف ويقول لي: اتبعني. تبعته أنا ونيرة، ذهب للسيارة التي احتجز فيها الرجل بدا هادئا ووديعًا وكأنه شخص مختلف، وكأن هالة الشر حوله قد اندثرت أو أن الشبح الذي كان بداخله قد طرد. قال الرجل بنبرة وديعة وهادئة: من أنتم؟ ولما أنا هنا؟ ولماذا أشعر بهذا الألم؟ نظرنا جميعًا لبعضنا متحيرين، أحضر شرطي لظاهر رقاقة إلكترونية مختلطة بالدماء ومعها تقرير إلكتروني، قام بقراءته بسرعة ثم قال ظاهر: هذا ما اعتقدته، يبدوا أنك عندما ض*بته قد حطمت تلك الرقاقة وأوقفتها عن العمل، وعندما تم فحصه كإجراء روتيني عثرنا عليها وأخرجناها من جسده، ومن تحليلها تبين أنها رقاقة للتحكم في البشر عن بعد وغسل أدمغتهم بحيث يصيرون كالدمى في يد من يتحكم بهم. تعجب فجأة وصرخ بهيستيريا هيا أسرعوا فلتحضروا طبيبًا. بدأ ظاهر في الصراخ فزعًا، أمرنا بالرجوع للخلف بسرعة، وبعد لحظة من السكون انفجر جسد الرجل كبالون، قذف الدماء في كل مكان، صرخت نيرة، نظرت لظاهر الذي بلع ريقه وهو يقول: يبدوا أنه تم شحن خلاياه، أسلوب حديث للاغتيال الوقتي، يؤدي بالخلايا للانتفاخ تدريجيًا بعد مدة محددة من تفعيله مما يؤدي إلي ما حدث أمامك. تابع كلامه: يبدوا أننا نتعامل مع أمر أكبر مما نتخيل، حقًا أنتم لستم في أمان، يبدوا أن إحاطة المدينة ليست إحاطة لهم! بل لنا، من يمتلك تلك التقنيات يبدوا أنهم أباطرة ويجب أن نختفي عن أنظارهم إلي حين أن نعلم ماذا سنفعل حيالهم، هيا بنا من هنا، تثمرت في مكاني: حسنًا لكن هناك شيء هام عليا أن أجلبه من البيت. قال: ما الذي تنتظره، اذهب وأحضره وسوف أحمي ظهرك. أمسكت نيرة بيدي وقالت بنظرة حوتها الثقة: هيا بنا. تحركنا ودخلنا البيت، أزلنا الأنقاض التي ملئت البيت في طريقنا، غرض وراء آخر محطم، وإن كان كذلك فقد بقي صامدًا في ذاكرتي إلي أن فتحت باب غرفتي. لمست براحة يدي الحائط، بدأ في التحرك بشكل دوامي بداخله حجرة تشبه الخزنة، كانت هدية أمي إليّ، اختراع أول نسخة منه لي، قالت أنه موضع ساكن وآمن في بعد تستطيع فتحه من خلال ب**تك وحمضك النووي الذي سيقرأه من خلال امتصاص عرقك، يمكنك أن تضع أي شيء فيه وسيكون بأمان، ولن يكون بإمكان أي شخص أن يحصل عليه إلا بإرادتك فهو يقرأ الموجات والمشاعر وهذا ما حدث، فقد خبأت فيه هدية أبي الذي أمرني بأن أحافظ عليها وأخبأها ولا أفتحها إلا عندما يحدث شيء له، أو حتى أبلغ خمسة وعشرون عامًا لكن الأولي هي ما حدث. أخرجت صندوق معدني من الغرفة ذات البعد الآخر، وبمجرد إخراجه تم إغلاق ذلك البعد، كان الصندوق أحد اختراعات أبي، كان مصنوع من معادن خاصة فريدة، يمكن أن ينجو من انفجارات نووية، ومن مليون صاروخ مهمتهم استهدافه، وكان يحتوي علي جزء بلوري كروي يضيء بألوان زاهية كأنها حية تستمر في التحرك، وبرغم طلب أبي مني عدم فتحه إلا أن الفضول جعلني أحاول عدة محاولات باءت بالفشل، وعندما خارت قواي وأدركت عدم قدرتي علي فتحه وضعته في غرفة الأبعاد. لكن عندما أخرجته منها كان مفتوحًا وقد اختفت ألوانه وانتهت حركتها، يبدوا أن قفله كان مرتبط بحياة والدي وبانتهائها انتهي مفعول القفل، رحمك الله يا والدي. فتحت الصندوق وبدأت أنظر في محتوياته، كان أولها شريحة عقلية متطورة بمجرد أن وضعتها بجوار عقلي قامت بالتحلل وجعل عقلي يمتصها، كانت شريحة فائقة الذكاء، عادة للتكون داخل عقلي واتصلت عصبيًا به لترسل المعلومات، بدأت أسمع صوت داخل عقلي يقول: أنا علم، هذا اسمي، وظيفتي هي إرشادك، ما حدث للتو هو اتصالي بك، يكفي أن تفكر في شيء لكي أجيبك عنه، وقد كنت من قبل في عقل والدك ونقل لي كل ما في عقله وما يعلمه وما أرادك أنت أيضًا أن تعلمه. كنت غير مصدق نفسي، فتلك التقنية تفوقت بمراحل علي تقنية السوار الذكي، وعلي شرائح الهاتف التي كانت تلصق أو يتم إضافتها للجسد عن طريق عملية جراحية، تابعت كلامها داخل عقلي: مهمتي الأولي والتي يجب إنهائها هي تعريفك بمحتويات صندوق الأمان. أخرجت سوارًا كان للمع** كاملاً قالت علم: هذا السوار هو تحديث للتقنية التي اخترعها زهير الملقب بالعبقري، فهو يمكنك من الانتقال المكاني لأي موضع في العالم. تبادلنا أنا ونيرة نظرات الدهشة عندما أخبرتها بصدق حدسها، وأن أبي هو صاحب اختراع النقل المكاني، وهذا السوار هو تحديث له، شعرت بسعادة وحزن في الوقت ذاته. قالت علم: لا تحزن فوالدك لم يرد أن يخبرك حتى لا يعرضك للخطر، كما أنه تبرع بنصف أموال ذلك الاختراع إلي الفقراء، والنصف الآخر أنفقه علي اختراع أكثر أهمية. تعجبت أن هناك سواران، يبدوا أنه كان واحدًا لي والآخر لأمي فربما يذهب كل منا لمكان، قالت علم: يمكن للسوار نقل أي مجموع من البشر والأشياء ما دامت متصلة، قالت نيرة بعدما أخبرتها بما يجري وهي تحمل السوار: حقًا والدك عبقري رحمه الله، كيف اخترع تلك التقنية، وكيف استطاع تحويل اختراع بحجم غرفة من الأسلاك والمعادن والطاقة الهائلة إلي مجرد هذا الشيء البسيط.
Free reading for new users
Scan code to download app
Facebookexpand_more
  • author-avatar
    Writer
  • chap_listContents
  • likeADD